الباحث القرآني
ولَمّا كانَ الحُكْمُ عَلى الجِنْسِ حُكْمًا عَلى الكُلِّ لِأنَّهم لَيْسَ لَهم مِن ذَواتِهِمْ إلّا ذَلِكَ، وكانَ فِيهِمْ مَن خَلَّصَهُ الله سُبْحانَهُ وتَعالى مِمّا طُبِعَ عَلَيْهِ الإنْسانُ بِجَعْلِهِ في أحْسَنِ تَقْوِيمِ، وحِفْظِهِ عَنِ المَيْلِ مَعَ ما فِيهِ مِنَ النَّقائِصِ، اسْتَثْناهم سُبْحانَهُ وتَعالى لِأنَّهم قَلِيلٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إلى أهْلِ الخُسْرِ فَقالَ دالًّا بِالِاسْتِثْناءِ عَلى أنَّ النُّفُوسَ داعِيَةٌ إلى الشَّرِّ مُخَلَّدَةٌ إلى البِطالَةِ واللَّهْوِ، فالمُخْلِصُ واحِدٌ مِن ألْفٍ كَما في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ ﴿إلا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيْ أوْجَدُوا الإيمانَ وهو التَّصْدِيقُ بِما عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيءَ النَّبِيِّ ﷺ بِهِ مِن تَوْحِيدِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى والتَّصْدِيقِ بِمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ، ولَعَلَّ حِكْمَةَ التَّعْبِيرِ بِالماضِي الحَثُّ عَلى الدُّخُولِ في الدِّينِ ولَوْ عَلى أدْنى الدَّرَجاتِ، والبِشارَةِ لِمَن فَعَلَ ذَلِكَ بِشَرْطِهِ بِالنَّجاةِ مِنَ الخُسْرِ.
(p-٢٣٩)ولَمّا كانَ الإنْسانُ حَيَوانًا ناطِقًا، وكانَ كَمالُ حَيَوانِيَّتِهِ في القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ لِلْحَرَكَةِ بِالإرادَةِ لا بِمُقْتَضى الشَّهْوَةِ القاسِرَةِ البَهِيمِيَّةِ قالَ تَعالى: ﴿وعَمِلُوا﴾ أيْ تَصْدِيقًا بِما أقَرُّوا بِهِ مِنَ الإيمانِ ﴿الصّالِحاتِ﴾ أيْ هَذا الجِنْسِ، وهو اتِّباعُ الأوامِرِ واجْتِنابُ النَّواهِي في العِباداتِ كالصَّلاةِ والعاداتِ كالبَيْعِ فَكانُوا بِهَذا مُسْلِمِينَ بَعْدَ أنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ فاشْتَرَوُا الآخِرَةَ بِالدُّنْيا فَلَمْ يُلْهِهِمُ التَّكاثُرُ، فَفازُوا بِالحَياةِ الأبَدِيَّةِ والسَّعادَةِ السَّرْمَدِيَّةِ فَلَمْ يَلْقَهم شَيْءٌ مِنَ الخُسْرِ.
[ولَمّا كانَ الإنْسانُ بَعْدَ كَمالِهِ في نَفْسِهِ بِالأعْمالِ لا يَنْتَفِي عَنْهُ مُطْلَقُ الخُسْرِ -] إلّا بِتَكْمِيلِ غَيْرِهِ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ وارِثًا لِأنَّ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلام بُعِثُوا لِلتَّكْمِيلِ، وكانَ الدِّينُ لا يَقُومُ، وإذا قامَ لا يَتِمُّ إلّا بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ النّاشِئِ عَنْ نُورِ القَلْبِ، ولا يَتَأتّى ذَلِكَ إلّا بِالِاجْتِماعِ، قالَ مُخَصِّصًا لِما دَخَلَ في الأعْمالِ الصّالِحَةِ تَنْبِيهًا عَلى عِظَمِهِ: ﴿وتَواصَوْا﴾ أيْ أوْصى بَعْضُهم بَعْضًا بِلِسانِ الحالِ أوِ المَقالِ: ﴿بِالحَقِّ﴾ أيِ الأمْرِ الثّابِتِ، وهو كُلُّ ما حَكَمَ الشَّرْعُ بِصِحَّتِهِ فَلا يَصْحُ بِوَجْهِ نَفْيِهِ مِن قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ أوِ اعْتِقادٍ أوْ غَيْرِهِ مِن فِعْلٍ أوْ تَرْكٍ، فَكانُوا مُحْسِنِينَ، والتَّكْمِيلُ في القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ بِاجْتِلابِ الخُيُورِ.
(p-٢٤٠)ولَمّا كانَ [الإنْسانُ -] مَيّالًا إلى النُّقْصانِ، فَكانَ فاعِلُ ذَلِكَ الإحْسانِ مُعَرَّضًا لِلشَّنَآنِ مِن أهْلِ العُدْوانِ، وهُمُ الأغْلَبُ في كُلِّ زَمانٍ، قالَ تَعالى: ﴿وتَواصَوْا﴾ لِأنَّ الإنْسانَ يَنْشَطُ بِالوَعْظِ ويَنْفَعُهُ اللَّحْظُ واللَّفْظُ ﴿بِالصَّبْرِ﴾ أيِ النّاشِئِ عَنْ زَكاةِ النَّفْسِ عَلى العَمَلِ بِطاعَةِ اللَّهِ مِن إحْقاقِ الحَقِّ وإبْطالِ الباطِلِ والنَّفْيِ لَهُ والمُحِقِّ وعَلى ما يَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الأذى بِاجْتِنابِ الشُّرُورِ إلى المَماتِ الَّذِي هو سَبَبٌ مُوَصِّلٌ إلى دارِ السَّلامِ، فَكانُوا مُكَمِّلِينَ لِلْقُوَّةِ العَمَلِيَّةِ حافِظِينَ لِما قَبْلَها مِنَ العِلْمِيَّةِ، وذَلِكَ هو حِكْمَةُ العِباداتِ فَإنَّ حِكْمَةَ الشَّيْءِ هي الغايَةُ والفائِدَةُ المَقْصُودَةُ مِنهُ، وهي هُنا أمْرانِ: خارِجٌ عَنِ العامِلِ وهو الجَنَّةُ، وداخِلٌ قائِمٌ بِهِ وهو النُّورُ المُقَرَّبُ مِنَ الحَقِّ سُبْحانَهُ وتَعالى، واخْتِيرَ التَّعْبِيرُ بِالوَصِيَّةِ إشارَةً إلى الرِّفْقِ في الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، واسْتِعْمالِ اللِّينِ بِغايَةِ الجُهْدِ، والصَّبْرُ هو خُلاصَةُ الإنْسانِ وسِرِّهِ وصَفاوَتِهِ وزُبْدَتِهِ وعُصارَتِهِ، الَّذِي لا يُوصَلُ إلَيْهِ إلّا بِضَغْطِ الإنْسانِ لِنَفْسِهِ وقَسْرِها عَلى أفْعالِ الطّاعَةِ وقَهْرِها عَلى لُزُومِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ حَتّى يَصِيرَ الصَّبْرُ لَها بِالتَّدْرِيبِ عادَةً وصِناعَةً، فَقَدْ عانَقَ آخِرُها أوَّلَها، وواصَلَ مَفْصِلَها مُوصِلَها، (p-٢٤١)وهِيَ أرْبَعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً تُشِيرُ إلى أنَّ في السَّنَةِ الرّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ النُّبُوَّةِ يَكُونُ الإذْنُ في الجِهادِ الَّذِي هو رَأْسُ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ بِالفِعْلِ لِإظْهارِ الحَقِّ وهي سَنَةُ الهِجْرَةِ الَّتِي تَمَّ فِيها بَدْرُهُ، وعَمَّ نُورُهُ وقَدْرُهُ، وجَمَّ عِزُّهُ ونَصْرُهُ، فَإذا ضَمَمْتَ إلَيْها أرْبَعَ كَلِماتٍ البَسْمَلَةُ كانَتْ مُوازِيَةً في العَدَدِ لِسَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الهِجْرَةِ، وكانَ فِيها غَزْوَةُ بَدْرٍ المَوْعِدُ وغَزْوَةُ الأحْزابِ، وقَدْ وقَعَ فِيهِما أتَمُّ الصَّبْرِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ مِمَّنْ وافَقَهُ مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم لِإظْهارِ الحَقِّ والصَّوابِ، فَإنَّهم في بَدْرٍ خُذِلُوا مِن رَكْبِ عَبْدِ القَيْسِ أوْ مِن نَعِيمِ بْنِ مَسْعُودٍ ومُوافَقَةِ المُنافِقِينَ وخَوِّفُوا حَتّى كادَ يَعُمُّهُمُ الرُّعْبُ والفَشَلُ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«واللَّهِ لَأخْرُجَنَّ ولَوْ لَمْ يَخْرُجْ مَعِي أحَدٌ» وأنْزَلَ الله فِيها ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكم فاخْشَوْهم فَزادَهم إيمانًا وقالُوا﴾ [آل عمران: ١٧٣] الآياتُ، وفي الأحْزابِ زاغَتِ الأبْصارُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ وأسْفَرَتْ عاقِبَةُ الصَّبْرِ فِيها عَمّا قالَ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَ ذَهابِهِمْ: «الآنَ نَغْزُوهم ولا يَغْزُونَنا». فَإذا ضَمَمْتَ إلَيْها الضَّمائِرَ الأرْبَعَةَ أشارَتْ إلى سَنَةِ تِسْعٍ، وقَدْ كانَتْ فِيها غَزْوَةُ تَبُوكَ وهي غَزْوَةُ العُسْرَةِ لِما [كانَ] (p-٢٤٢)فِيها مِنَ الشِّدَّةِ الَّتِي أسْفَرَتْ عاقِبَةً الصَّبْرِ فِيها عَنْ إقْبالِ الوُفُودِ، بِفَخامَةِ العِزِّ والجُدُودِ وتَواتُرِ السُّعُودِ، بِلُطْفِ الرَّحِيمِ الوَدُودِ، وبِذَلِكَ كانَ نُورَ الوُجُودِ، وتَواتُرَ الفَضْلِ والجُودِ مِنَ الإلَهِ المَعْبُودِ - وصَلّى اللَّهُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّد وآلِهِ وصَحْبِهِ خِيارِ الوُجُودِ.
{"ayah":"إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلصَّبۡرِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











