الباحث القرآني

والمَقْصُودُ مِنَ الرِّسالَةِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿أنْ﴾ أيْ: نَذِيرٌ لِأجْلِ أنْ ﴿لا تَعْبُدُوا﴾ أيْ: شَيْئًا أصْلًا ﴿إلا اللَّهَ﴾ أيِ المَلِكَ الأعْظَمَ و[مَعْنى النِّذارَةِ] قَوْلُهُ: ﴿إنِّي أخافُ عَلَيْكُمْ﴾ وعِظَمَ العَذابِ المُحَذَّرِ مِنهُ بِقَوْلِهِ: ﴿عَذابَ يَوْمٍ ألِيمٍ﴾ وإذا كانَ اليَوْمُ مُؤْلِمًا فَما الظَّنُّ بِما فِيهِ مِنَ العَذابِ! فَهو إسْنادٌ مَجازِيٌّ مِثْلَ: نَهارُهُ صائِمٌ، ولَمْ يَذْكُرْ بِشارَةً (p-٢٦٩)كَما تَقَدَّمَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّنِي لَكم مِنهُ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ﴾ [هود: ٢] إرْشادًا إلى ما سِيقَتْ لَهُ القِصَّةُ مِن تَقْرِيرِ مَعْنى: ﴿إنَّما أنْتَ نَذِيرٌ﴾ [هود: ١٢] ولِذَلِكَ صَرَّحَ بِالألَمِ بِخِلافِ الأعْرافِ، وكَذا ما أُمِرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ أوَّلَ هَذِهِ مِن عَذابِ يَوْمٍ كَبِيرٍ، وهُما مُتَقارِبانِ؛ ثُمَّ ساقَ سُبْحانَهُ جَوابَ قَوْمِهِ عَلى وجْهٍ هو في غايَةِ التَّسْلِيَةِ والمُناسَبَةِ لِلسِّياقِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَقالَ﴾ أيْ: فَتَسَبَّبَ عَنْ هَذا النُّصْحِ العَظِيمِ أنْ قالَ؛ ولَمّا كانَ هَذا بَعْدَ أنْ تَبِعَهُ بَعْضُهم قالَ: ﴿المَلأُ﴾ وبَيَّنَ أنَّ الجِدالَ مَعَ الضَّلالِ بَعْدَ أنْ بَيَّنَ أنَّهم هُمُ الأشْرافُ زِيادَةً في التَّسْلِيَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وبَيَّنَ أنَّهُمُ أقارِبُ أعِزَّةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن قَوْمِهِ﴾ أيِ الَّذِينَ هم في غايَةِ القُوَّةِ لِما يُرِيدُونَ مُحاوَلَةَ القِيامِ بِهِ ﴿ما نَراكَ﴾ أيْ: شَيْئًا مِنَ الأشْياءِ ﴿إلا بَشَرًا﴾ أيْ آدَمِيًّا ﴿مِثْلَنا﴾ أيْ: في مُطْلَقِ البَشَرِيَّةِ، لَسْتَ بِمَلَكٍ تَصْلُحُ لِما لا تَصْلُحُ لَهُ مِنَ الرِّسالَةِ، وهَذا قَوْلُ البَراهِمَةِ، وهو مَنعُ نُبُوَّةِ البَشَرِ عَلى الإطْلاقِ، وهو قَوْلُ مَن يَحْسُدُ عَلى فَضْلِ اللَّهِ ويَعْمى عَنْ جَلِيِّ حِكْمَتِهِ فَيَمْنَعُ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ بَشَرًا ويَجْعَلُ الإلَهَ حَجَرًا. ولَمّا كانَتِ العَظَمَةُ عِنْدَهم مُنْحَصِرَةً في عَظَمَةِ الأتْباعِ قالُوا: ﴿وما نَراكَ﴾ ولَمّا نَفَوُا الرُّؤْيَةَ عَنْهُ فَتَشَوَّفَ السّامِعُ إلى ما يَقَعُ عَلَيْهِ مِنَ المَعانِي، بَيَّنُوا أنَّ مُرادَهم رُؤْيَةُ مَنِ اتَّبَعَهُ فَقالُوا: ﴿اتَّبَعَكَ﴾ أيْ (p-٢٧٠)تَكَلَّفَ اتِّباعَكَ ﴿إلا الَّذِينَ هُمْ﴾ أيْ: خاصَّةً ﴿أراذِلُنا﴾ أيْ: كالحائِكِ ونَحْوِهِ، ولَيْسَ مِنّا رَذْلٌ غَيْرُهُمْ، وهو جَمْعُ أرْذُلٍ كَأكْلُبٍ جَمْعِ رَذْلٍ كَكَلْبٍ، والرَّذْلُ: الخَسِيسُ الدَّنِيءُ، وهَذا يَنْتِجُ أنَّهُ لَمْ يَتْبَعْكَ أحَدٌ لَهُ قَدْرٌ؛ قالُوا: و”اتَّبَعَكَ“ عامِلٌ في قَوْلِهِ: ﴿بادِيَ الرَّأْيِ﴾ وهو ظَرْفٌ أيِ اتَّبَعُوكَ بَدِيهَةً مِن غَيْرِ تَأمُّلٍ، فاتِّباعُهم لا يَدُلُّ عَلى سَدادٍ لِما اتَّبَعُوهُ مِن وجْهَيْنِ: رَذالَتُهم في أنْفُسِهِمْ، وأنَّهم لَمْ يُفَكِّرُوا فِيهِ، لَكِنْ يُضْعِفُهُ إيرادُ الِاتِّباعِ بِصِيغَةِ الِافْتِعالِ الَّتِي تَدُلُّ عَلى عِلاجٍ ومُجاذَبَةٍ، فالأحْسَنُ إسْنادُهُ - كَما قالُوهُ أيْضًا - إلى أراذِلٍ. أيْ أنَّهم بِحَيْثُ لا يَتَوَقَّفُ ناظِرُهم عِنْدَ أوَّلِ وُقُوعِ بَصَرِهِ عَلَيْهِمْ أنَّهم سَفَلَةٌ أسْقاطٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ ”بادِيَ رَأْيِكَ“ أيْ أنَّكَ تَظُنُّ أنَّهُمُ اتَّبَعُوكَ، ولَمْ يَتَّبِعُوكَ. ولَمّا كانُوا لا يَعِظُونَ إلّا بِالتَّوَسُّعِ في الدُّنْيا، قالُوا: ﴿وما نَرى لَكُمْ﴾ أيْ: لَكَ ولِمَن تَبِعَكَ ﴿عَلَيْنا﴾ وأغْرَقُوا في النَّفْيِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿مِن فَضْلٍ﴾ أيْ: شَرَفٍ ولا مالٍ، وهَذا - مَعَ ما مَضى مِن قَوْلِهِمْ - قَوْلَ مَن يَعْرِفُ الحَقَّ بِالرِّجالِ ولا يَعْرِفُ الرِّجالَ بِالحَقِّ، وذَلِكَ أنَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلى كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا بِعَظَمَةِ مُتَّبِعِهِ في الدُّنْيا، وعَلى كَوْنِهِ باطِلًا بِحَقارَتِهِ فِيها، ومَجْمُوعُ قَوْلِهِمْ يَدُلُّ عَلى أنَّهم يُرِيدُونَ: لَوْ صَحَّ كَوْنُ النُّبُوَّةِ في البَشَرِ لَكانَتْ في واحِدٍ مِمَّنْ أقَرُّوا لَهُ بِالعُلُوِّ في الأرْضِ، وعَمَلُ ﴿اتَّبَعَكَ﴾ في ﴿بادِيَ﴾ يَمْنَعُهُ تَمادِي (p-٢٧١)الِاتِّباعِ عَلى الإيمانِ، فانْتَفى الطَّعْنُ بِعَدَمِ التَّأمُّلِ ﴿بَلْ نَظُنُّكم كاذِبِينَ﴾ أيْ: لَكم هَذا الوَصْفُ لازِمًا دائِمًا لِأنَّكم لَمْ تَتَّصِفُوا بِما جَعَلْناهُ مَظِنَّةَ الِاتِّباعِ مِمّا يُوجِبُ العَظَمَةَ في القُلُوبِ والِانْقِيادَ لِلنُّفُوسِ بِالتَّقَدُّمِ في الدُّنْيا بِالمالِ والجاهِ؛ فَكانَ داؤُهم بَطَرَ الحَقِّ وغَمْطَ النّاسِ، وهو احْتِقارُهُمْ، وهَذا قَدْ سَرى إلى أكْثَرِ أهْلِ الإسْلامِ، فَصارُوا لا يُعَظِّمُونَ إلّا بِذَلِكَ، وهو أجْهَلُ الجَهْلِ لِأنَّ الرُّسُلَ أتَتْ لِلتَّزْهِيدِ في الدُّنْيا وانْظُرْ إلى رِضاهم لِأنْفُسِهِمْ بِالعُدُولِ عَنِ البَيِّنَةِ إلى اتِّباعِ الظَّنِّ ما أرْدَأهُ! وهَذا أفْظَعُ مِمّا حَكى هُنا مِن قَوْلِقُرَيْشٍ: ﴿لَوْلا أُنْـزِلَ عَلَيْهِ كَنْـزٌ أوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ﴾ [هود: ١٢] وأبْشَعُ؛ والبَشَرُ: الإنْسانُ لِظُهُورِ بَشَرَتِهِ أيْ ظاهِرِ جِلْدِهِ؛ لِأنَّ الغالِبَ عَلى غَيْرِهِ مِنَ الحَيَوانِ سَتْرُها بِالصُّوفِ أوِ الشَّعْرِ أوِ الوَبَرِ أوِ الرِّيشِ؛ والمَثَلُ: السّادُّ مَسَدَّ غَيْرِهِ في الحِسِّ بِمَعْنى أنَّهُ لَوْ ظَهَرَ لِلْمُشاهَدَةِ لَسَدَّ مَسَدَّهُ؛ والرَّذْلُ: الحَقِيرُ بِما عَلَيْهِ مِن صِفاتِ النَّقْصِ وجَمْعِهِ؛ والفَضْلُ: الزِّيادَةُ مِنَ الخَيْرِ، والإفْضالُ: مُضاعَفَةُ الخَيْرِ الَّتِي تُوجِبُ الشُّكْرَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب