الباحث القرآني

ولَمّا كانَ أكْثَرُ الخَلْقِ هالِكًا مَعَ أنَّ المَقامَ مَقامُ تَهْدِيدٍ وتَهْوِيلٍ، بَدَأ تَعالى بِالأشْقِياءِ تَرْتِيبًا لِلنَّشْرِ عَلى تَرْتِيبِ اللَّفِّ فَقالَ: ﴿فَأمّا الَّذِينَ شَقُوا﴾ أيْ: أدْرَكَهُمُ العُسْرُ والشِّدَّةُ ﴿فَفِي النّارِ﴾ أيْ: مَحْكُومٌ لَهم بِأنَّهم يَدْخُلُونَ النّارَ الَّتِي هي النّارُ لَوْ عَلِمْتُمْ ﴿لَهم فِيها زَفِيرٌ﴾ أيْ: عَظِيمٌ جِدًّا ﴿وشَهِيقٌ﴾ مِن زَفَرَ - إذا أخْرَجَ نَفَسَهُ بَعْدَ مَدِّهِ إيّاهُ، وشَهِيقٌ - إذا تَرَدَّدَ البُكاءُ في صَدْرِهِ - قالَهُ في القامُوسِ؛ وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ (p-٣٨٢)سُورَةِ الأنْبِياءِ: الزَّفِيرُ خُرُوجُ أنْفاسِهِمْ، والشَّهِيقُ: وُلُوجُ أنْفاسِهِمْ؛ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: الزَّفِيرُ: الصَّوْتُ الشَّدِيدُ، والشَّهِيقُ: الصَّوْتُ الضَّعِيفُ، وعَنِ الضَّحّاكِ ومُقاتِلٍ: الزَّفِيرُ أوَّلُ نَهِيقِ الحِمارِ، والشَّهِيقُ آخِرُهُ حِينَ يَفْرَغُ مِن صَوْتِهِ إذا رَدَّهُ في جَوْفِهِ، وسَيَأْتِي كَلامُ الرُّمّانِيِّ في ذَلِكَ ﴿خالِدِينَ فِيها﴾ أيْ: بِلا انْقِطاعٍ، وعَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ جَرْيًا عَلى أسالِيبِ العَرَبِ: ﴿ما دامَتِ السَّماواتُ والأرْضُ﴾ ولَمّا كانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ لا يَقْبُحُ مِنهُ شَيْءٌ وهو قادِرٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، دَلَّ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إلا ما شاءَ﴾ [أيْ مُدَّةً شاءَها؛ فَإنَّهُ لا يَحْكُمُ لَهم بِذَلِكَ فِيها فَلا يَدْخُلُونَها]. ولَمّا كانَ الحالُ في هَذِهِ السُّورَةِ مُقْتَضِيًا - كَما تَقَدَّمَ - لِتَسْلِيَةِ النَّبِيِّ ﷺ عَمّا أخْبَرَ بِهِ سُبْحانَهُ في قَوْلِهِ: ﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إلَيْكَ﴾ [هود: ١٢] - الآيَةَ. مِن ضِيقِ صَدْرِهِ، ولِذَلِكَ أتى بِهَذِهِ القِصَصِ كَما مَضى بَيانُ ذَلِكَ، عَبَّرَ بِاسْمِ الرَّبِّ إشارَةً إلى أنَّهُ يَحْسُنُ إلَيْهِ بِكُلِّ ما يَسُرُّ قَلْبَهُ ويَشْرَحُ صَدْرَهُ فَقالَ: ﴿رَبُّكَ﴾ وقَدْ جَرى النّاسُ في هَذا الِاسْتِثْناءِ عَلى ظاهِرِهِ ثُمَّ أطالُوا الِاخْتِلافَ في تَعْيِينِ المُدَّةِ المُسْتَثْناةِ، والَّذِي ظَهَرَ لِي - واللَّهُ أعْلَمُ - أنَّهُ لَمّا تَكَرَّرَ الجَزْمُ بِالخُلُودِ في الدّارَيْنِ وأنَّ الشِّرْكَ لا يُغْفَرُ والإيمانَ مُوجِبٌ لِلْجَنَّةِ فَكانَ رُبَّما ظُنَّ أنَّهُ لا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ كَما ظَنَّهُ المُعْتَزِلَةُ لا سِيَّما إذا تُؤَمِّلُ القَطْعُ في مِثْلِ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨] مَعَ تَقْيِيدِ غَيْرِهِ بِالمَشِيئَةِ في قَوْلِهِ: ﴿ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨] (p-٣٨٣)جاءَ هَذا الِاسْتِثْناءُ مُعْلِمًا أنَّ الأمْرَ فِيهِ إلى اللَّهِ تَعالى كَغَيْرِهِ مِنَ الأُمُورِ، لَهُ أنْ يَفْعَلَ في كُلِّها ما يَشاءُ وإنْ جَزَمَ القَوْلَ فِيهِ، لَكِنَّهُ لا يَقَعُ غَيْرُ ما أخْبَرَ بِهِ، وهَذا كَما تَقُولُ: اسْكُنْ هَذِهِ الدّارَ عُمْرَكَ إلّا ما شاءَ زَيْدٌ، وقَدْ لا يَشاءُ زَيْدٌ شَيْئًا، فَكَما أنَّ التَّعْلِيقَ بِدَوامِ السَّماواتِ والأرْضِ غَيْرُ مُرادِ الظّاهِرِ كَذَلِكَ الِاسْتِثْناءُ لا يَشاءُ اللَّهُ قَطْعَ الخُلُودِ لِأحَدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ، وسَوْقُهُ هَكَذا أدَلُّ عَلى القُدْرَةِ وأعْظَمُ في تَقْلِيدِ المِنَّةِ، ثُمَّ رَأيْتُ الإمامَ أبا أحْمَدَ البَغَوِيَّ قَدْ ذَكَرَ مَعْنى هَذا آخِرَ ما أوْرَدَهُ في تَفْسِيرِهِ مِنَ الأقْوالِ في الآيَةِ وحُكِيَ نَحْوُهُ عَنِ الفَرّاءِ، ومَثَّلَهُ بِأنْ تَقُولَ: واللَّهِ لَأضْرِبَنَّكَ إلّا إنْ أرى، وعَزِيمَتُكُ أنْ تَضْرِبَهُ، وعَزاهُ الطَّحاوِيُّ في بَيانِ المُشْكِلِ إلى أهْلِ اللُّغَةِ مِنهُمُ الفَرّاءُ. ولَمّا كانَ تَخْلِيدُ الكُفّارِ مِنَ الحُكْمِ بِالقِسْطِ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ لِأنَّهُ مِن أكْبَرَ تَنْعِيمِ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ عادَوْهم في اللَّهِ كَما تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ أوَّلَ سُورَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالقِسْطِ﴾ [يونس: ٤] كانَ رُبَّما تُوُهِّمَ أنَّ الِاسْتِثْناءَ لَوْ أُخِذَ عَلى ظاهِرِهِ لَمْ يَكُنْ إخْراجُهم مِنَ النّارِ حِينًا، نَفى هَذا التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبَّكَ﴾ أيِ المُحْسِنَ إلَيْكَ ﴿فَعّالٌ لِما يُرِيدُ﴾ أيْ: لا يَجُوزُ عَلَيْهِ البَدْءُ بِالرُّجُوعِ عَمّا أرادَ ولا المَنعُ عَنْ مُرادِهِ ولا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنهُ مَعَ كَثْرَةِ المُراداتِ فَلا اعْتِراضَ عَلَيْهِ ولا يَلْزَمُهُ لِأحَدٍ شَيْءٌ، بَلْ لَهُ أنْ يُخَلِّدَ العاصِينَ في الجَنَّةِ ويُخَلِّدَ (p-٣٨٤)الطّائِعِينَ في النّارِ، ولَكِنَّهُ كَما ثَبَتَ ذَلِكَ لِيُعْتَقَدَ لِكَوْنِهِ مِن صِفَةِ الكَمالِ ثَبَتَ أنَّهُ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ سُبْحانَهُ ولا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيْهِ لِأنَّ ذَلِكَ مِن صِفاتِ الكَمالِ أيْضًا مَعَ أنَّ في خَتْمِ الآيَةِ بِذَلِكَ تَرْجِيَةٌ لِأهْلِ النّارِ في إخْراجِهِمْ مِنها زِيادَةً في عَذابِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب