الباحث القرآني

ولَمّا ثَبَتَ أنَّهم لا سَمْعَ ولا بَصَرَ، ثَبَتَ أنَّهم لا شَيْءَ فَقالَ: ﴿أُولَئِكَ﴾ أيِ البُعَداءُ البُغَضاءُ ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ أيْ: بِتَضْيِيعِ الفِطْرَةِ الأُولى الَّتِي [هِيَ] سُهُولَةُ الِانْقِيادِ لِلْخَيْرِ وصُعُوبَةُ الِانْقِيادِ لِلشَّرِّ؛ ولَمّا كانَ العاجِزُ رُبَّما نَفَعَهُ مَن كانَ يَخْدِمُهُ فَيُكْسِبُهُ قُوَّةً بَعْدَ الضَّعْفِ ونَشاطًا بَعْدَ العَجْزِ، نَفى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عائِدًا إلى نَفْيِ النَّفْعِ مِمَّنْ عَذَرَهم أوَّلًا (p-٢٥٩)عَلى أحْسَنِ وجْهٍ: ﴿وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا﴾ أيْ: كَوْنًا جُبِلُوا عَلَيْهِ فَصارُوا لا يَنْفَكُّونَ عَنْهُ ﴿يَفْتَرُونَ﴾ أيْ: يَتَعَمَّدُونَ كَذِبَهُ مِمّا ادَّعَوْا كَوْنَهم آلِهَةً، ولا شَكَّ أنَّ مَن خَسِرَ نَفْسَهُ ومَن خَسِرَها مِن أجْلِهِ بِادِّعاءِ أنَّهُ شَرِيكٌ لِخالِقِهِ ونَحْوَ ذَلِكَ كانَ أخْسَرَ النّاسِ، فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿لا جَرَمَ﴾ أيْ: لا شَكَّ ﴿أنَّهُمْ﴾ أيْ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ بالَغُوا في إنْكارِ الآخِرَةِ ﴿فِي الآخِرَةِ﴾ ولَمّا كانَ المَقامُ جَدِيرًا بِالمُبالَغَةِ في وصْفِهِمْ بِالخَسارَةِ، أعادَ الضَّمِيرَ فَقالَ: ﴿هُمُ﴾ أيْ: خاصَّةً ﴿الأخْسَرُونَ﴾ أيِ الأكْثَرُونَ خُسْرانًا مِن كُلِّ مَن يُمْكِنُ وصْفُهُ بِالخُسْرانِ؛ والإعْجازُ: الِامْتِناعُ مِنَ المُرادِ بِما لا يُمْكِنُ مَعَهُ إيقاعُهُ؛ والمُضاعَفَةُ: الزِّيادَةُ عَلى المِقْدارِ بِمِثْلِهِ أوْ أكْثَرَ؛ والِاسْتِطاعَةُ: قُوَّةٌ يَنْطاعُ بِها الجَوارِحُ لِلْفِعْلِ؛ وأمّا ”لا جَرَمَ“ فَقَدِ اضْطَرَبَ عُلَماءُ العَرَبِيَّةِ في تَفْسِيرِها، قالَ الرَّضِيُّ في شَرْحِ الحاجِبِيَّةِ والبُرْهانِ لِلسَّفاقِسِيِّ في إعْرابِهِ ما حاصِلُهُ: والغالِبُ بَعْدَ ”لا جَرَمَ“ الفَتْحُ، أيْ في ”أنْ“، فَ: ”لا“ إمّا رَدُّ الكَلامِ السّابِقِ - عَلى ما هو مَذْهَبُ الخَلِيلِ - أوْ زائِدَةٌ كَما في ”لا أُقْسِمُ“ لِأنَّ في «جَرَمَ» مَعْنى القَسَمِ، وهي فِعْلٌ ماضٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ والخَلِيلِ مُرَكَّبَةٌ مَعَ ”لا“، وجَعَلَها سِيبَوَيْهِ فِعْلًا بِمَعْنى حَقَّ، فَ ”أنْ“ ”فاعِلُهُ“، وقِيلَ: ”جَرَمَ“ بِمَعْنى حَقَّ، وهو اسْمُ «لا» و”أنَّهُمْ“ خَبَرُهُ؛ وقالَ الكِسائِيُّ: مَعْناها: لا صَدَّ ولا مَنعَ؛ وعَنِ الزَّجّاجِ أنَّها غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ، ولا نَفْيَ لِما قِيلَ مِن أنَّ لَهم أصْنامًا تَنْفَعُهُمْ، وجَرَمَ - فِعْلٌ ماضٍ بِمَعْنى كَسَبَ وفاعِلُهُ (p-٢٦٠)مُضْمَرٌ مُعَبَّرٌ بِهِ عَنْ فِعْلِهِمْ، و”إنَّهم“ مَفْعُولُهُ؛ وقالَ الفَراهِيُّ: كَلِمَةٌ كانَتْ في الأصْلِ بِمَعْنى لا بُدَّ ولا مَحالَةَ، لِأنَّهُ يَرْوِي عَنِ العَرَبِ ”لا جُرْمَ“ - يَعْنِي بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ، والفِعْلُ - يَعْنِي هَكَذا، والفِعْلُ - يَعْنِي مُحَرَّكًا، يَشْتَرِكانِ في المَصادِرِ كالرُّشْدِ والرَّعْدِ والبُخْلِ؛ والجَرَمُ: القَطْعُ، أيْ لا قَطْعَ مِن هَذا كَما أنَّهُ لا بُدَّ بِمَعْنى لا قَطْعَ، فَكَثُرَتْ وجَرَتْ عَلى ذَلِكَ حَتّى صارَتْ بِمَعْنى القَسَمِ، فَلِذَلِكَ يُجابُ بِما يُجابُ بِهِ القَسَمُ، فَيُقالُ: لا جَرَمَ لَآتِيَنَّكَ، ولا جَرَمَ أنَّكَ قائِمٌ، فَمَن فَتَحَ فَلِلنَّظَرِ إلى أصْلِ ”لا جَرَمَ“ كَما نَقُولُ: لا بُدَّ أنْ نَفْعَلَ كَذا وأنَّكَ تَفْعَلُ، أيْ: مِن أنْ ومِن أنَّكَ تَفْعَلُ، ومَن كَسَرَ فَلِمَعْنى القَسَمِ العارِضِ فِي: ”لا جَرَمَ“ - انْتَهى. فَتَفْسِيرُهُ لَها بِالقَطْعِ نُظِرَ مِنهُ إلى أنَّ مادَّةَ ”جَرَمَ“ بِخُصُوصِها دائِرَةٌ عَلى القَطْعِ، والأصْنَعُ تَفْسِيرُها بِالظَّنِّ نَظَرًا إلى ما تَدُورُ عَلَيْهِ المادَّةُ مِن حَيْثُ هي - بِأيِّ تَرْتِيبٍ كانَ - مِن جَرَمَ [وجَمَرَ] ورَجَمَ ورَمَجَ ومَجَرَ ومَرَجَ، وإنَّما جَعَلْتُها كَذَلِكَ لِأنَّهم قالُوا: جَرَمَ النَّخْلَ: خَرَصَها، وأجْمَرَ النَّخْلَ أيْضًا: خَرَصَها، ورَجَمَ - إذا ظَنَّ، والمَجَرُ: العَقْلُ، ويَلْزَمُ الظَّنَّ اتِّقادُ الذِّهْنِ ومِنهُ جَمْرَةُ النّارِ، والجَرْمُ لِلْأرْضِ \ الشَّدِيدَةُ الجَرِّ، ويَلْزَمُ الظَّنَّ أيْضًا اجْتِماعُ الفِكْرِ، ومِنهُ الجَمْرَةُ لِلْقَلْبِيَّةِ وكُلُّ ما شاكَلَها في الجَمْعِ، ومِنهُ الجِرْمُ بِالكَسْرِ وهو الجَسَدُ فَإنَّهُ بِالنَّظَرِ إلى جَمِيعِهِ، والصَّوْتِ أوْ جَهارَتِهِ فَإنَّهُ يُجْمَعُ فِيهِ الحَلْقُ لِقَطْعِهِ، ويَلْزَمُ الِاجْتِماعَ أيْضًا العَظَمَةُ، ومِنهُ أجْرَمَ - إذا عَظُمَ، (p-٢٦١)والجَمِيرُ كَأمِيرٍ: مُجْتَمَعُ القَوْمِ، ومِنَ الجَمْعِ الرِّياءُ والعَقْلُ، فَيَنْشَأُ مِنهُ الصَّفاءُ، ومِنهُ ﴿مارِجٍ مِن نارٍ﴾ [الرحمن: ١٥] أيْ: لا دُخانَ فِيهِ، ومِنهُ أجْرَمَ لَوْنُهُ: صَفا، ومِنَ الِاجْتِماعِ المَجَرُ - بِالتَّحْرِيكِ، وهو أنْ يَمْلَأ بَطْنَهُ مِنَ الماءِ ولَمْ يَرْوَ، والكَسْبُ، جَرَمَ لِأهْلِهِ - إذا كَسَبَ، ومِنهُ الذَّنْبُ فَإنَّهُ كَسْبٌ خاصٌّ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مِنَ القَطْعِ لِأنَّهُ يَقْطَعُ صاحِبَهُ عَنِ الخَيْرِ، ويَلْزَمُ الِاجْتِماعَ أيْضًا [الِاسْتِتارُ] ومِنهُ أجَمَرَتِ اللَّيْلَةُ - اسْتَتَرَ فِيها الهِلالُ، والمَجَرُ لِما في بُطُونِ الحَوامِلِ مِنَ الإبِلِ والغَنَمِ، أوْ يَجْعَلُ هَذا مِمّا يَلْزَمُ نَفْسَ الظَّنِّ مِنَ الخَفاءِ، ومِنَ الِاجْتِماعِ الضُّمُورُ، أجَمَرَ الخَيْلَ: أضْمَرَها، وشاةٌ مُجْمَرَةٌ: مَهْزُولَةٌ، ويَلْزَمُ الِاجْتِماعَ الصَّلابَةُ والتَّمامُ، ومِنهُ حَوْلٌ مُجْرَمٌ كَمُعْظَمٍ: تامٌّ، فَيَنْشَأُ الِافْتِراقُ، ومِنهُ تَجَرَّمَ اللَّيْلُ: ذَهَبَ، وابْنا جَمِيرٍ كَأمِيرٍ: اللَّيْلُ والنَّهارُ، أوْ يَكُونُ ذَلِكَ مِن لَوازِمِ القَطْعِ كَما يَأْتِي؛ ومِنَ الِاجْتِماعِ الرَّجْمُ الَّذِي هو الخَلِيلُ والنَّدِيمُ، ويَلْزَمُ الظَّنَّ الفَصْلُ بَيْنَ الأشْياءِ، ومِنهُ جِرامُ النَّخْلِ لِصِرامِها؛ والجَمْرَةُ: الحَصاةُ، فَيَلْزَمُ مُطْلَقُ الرَّمْيِ فَيَنْشَأُ الرَّمْيُ بِالجِمارِ، وهي الحِجارَةُ فَيَنْشَأُ القَتْلُ لِلْمَرْجُومِ، وهو يَرْجِعُ أيْضًا إلى نَفْسِ القَطْعِ، فَإنَّهُ قَطْعُ النَّفْسِ عَمّا كانَتْ عَلَيْهِ، ويَلْزَمُ الفَصْلَ القَذْفُ والعَيْبُ؛ والرَّماجُ كَسَحابٍ: كُعُوبُ الرُّمْحِ لِانْفِصالِ بَعْضِها عَنْ بَعْضٍ، والرَّمَجُ بِالفَتْحِ وهو إلْقاءُ الطَّيْرِ ذَرْقَهُ، ويَلْزَمُ الظَّنَّ [المُبالَغَةُ في النَّظَرِ فَتَأْتِي المُبالَغَةُ في الكَلامِ والعَزِيمَةِ، ومِنهُ المِرْجامُ لِلْمادِّ (p-٢٦٢)عُنُقَهُ في السَّيْرِ مِنَ الإبِلِ، وأجْمَرَ: أسْرَعَ في السَّيْرِ، وقَدْ يَلْزَمُ الظَّنَّ] الحَيْرَةُ، ومِنهُ حَدِيثٌ مُرْجَمٌ كَمُعْظَمٍ: لا يُوقَفُ عَلى حَقِيقَتِهِ، فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ الذَّنْبُ والفَسادُ والقَلَقُ والِاضْطِرابُ، ومِنهُ أمْرَجَ العَهْدَ: لَمْ يَفِ بِهِ، أيْ: جَعَلَهُ مارِجًا مُزَلْزَلًا، وعَلى الِاضْطِرابِ تَدُورُ مادَّةُ ”مَرَجَ“ بِخُصُوصِ هَذا التَّرْتِيبِ، أوِ التَّرْمِيجُ: إفْسادُ سُطُورٍ بَعْدَ كَتْبَتِها، ويَلْزَمُ الظَّنَّ الِاخْتِلاطُ، ومِنهُ الجِرْمُ لِلَّوْنِ لِأنَّهُ لا يَخْلُو عَنْ شَوْبٍ، وأجْرَمَ الدَّمُ بِهُ: لَصَقَ، والإجْرامُ: مَتاعُ الرّاعِي، أوْ هي مِنَ الكَسْبِ، والجُرّامُ كَرُمّانٍ: السَّمَكُ؛ والمَرْجُ: مَوْضِعُ الرَّعْيِ، وقَدْ عُلِمَ مِن هَذا أنَّ جَمِيعَ تَصارِيفِ المادَّةِ تَدُورُ عَلى الِاضْطِرابِ وهو بَيِّنٌ في غَيْرِ العَقْلِ، وأمّا فِيهِ فَإنَّهُ يُقَدَّرُ العَقْلُ بِكَوْنِ اضْطِرابِ الرَّأْيِ لِأنَّ العاقِلَ كُلَّما أنْعَمَ النَّظَرَ انْفَتَحَ لَهُ ما كانَ مُغْلَقًا فَيَعْدِلُ إلَيْهِ، فَإذا ظَهَرَ هَذا ظَهَرَ أنَّ مَعْنى ”لا جَرَمَ“ أنَّهم لا ظَنَّ ولا اضْطِرابَ في أنَّهُمْ، ويَكُونُ نَفْيُ الظَّنِّ في مِثْلِ هَذا السِّياقِ نَفْيًا لِجَمِيعِ ما يُقابِلُهُ إلّا العِلْمُ الَّذِي هو بِمَعْنى القَطْعِ كَما إذا قِيلَ: لا شَكَّ في كَذا ولا رَيْبَ، فاتَّضَحَ أنَّ تَفْسِيرَهم لَها بِ: ”حَقًّا“ تَفْسِيرُ مَعْنًى لِمَجْمُوعِ الكَلِمَتَيْنِ؛ لِأنَّهُ إذا نُفِيَ في مِثْلِ هَذا السِّياقِ الظَّنُّ ثَبَتَ اليَقِينُ والقَطْعُ، وإلَيْهِ يَرْجِعُ تَفْسِيرُ سِيبَوَيْهِ بِلا حَقٍّ لِأنَّهُ يُرِيدُ - واللَّهُ أعْلَمُ - أنْ لا صِلَةَ، ومَوْضُوعُها في الأصْلِ النَّفْيُ، فَهي نافِيَةٌ لِضِدِّ ما دَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَكَأنَّهُ (p-٢٦٣)قِيلَ: حَقَّ وثَبَتَ أنَّهم كَذا وانْتَفى كُلُّ ما يُضادُّهُ، فَهَذا وجْهُ كَوْنِها صِلَةً مُؤَكَّدَةً، وقَرِيبٌ مِن ذَلِكَ ما قِيلَ في ”إنَّما“ نَحْوَ: إنَّما زَيْدٌ قائِمٌ، أيْ: أنَّ زَيْدًا قائِمٌ، ما هو إلّا كَذَلِكَ، فَقَدْ بانَ أنَّ النّافِيَ مِثْلَ ذَلِكَ مُؤَكِّدٌ - واللَّهُ المُوَفِّقُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب