الباحث القرآني

(p-٢٣٤)سُورَةُ العَصْرِ قالَ الإمامُ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: إنَّها سُورَةٌ لَوْ لَمْ يَنْزِلْ إلى النّاسِ إلّا هي لَكَفَتْهُمْ، وهو مَعْنى قَوْلِ غَيْرِهِ: ”إنَّها شَمِلَتْ جَمِيعَ عُلُومِ القُرْآنِ، مَقْصُودُها تَفْضِيلُ نَوْعِ الإنْسانِ المَخْلُوقِ مِن عَلَقٍ، وبَيانُ خُلاصَتِهِ وعُصارَتِهِ وهُمُ الحِزْبُ النّاجِي يَوْمَ السُّؤالِ عَنْ زَكاءِ الأعْمالِ بَعْدَ الإشارَةِ إلى أضْدادِهِمْ، والإعْلامُ بِما يُنْجِي مِنَ الأعْمالِ والأحْوالِ بِتَرْكِ الفانِي والإقْبالِ عَلى الباقِي لِأنَّهُ خُلاصَةُ الكَوْنِ ولُبابُ الوُجُودِ، واسْمُها العَصْرُ واضِحٌ في ذَلِكَ فَإنَّ العَصْرَ يُخَلِّصُ رُوحَ المَعْصُورِ ويُمَيِّزُ صَفاوَتَهُ، ولِذَلِكَ كانَ وقْتُ هَذا النَّبِيِّ الخاتَمِ الَّذِي هو خُلاصَةُ الخَلْقِ وقْتَ العَصْرِ، وكانَتْ صَلاةُ العَصْرِ أفْضَلَ الصَّلَواتِ، وبَيانُ اشْتِمالِها عَلى عُلُومِ القُرْآنِ تَنْزِيلُ جُمْلَتِها عَلى [ما -] قالَ الغَزالِيُّ: إنَّ القُرْآنَ كالبَحْرِ الَّذِي فِيهِ جَزائِرُ (p-٢٣٥)بِها مَعادِنُ سِتَّةٍ، مِنها أرْبَعَةٌ مُهِمَّةٌ: مُهِمّانِ مِنها هُما ياقُوتٌ أفْخَرُ فَأحْمَرُهُ لِلْعِلْمِ بِاللَّهِ، وأخْضَرُهُ لِصِفاتِهِ، وأزْرَقُهُ لِأفْعالِهِ، وزُمُرُّدٌ أخْضَرُ هو العِلْمُ بِاليَوْمِ الآخِرِ وما فِيهِ، ومُهِمّانِ أوَّلُهُما دُرٌّ أنْضَرُ وهو العِلْمُ بِالعِباداتِ المُقَرَّبَةِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وثانِيهِما مِسْكُ أذْفَرُ، وهو العِلْمُ بِالعاداتِ الَّتِي بِها تُهَيَّأُ العِباداتُ، ومُتِمّانِ وهُما دِرْياقُ أكْبَرُ وهو العِلْمُ بِإزاحَةِ الشُّكُوكِ، والشُّبَهِ والأوْهامِ لِأنَّها سَمُومٌ ومُهْلِكَةٌ لِلدِّينِ، وعَنْبَرٌ أشْهَبُ وهو الِاعْتِبارُ بِمَن هَلَكَ بِاجْتِنابِ ما كانَ سَبَبَ هَلاكِهِ، والِاقْتِفاءِ بِمَن نَجا بِاتِّباعِ ما كانَ سَبَبَ نَجاتِهِ، فالجُمْلَةُ الأُولى لِلْعَنْبَرِ لِأنَّ فِيها شَمَّ رَوائِحِ الهالِكِ وضِدُّهُ النّاجِي، وبُدِئَ بِها لِأنَّ دَرْءَ المَفاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلى جَلْبِ المَصالِحِ، والجُمْلَةُ الثّانِيَةُ لِلْياقُوتِ بِصِفاتِهِ الثَّلاثِ والزُّمُرُّدِ، والثّالِثَةُ لِلدُّرِّ والمِسْكِ، وهُما عِباداتٌ مَقْصُودَةٌ، وعاداتٌ وسِيلَةٌ إلَيْها مَمْدُودَةٌ، والرّابِعَةُ لِلدِّرْياقِ لِأنَّ الشُّبَهَ والشُّكُوكَ إنَّما هي مِن أوْهامٍ عاطِلَةٍ وخَيالاتٍ باطِلَةٍ، والخامِسَةُ وسِيلَةٌ إلَيْها ومُتِمَّةٌ لَها لِأنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ واجْتِنابَهُ لا يَكُونُ إلّا بِبَذْلِ الجُهْدِ في الصَّبْرِ“ بِسْمِ اللَّهِ ”الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ“ الرَّحْمَن ”الَّذِي عَمَّ بِالنِّعْمَةِ البَرُّ والفاجِرُ فَلَيْسَ شَيْءٌ شَبَهَهُ“ الرَّحِيم " الَّذِي [خُصِّيَ بِإتْمامِ النِّعْمَةِ أوْلِياءَهُ، فَكانُوا لِلدَّهْرِ غُرَّةً ولِأهْلِهِ جَبْهَةً. * * * (p-٢٣٦)لَمّا كانَتْ لَذَّةُ هَذِهِ الدُّنْيا الظّاهِرَةِ التَّنَعُّمَ بِما فِيها مِنَ المَتاعِ، وكانَ الإنْسانُ مَسْؤُولًا بِما شَهِدَ بِهِ، خَتَمَ التَّكاثُرُ عَنْ ذَلِكَ النَّعِيمِ مُتَوَعِّدًا بِرُؤْيَةِ الجَحِيمِ، فَكانَ ساكِنَ هَذِهِ الدّار عَلى غايَةِ الخَطَرِ، فَكانَ نَعِيمُهُ في غايَةِ الكَدَرِ، قالَ دالًّا عَلى ذَلِكَ بِأنَّ أكْثَرَ النّاسِ هالِكٌ، مُؤَكِّدًا بِالقَسَمِ والأداةِ لِما لِلْأغْلَبِ مِنَ التَّكْذِيبِ لِذَلِكَ إمّا بِالمَقالِ أوْ بِالحالِ: ﴿والعَصْرِ﴾ أيِ الزَّمانِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ أصْلُهُ آدَمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو في عَصْرِ يَوْمِ الجُمْعَةِ كَما ورَدَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ في مُسْلِمٍ، أوِ الصَّلاةِ الوُسْطى أوْ وقْتَها الَّذِي هو زَمانُ صاحِبِ هَذا الشَّرْعِ الَّذِي مِقْدارُهُ فِيما مَضى مِنَ الزَّمانِ بِمِقْدارِ وقْتِ العَصْرِ مِنَ النَّهارِ أوْ بَعْضِهِ، أوْ زَمانُ كُلِّ أحَدٍ الَّذِي هو الخُلاصَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ تَنْبِيهًا لَهُ عَلى نَفاسَتِهِ إشارَةً إلى اغْتِنامِ إنْفاقِهِ في الخَيْرِ إشْفاقًا مِنَ الحَشْرِ، أوْ وقْتَ الأصِيلِ لِأنَّهُ أفْضَلُهُ بِما يَحْوِيهِ مِنَ الفَراغِ مِنَ الأشْغالِ واسْتِقْبالِ الرّاحَةِ والحُصُولِ عَلى فائِدَةِ ما أنْفَقَ فِيهِ ذَلِكَ النَّهارَ، [و] بِما دَلَّ عَلَيْهِ مِن طُولِ السّاعَةِ ورَبِحِ مَن كانَ لَهُ فِيها بِضاعَةً بِاخْتِتامِ الأعْمالِ وتَقَوُّضِ النَّهارِ، والدّالُّ عَلى البَعْثِ، أوْ جَمِيعُ الدَّهْرِ الَّذِي أوْجَدَ فِيهِ سُبْحانَهُ وتَعالى المَخْلُوقاتِ وقَدَّرَ فِيهِ المَقْدُوراتِ بِما ظَهَرَ [فِيهِ -] مِنَ العَجائِبِ الدّالَّةِ عَلى ما لِلَّهِ (p-٢٣٧)تَعالى مِنَ العِزِّ والعَظَمَةِ الدّاعِي إلى صَرْفِ الهِمَّةِ إلَيْهِ وقَصْرِها عَلَيْهِ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب