الباحث القرآني
(p-٢٧٥)سُورَةُ الدِّينِ وتُسَمّى أرَأيْتَ والتَّكْذِيبَ والماعُونَ
مَقْصُودُها التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ التَّكْذِيبَ بِالبَعْثِ لِأجْلِ الجَزاءِ أبُو الخَبائِثِ، فَإنَّهُ يُجْزِئُ المُكَذِّبَ عَلى مَساوِئِ الأخْلاقِ ومُنْكَراتِ الأعْمالِ حَتّى تَكُونَ الِاسْتِهانَةُ بِالعِظامِ خُلُقًا لَهُ فَيَصِيرُ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ خَلاقُ، وكُلٌّ مِن أسْمائِها الأرْبَعَةِ في غايَةِ الظُّهُورِ في الدَّلالَةِ عَلى ذَلِكَ بِتَأمُّلِ السُّورَةِ لِتَعْرِفَ هَذِهِ الأشْياءَ المَذْكُورَةَ، فَهي ناهِيَةٌ عَنِ المُنْكَراتِ بِتَصْرِيحِها، داعِيَةٌ إلى المَعالِي بِإفْهامِها وتَلْوِيحِها ”بِسْمِ اللَّهِ“ الَّذِي تَعالَتْ عَظَمَتُهُ عَنْ كُلِّ شائِبَةِ نَقْصٍ فَكانَ لَهُ كُلُّ كَمالٍ ”الرَّحْمَن“ الَّذِي عَمَّتْ نِعْمَتُهُ المُحْسِنَ والمُسِيءَ فَغَمَرَ الكُلَّ بِالنَّوالِ ”الرَّحِيم“ الَّذِي خَصَّ أوْلِياءَهُ بِإتْمامِ النِّعْمَةِ فَحَباهم بِنَعِيمِ الِاتِّصالِ.
* * *
لَمّا أخْبَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ فِعْلِهِ مَعَهم مِنَ الِانْتِقامِ مِمَّنْ تَعَدّى حُدُودَهُ فِيهِمْ، ومِنَ الرِّفْقِ بِهِمْ بِما هو غايَةٌ في الحِكْمَةِ، فَكانَ مُعَرَّفًا بِأنَّ فاعِلَهُ لا يَتْرُكُ النّاسَ سُدًى مِن غَيْرِ جَزاءٍ، وأمْرَهم آخِرَ قُرَيْشٍ بِشُكْرِ نِعْمَتِهِ بِإفْرادِهِ بِالعِبادَةِ، عَرَّفَهم أوَّلَ هَذِهِ أنَّ ذَلِكَ لا يَتَهَيَّأُ إلّا بِالتَّصْدِيقِ (p-٢٧٦)بِالجَزاءِ الحامِلِ عَلى مَعالِي الأخْلاقِ النّاهِي عَنْ مَساوِئِها، وعَجِبَ مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِالجَزاءِ مَعَ وُضُوحِ الدَّلالَةِ عَلَيْهِ بِحِكْمَةِ الحَكِيمِ، ووَصَفَ المُكَذِّبُ [بِهِ -] بِأوْصافٍ هم مِنها في غايَةِ النَّفْرَةِ، وصَوَّرَهُ بِأشْنَعِ صُورَةٍ بَعْثًا لَهم عَلى التَّصْدِيقِ وزَجْرًا عَنِ التَّكْذِيبِ، فَقالَ خاصًّا بِالخِطابِ رَأْسَ الأُمَّةِ إشارَةً إلى أنَّهُ لا يَفْهَمُ هَذا الأمْرَ حَقَّ فَهْمِهِ غَيْرُهُ: ﴿أرَأيْتَ﴾ أيْ أخْبَرَنِي يا أكْمَلَ الخَلْقِ ﴿الَّذِي يُكَذِّبُ﴾ أيْ يُوقِعُ التَّكْذِيبَ لِمَن يُخْبِرُهُ كائِنًا مَن كانَ ﴿بِالدِّينِ﴾ أيِ الجَزائِيِّ الَّذِي يَكُونُ يَوْمَ البَعْثِ الَّذِي هو مَحَطُّ الحِكْمَةِ وهو غايَةُ الدِّينِ التَّكْلِيفِيِّ الآمِرِ بِمَعالِي الأخْلاقِ النّاهِي عَنْ سَيِّئِها، ومِن كَذَّبَ بِأحَدِهِما كَذَّبَ بِالآخَرِ: ولَمّا كانَ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ بِمَعْنى أخْبَرَنِي، المُتَعَدِّي إلى مَفْعُولَيْنِ، كانَ تَقْدِيرُ المَفْعُولِ الثّانِي: ألَيْسَ جَدِيرًا بِالِانْتِقامِ مِنهُ.
وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمّا تَضَمَّنَتِ السُّوَرُ المُتَقَدِّمَةُ مِنَ الوَعِيدِ لِمَنِ انْطَوى عَلى ما ذَكَرَ فِيها مِمّا هو جارٍ عَلى حُكْمِ الجَهْلِ والظُّلْمِ الكائِنَيْنِ في جِبِلَّةِ الإنْسانِ ما تَضَمَّنَتْ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الإنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات: ٦] ﴿إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ﴾ [العصر: ٢] ﴿يَحْسَبُ أنَّ مالَهُ أخْلَدَهُ﴾ [الهمزة: ٣] وانَجْرَّ أثْناءَ ذَلِكَ مِمّا تُثِيرُهُ هَذِهِ الصِّفاتُ الأوَّلِيَّةُ ما ذَكَرَ فِيها أيْضًا كالشَّغْلِ (p-٢٧٧)بِالتَّكاثُرِ، والطَّعْنِ عَلى النّاسِ ولَمْزِهِمْ والِاغْتِرارِ المُهْلِكِ أصْحابَ الفِيلِ أتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ صِفاتٍ قَدْ تُوجَدُ في المُنْتَمِينَ إلى الإسْلامِ أوْ يُوجَدُ بَعْضُها أوْ أعْمالُ مَن يَتَّصِفُ بِها وإنْ لَمْ يَكُنْ مِن أهْلِها كَدَعِّ اليَتِيمِ، وهو دَفْعُهُ عَنْ حَقِّهِ وعَدَمُ الرِّفْقِ بِهِ، وعَدَمُ الحَضِّ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ، والتَّغافُلِ عَنِ الصَّلاةِ والسَّهْوِ عَنْها، والرِّياءِ بِالأعْمالِ والزَّكاةِ والحاجاتِ الَّتِي يَضْطَرُّ فِيها النّاسُ بَعْضُهم إلى بَعْضٍ، ويُمْكِنُ أنْ يَتَضَمَّنَ إبْهامَ الماعُونِ هَذا كُلَّهُ، ولا شَكَّ أنَّ هَذِهِ الصِّفاتِ تُوجَدُ في المُتَّسِمِينَ بِالإسْلامِ، فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى أنَّهُ [مِن] صِفاتِ مَن يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ولا يَنْتَظِرُ الجَزاءَ والحِسابَ، أيْ إنَّ هَؤُلاءِ هم أهْلُها، ومِن هَذا القَبِيلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ «أرْبَعٌ مَن كُنَّ فِيهِ كانَ مُنافِقًا خالِصًا» وقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ «لا يَزْنِي الزّانِي حِينَ يَزْنِي وهو مُؤْمِنٌ» وهَذا البابُ كَثِيرٌ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، وقَدْ بَسَطْتُهُ في كِتابِ ”إيضاحِ السَّبِيلِ مِن حَدِيثِ سُؤالِ جِبْرِيلَ“ فَمِن هَذا القَبِيلِ عِنْدِي - واللَّهُ أعْلَمُ - قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أرَأيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ﴾ [الماعون: ٢] أيْ أنَّ هَذِهِ الصِّفاتِ مِن دَفْعِ اليَتِيمِ وبُعْدِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وعَدَمِ الحَضِّ عَلى إطْعامِهِ والسَّهْوِ عَنِ الصَّلاةِ والمُراءاةِ بِالأعْمالِ ومَنعِ الحاجاتِ إنَّ (p-٢٧٨)هَذِهِ كُلَّها مِن شَأْنِ المُكَذِّبِ بِالحِسابِ والجَزاءِ لِأنَّ نَفْعَ البُعْدِ عَنْها إنَّما يَكُونُ إذْ ذاكَ، فَمَن صَدَّقَ بِهِ جَرى في هَذِهِ الخِصالِ عَلى السُّنَنِ المَشْكُورِ والسَّعْيِ المَبْرُورِ، ومَن كَذَّبَ بِهِ لَمْ يُبالِ بِها وتَأبَّطَ جَمِيعَها، فَتَنَزَّهُوا أيُّها المُؤْمِنُونَ عَنْها، فَلَيْسَتْ مِن صِفاتِكم في أصْلِ إيمانِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ عَلَيْهِ، فَمَن تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهو مِنهُمْ، فاحْذَرُوا هَذِهِ الرَّذائِلَ فَإنَّ دَعَّ اليَتِيمِ مِنَ الكِبَرِ الَّذِي أهْلَكَ أصْحابَ الفِيلِ، وعَدَمُ الحَضِّ عَلى إطْعامِهِ فَإنَّما هو فِعْلُ البَخِيلِ الَّذِي يَحْسَبُ أنَّ مالَهُ أخْلَدَهُ، والسَّهْوُ عَنِ الصَّلَواتِ مِن ثَمَراتِ إلْهاءِ التَّكاثُرِ، والشَّغْلُ بِالأمْوالِ والأوْلادِ، فَنَهى عِبادَهُ عَنْ هَذِهِ الرَّسائِلِ الَّتِي يُثْمِرُها ما تَقَدَّمَ والتَحَمَتِ السُّوَرُ - انْتَهى.
{"ayah":"أَرَءَیۡتَ ٱلَّذِی یُكَذِّبُ بِٱلدِّینِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق