الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ تَعالى عاقِبَةَ أمْرِ فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ وأنَّهم لَمْ يَنْتَفِعُوا بِما جاءَهم مِنَ البَيِّناتِ مَعَ ما كانَ فِيها مِن جَلِيِّ البَيانِ وفي بَعْضِها مِنَ الشَّدائِدِ والِامْتِحانِ حَتّى كانَ آخِرُها أنَّهُ لَمّا رَأى مَبْدَأ الهَلاكِ مِنَ انْفِراقِ البَحْرِ لَمْ يَزَعْهُ عَنْ لَجاجِهِ غَفْلَةً مِنهُ عَنْ عاقِبَتِهِ. وخَتَمَها بِالإخْبارِ بِكَثْرَةِ الغَفْلَةِ إشارَةً إلى أنَّ هَذا الخُلُقَ في غَيْرِ القِبْطِ أيْضًا، أتْبَعَ ذَلِكَ ذِكْرَ خاتِمَةِ أمْرِ بَنِي إسْرائِيلَ فِيما خَوَّلَهم فِيهِ بَعْدَ الإنْجاءِ مِنَ النِّعَمِ المُقْتَضِي لِلْعِلْمِ القَطْعِيِّ بِأنَّهُ لا إلَهَ غَيْرُهُ، وأنَّ مَن خالَفَهُ كانَ عَلى خَطَرِ الهَلاكِ، (p-١٨٩)وأنَّهم - مَعَ مُشاهَدَتِهِمُ الآياتِ الآتِيَةَ بِسَبَبِهِمْ إلى فِرْعَوْنَ - آتاهم مِنَ الآياتِ الخاصَّةِ بِهِمُ المُنْجَزَةِ لِصِدْقِ وعْدِهِ سُبْحانَهُ لِآبائِهِمْ ما فِيهِ غايَةُ الإحْسانِ إلَيْهِمْ والإكْرامِ لَهُمْ، وأنَّهم كانُوا تَحْتَ يَدِ فِرْعَوْنَ عَلى طَرِيقٍ واحِدٍ، لَيْسَ بَيْنَهم خِلافٌ، وما اخْتَلَفُوا فَصارُوا فِرَقًا في الِاعْتِقاداتِ وأحْزابًا في الدِّياناتِ حَتّى جاءَهُمُ العِلْمُ المُوَضَّحُ مِنَ اللَّهِ، فَكانَ المُقْتَضِي لِاجْتِماعِهِمْ عَلى اللَّهِ مُفَرِّقًا لَهم عَلى سَبِيلِ الشَّيْطانِ لِخُبْثِ سَرائِرِهِمْ وسُوءِ ضَمائِرِهِمْ وُقُوفًا مَعَ الشّاهِدِ الزّائِلِ وجُمُودًا مَعَ المَحْسُوسِ الفانِي ونِسْيانًا لِلْغائِبِ الثّابِتِ والمَعْلُومِ المُتَيَقَّنِ، كُلُّ ذَلِكَ لِأنّا قَضَيْنا بِهِ فالأمْرُ تابِعٌ لِما نُرِيدُ، لا لِما يَأْمُرُ بِهِ ويَنْهى عَنْهُ، فَكانَ أعْظَمُ زاجِرٍ عَنْ طَلَبِ الآياتِ وظَنِّ أنَّها تُوجِبُ [لَهُ] الرَّدَّ عَلى الغَواياتِ، فَقالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ بَوَّأْنا﴾ أيْ: أسْكَنّا بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ الَّتِي تَنْقَطِعُ الأعْناقُ دُونَ عَلْيائِها وتَتَضاءَلُ ثَواقِبُ الأفْكارِ عَنْ إحْصائِها ﴿بَنِي إسْرائِيلَ﴾ مَسْكَنًا هو أهْلٌ لِأنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ مَن خَرَجَ عَنْهُ، وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿مُبَوَّأ صِدْقٍ﴾ أيْ: في الأرْضِ المُقَدَّسَةِ لِأنَّ وعْدَنا كانَ قَدْ تَقَدَّمَ لَهم بِها، وعادَةُ العَرَبِ أنَّها إذا مَدَحَتِ الشَّيْءَ أضافَتْهُ إلى الصِّدْقِ؛ لِأنَّهُ مَعَ ثَباتِهِ حَبِيبٌ إلى كُلِّ نَفْسٍ، ويَصْدُقُ ما يُظَنُّ بِهِ مِنَ الخَيْرِ. ولَمّا كانَ المَنزِلُ لا يَطِيبُ إلّا بِالرِّزْقِ، وكانَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالمُبَوَّإ دالًّا عَلى الرِّزْقِ بِدَلالَةِ الِالتِزامِ، صَرَّحَ بِهِ فَقالَ: ﴿ورَزَقْناهُمْ﴾ أيْ (p-١٩٠)بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ ﴿مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ أيِ الحِسِّيَّةِ حِلاءً واشْتِهاءً مِنَ الفَواكِهِ والحُبُوبِ والألْبانِ والأعْسالِ وغَيْرِها. والمَعْنَوِيَّةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ والكِتابِ والمَعارِفِ كَما تَقَدَّمَ وعْدُنا لِآبائِهِمْ بِذَلِكَ. ولَمّا كانُوا كَغَيْرِهِمْ إذا كانُوا عَلى أُمُورٍ يَتَواضَعُونَ عَلَيْها تَقارَبُوا فِيها وتَوافَقُوا، وإذا كانُوا عَلى حُدُودٍ حَدَّها لَهُمُ المُحْسِنُ إلَيْهِمْ وحْدَهُ لَمْ يَلْبَثُوا أنْ يَخْتَلِفُوا، عابَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ فَقالَ: ﴿فَما﴾ أيْ: فَتَسَبَّبَ عَنْ صِدْقِنا لَهم في الوَعْدِ أنَّهم ما ﴿اخْتَلَفُوا﴾ أيْ: أوْقَعُوا الخُلْفَ المُفْضِيَ إلى جَعْلِ كُلٍّ مِنهم صاحِبَهُ خَلْفَهُ ووَراءَ ظَهْرِهِ. واسْتَهانَ بِهِ ﴿حَتّى جاءَهُمُ العِلْمُ﴾ المُوجِبُ لِاجْتِماعِهِمْ عَلى كَلِمَةٍ واحِدَةٍ لِما لَهُ مِنَ الضَّبْطِ حَتّى يَكُونَ أتْباعُهُ عَلى قَلْبٍ واحِدٍ. فَكَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا يُفْعَلُ بِهِمْ؟ لا هم بِعُقُولِهِمْ يَنْتَفِعُونَ ولا بِما جاءَهم مِنَ الحَقِّ يَرْجِعُونَ؟ فَقِيلَ مُؤَكِّدًا لِإنْكارِ العَرَبِ البَعْثَ: ﴿إنَّ رَبَّكَ﴾ أيِ المُحْسِنَ إلَيْكَ بِإيصاءِ الأنْبِياءِ بِكَ ووَصْفِكَ في كُتُبِهِمْ وجَعْلِكَ صاحِبَ لِواءِ الحَمْدِ في القِيامَةِ: ﴿يَقْضِي بَيْنَهُمْ﴾ ولَمّا كانَ هَذا تَهْدِيدًا عَظِيمًا، زادَهُ هَوْلًا وعَظَمَةً بِقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ القِيامَةِ﴾ أيِ الَّذِي هو أعْظَمُ الأيّامِ ﴿فِيما كانُوا﴾ أيْ: بِأفْعالِهِمُ الجِبِلِّيَّةِ ﴿فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ فَيَمِيزُ الحَقَّ مِنَ الباطِلِ، والصِّدِّيقَ مِنَ الزِّنْدِيقِ، ويُسْكِنُ كُلًّا دارَهُ. ذَكَرَ بَعْضَ ما في التَّوْراةِ مِنَ المَنِّ عَلَيْهِمْ بِالأرْضِ المُقَدَّسَةِ: (p-١٩١)قالَ في أثْناءِ السِّفْرِ الخامِسِ: قَدْ رَأتْ أعْيُنُكم جَمِيعَ أعْمالِ اللَّهِ العَظِيمَةِ الَّتِي عَمِلَ، فاحْفَظُوا جَمِيعَ الوَصايا الَّتِي أمَرَكُمُ اللَّهُ بِها اليَوْمَ لِتَدْخُلُوا الأرْضَ الَّتِي تَجُوزُونَ إلَيْها لِتَرِثُوها وتَطُولَ أعْمارُكم في الأرْضِ الَّتِي أقْسَمَ اللَّهُ لِآبائِكم أنْ يُعْطِيَهم ويَرِثَها نَسْلُهُمْ؛ الأرْضُ الَّتِي تَغُلُّ السَّمْنَ والعَسَلَ؛ لِأنَّ الأرْضَ الَّتِي تَدْخُلُونَها لِتَرِثُوها لَيْسَتْ مِثْلَ أرْضِ مِصْرَ الَّتِي خَرَجْتُمْ مِنها الَّتِي كُنْتُمْ تَحْتاجُونَ فِيها أنْ تَسْتَقُوا بِأرْجُلِكم وتَسْقُوها مِثْلَ بَساتِينِ السَّقْيِ، ولَكِنَّ الأرْضَ الَّتِي تَجُوزُونَ إلَيْها لِتَرِثُوها هي أرْضُ الجِبالِ والصَّحارى، وإنَّما تَشْرَبُ مِن مَطَرِ السَّماءِ. يَتَعاهَدُها اللَّهُ رَبُّكم في كُلِّ حِينٍ، وعَيْنا اللَّهِ رَبِّنا فِيها مُنْذُ أوَّلِ السَّنَةِ إلى آخِرِ السَّنَةِ. فَإنْ أنْتُمْ سَمِعْتُمُ الأحْكامَ الَّتِي آمُرُكم بِها اليَوْمَ وتَتَّقُونَ اللَّهَ رَبَّكم وتَعْبُدُونَهُ مِن كُلِّ قُلُوبِكم وأنْفُسِكم يُدِيمُ نَظَرَهُ إلَيْكُمْ، ويُمْطِرُ لَكم في الخَرِيفِ والرَّبِيعِ جَمِيعًا، وتَسْتَغِلُّونَ طَعامًا وشَرابًا وزَيْتًا، ويُنْبِتُ في حَرْثِكم عُشْبًا لِمَواشِيكُمْ، وتَأْكُلُونَ وتَشْبَعُونَ، احْفَظُوا أنْ لا تُخْدَعَ قُلُوبُكم وتَرُوغُوا إلى الآلِهَةِ الأُخْرى وتَسْجُدُوا لَها وتَعْبُدُوها فَيَشْتَدَّ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ، ويَمْنَعَ السَّماءَ مِنَ المَطَرِ والأرْضَ مِن غَلّاتِها، وتُهْلَكُوا سَرِيعًا مِنَ الأرْضِ الَّتِي يُعْطِيكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، بَلِ اجْعَلُوا هَذِهِ الآياتِ في قُلُوبِكُمْ، وصَيِّرُوها مِيسَمًا بَيْنَ أعْيُنِكُمْ، وعَلِّمُوها بَنِيكم أنْ يَتَكَلَّمُوا بِها في حُضُورِكم وفي سَفَرِكُمْ، وإذا (p-١٩٢)رَقَدْتُمْ وإذا قُمْتُمْ، واكْتُبُوها عَلى مَعاقِمِ بُيُوتِكم وأبْوابِكم لِتَطُولَ أعْمارُكم وأعْمارُ أوْلادِكم في الأرْضِ الَّتِي أقْسَمَ اللَّهُ لِآبائِكم أنْ يُعْطِيَهم. وإنْ أنْتُمْ حَفِظْتُمْ هَذِهِ الوَصايا كُلَّها وعَمِلْتُمْ بِها وأحْبَبْتُمُ اللَّهَ رَبَّكم وسِرْتُمْ في طُرُقِهِ ولَحِقْتُمْ بِعِبادَتِهِ يُهْلِكِ الرَّبُّ المُلُوكَ كُلَّها مِن بَيْنِ أيْدِيكم وتَرِثُونَ شُعُوبًا أعْظَمَ وأعَزَّ مِنكُمْ، وكُلُّ بِلادٍ تَطَؤُها أقْدامُكم تَكُونُ لَكم بَيْنَ البَرِّيَّةِ ولُبْنانَ ومِنَ النَّهْرِ إلى الفُراتِ: النَّهْرِ الأكْبَرِ، وتَكُونُ تُخُومُكم عِنْدَ البَحْرِ الآخَرِ، ولا يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يُقاوِمَكُمْ، ويُلْقِي اللَّهُ رَبُّكم خَوْفَكم وفَزَعَكم عَلى كُلِّ الأرْضِ الَّتِي تَطَؤُونَها كَما قالَ لَكُمُ الرَّبُّ: انْظُرُوا! إنِّي أتَلُو عَلَيْكم دُعاءً ولَعْنًا، أمّا الدُّعاءُ فَتَصِيرُونَ إلَيْهِ إنْ أنْتُمْ حَفِظْتُمْ وصايا اللَّهِ رَبِّكُمْ، وأمّا اللَّعْنُ فَيُدْرِكُكم إنْ [أنْتُمْ] لَمْ تَسْمَعُوا وصايا اللَّهِ رَبِّكم وزُغْتُمْ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أمَرَكم بِهِ اليَوْمَ وتَبِعْتُمْ آلِهَةً أُخْرى لَمْ تَعْرِفُوها، وإذا أدْخَلَكُمُ اللَّهُ رَبُّكم إلى الأرْضِ الَّتِي تَدْخُلُونَها لِتَرِثُوها اتْلُوا الدُّعاءَ عَلى [جَبَلِ] حُورِيبَ واللَّعْنَ عَلى جَبَلٍ مِن حِيالِها في مَجازِ الأُرْدُنِّ خَلْفَ الطَّرِيقِ عِنْدَ مَغارِبِ الشَّمْسِ في أرْضِ الكَنْعانِيِّينَ الَّذِينَ يُسْكِنُونَ المَغْرِبَ بِإزاءِ الجِبالِ وجِبالِ بَلُّوطٍ - وفي نُسْخَةٍ: مَرْجِ مَمْرِي، لِأنَّكم تَجُوزُونَ الأُرْدُنَّ لِتَدْخُلُوا وتَرِثُوا الأرْضَ [الَّتِي] يُعْطِيكُمُ اللَّهُ رَبُّكم وتَسْكُنُونَها وتُحْفَظُونَ وتَعْمَلُونَ بِجَمِيعِ الوَصايا الَّتِي آمُرُكم بِها اليَوْمَ - انْتَهى. وفِي سِفْرِ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: ولَمّا كانَ بَعْدَ مُوسى (p-١٩٣)عَبْدِ اللَّهِ قالَ اللَّهُ لِيُوشِعَ بْنِ نُونٍ خادِمِ مُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ: مُوسى عَبْدِي ماتَ، والآنَ فَقُمْ فاعْبُرْ هَذا الأُرْدُنَّ أنْتَ وكُلُّ هَذا الشَّعْبِ إلى الأرْضِ الَّتِي أنا مُعْطِيها لِبَنِي إسْرائِيلَ، كُلُّ مَوْضِعٍ تَطَؤُهُ أرْجُلُكم لَكم أعْطَيْتُهُ، كَما قُلْتُ لِمُوسى عَبْدِي. مِنَ البَرِّ وهَذِهِ لِلُبْنانَ وإلى النَّهْرِ الكَبِيرِ نَهْرِ الفُراتِ كُلُّ أرْضِ الذّاعِرِينَ، لا يَقِفُ أحَدٌ قُدّامَكَ طُولَ أيّامِ حَياتِكَ، كَما كُنْتُ مَعَ مُوسى أكُونُ مَعَكَ، لا أدَعُكَ ولا أتْرُكُكَ، اشْتَدَّ وتَأيَّدْ، فَإنَّكَ أنْتَ تَنْحِلُ هَذا الشَّعْبَ الأرْضَ الَّتِي قُسِّمَتْ لِآبائِهِمْ لِإعْطاءِ ذَلِكَ لَهُمْ، لا يَزُولُ دَرْسُ كِتابِ هَذا الشَّرِيعَةِ مِن فِيكَ. وتَلْهَجُ بِهِ نَهارًا ولَيْلًا لِكَيْ تُحْفَظَ لِلْعَمَلِ بِجَمِيعِ المَكْتُوبِ. فَحِينَئِذٍ تَنْجَحُ طُرُقُكَ. وحِينَئِذٍ تَرْشُدُ، ألَيْسَ قَدْ أوْصَيْتُكَ؟ اشْتَدَّ وتَأيَّدْ، ولا تَرْهَبْ ولا تَنْذَعِرْ؛ لِأنَّ مَعَكَ اللَّهُ رَبُّكَ في جَمِيعِ ما تَسِيرُ فِيهِ، ووَصّى بِوَضْعِ يُوشَعَ عُرَفاءَ القَوْمِ قائِلًا: جُوزُوا في وسَطِ العَسْكَرِ ووَصُّوا القَوْمَ قائِلِينَ لَهُمْ: أعِدُّوا لَكم زادًا؛ فَإنَّكم بَعْدَ ثَلاثَةِ أيّامٍ عابِرُونَ هَذا الأُرْدُنَّ لِلدُّخُولِ لِإرْثِ الأرْضِ الَّتِي اللَّهُ رَبُّكم مُعْطِيها لَكُمْ، اذْكُرُوا ذِكْرَ القَوْلِ الَّذِي أمَرَكم بِهِ مُوسى عَبْدُ اللَّهِ قائِلًا: اللَّهُ رَبُّكم مُرِيحُكم بِما أعْطاكم هَذِهِ الأرْضَ، نِساءَكم وأطْفالَكم \ ومَواشِيَكم تَجْلِسُونَ في مُدُنِكُمُ الَّتِي أعْطاكم مُوسى عَبْدُ اللَّهِ في مَجازِ الأُرْدُنِّ [وأنْتُمْ تَجُوزُونَ مَحْزُومِي الخَواطِرِ إلى أنْ يُرِيحَ اللَّهُ إخْوَتَكم كَما أراحَكم فَتَرِثُوا أيْضًا الأرْضَ الَّتِي رَبُّكم مُعْطِيكُمْ، حِينَئِذٍ تَرْجِعُونَ إلى أرْضِ حَوْزِكُمُ الَّتِي أعْطاكم مُوسى عَبْدُ اللَّهِ في مَجازِ الأُرْدُنِّ] مَشْرِقِ الشَّمْسِ، فَأجابُوا يُوشَعُ قائِلِينَ: جَمِيعُ (p-١٩٤)ما أوْصَيْتَنا بِهِ نَعْمَلُ، كُلُّ مَوْضِعٍ تُرْسِلُنا نَمْضِي، كَجَمِيعِ ما قَبِلْنا مِن مُوسى كَذاكَ نَقْبَلُ مِنكَ. إذا كانَ اللَّهُ مَعَكَ كَما كانَ مَعَ مُوسى، كُلُّ إنْسانٍ يُخالِفُ أمْرَكَ ولا يَقْبَلُ كَلامَكَ كَجَمِيعِ ما تَأْمُرُهُ بِهِ يُقْتَلُ، فاشْتَدَّ وتَأيَّدْ. فَبَعَثَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ مِنَ الكافِرِينَ رَجُلَيْنِ جاسُوسَيْنِ في خُفْيَةٍ قائِلًا: امْضِيا! انْظُرا الأرْضَ كُلَّها مَعَ أرِيحا، فَمَضَيا ودَخَلا إلى بَيْتِ امْرَأةٍ سَوّاقَةٍ اسْمُها راحابُ واضْطَجَعا ثَمَّ، فَقِيلَ لِمَلِكِ أرِيحا: هو ذا أُناسٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ قَدْ جاءُوا. إلى هُنا اللَّيْلَةَ لِجَسِّ البَلَدِ، فَأرْسَلَ مَلِكُ أرِيحا إلى راحابَ قائِلًا: أخْرِجِي القَوْمَ الجائِينَ إلَيْكِ الَّذِينَ دَخَلُوا دارَكِ، فَإنَّهم لِجَسِّ جَمِيعِ البَلَدِ جاءُوا. فَأخَذَتِ المَرْأةُ الرَّجُلَيْنِ فَأخْفَتْ أمَرَهُما وقالَتْ: كَذاكَ كانَ القَوْمُ جاءُوا إلَيَّ ولَمْ أعْلَمْ مِن أيْنَ هُمْ؟ وكانَ عِنْدَ إغْلاقِ البابِ في الظَّلامِ. ثُمَّ خَرَجَ القَوْمُ ولَمْ أعْلَمْ أيْنَ مَضَوْا؟ اطْلُبُوهم بِسُرْعَةٍ فَإنَّكم تَلْحَقُونَهُمْ؛ ثُمَّ أصْعَدَتْهُما إلى السَّطْحِ وظَهَّرَتْهُما في قَشِّ الكَتّانِ. والقَوْمُ طَلَبُوهُما في طَرِيقِ الأُرْدُنِّ إلى المَعابِرِ - وفي نُسْخَةٍ: إلى المَخاضاتِ - والبابَ أغْلَقُوا بَعْدَ ما خَرَجَ الطّالِبُونَ خَلْفَهُما. وهُما قَبْلَ أنْ يَناما صَعِدَتْ إلَيْهِما راحابُ إلى السَّطْحِ فَقالَتْ لَهُما: قَدْ عَلِمْتُ أنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إلَيْكُمُ البَلَدَ، وأنَّهُ قَدْ وقَعَتْ هَيْبَتُكم عَلَيْنا. وقَدْ ماجَ جَمِيعُ سُكّانِ البَلَدِ مِن قِبَلِكم. وإنّا [قَدْ] سَمِعْنا أنَّ اللَّهَ أيْبَسَ لَكم (p-١٩٥)بَحْرَ القُلْزُمِ عَقِبَ خُرُوجِكم مِن مِصْرَ وما عَمِلْتُمْ بِمَلِكَيِ الأُمُورانِيِّينَ الَّذِي في مَجازِ الأُرْدُنِّ: سِيحُونَ وعُوجَ اللَّذَيْنِ اصْطَلَمْتُمُوهُما، فَعِنْدَ ما سَمِعْنا ذابَتْ قُلُوبُنا ولَمْ يَثْبُتْ أيْضًا رُوحٌ في واحِدٍ مِنّا مِن جِهَتِكُمْ، فَإنَّ اللَّهَ رَبَّكم هو إلَهُ مَن في السَّماواتِ مِن فَوْقُ، ومَن عَلى الأرْضِ مِن تَحْتُ، والآنَ فاحْلِفُوا بِاسْمِ اللَّهِ إذْ قَدْ عَمِلْتُ مَعَكُما فَضْلًا، فَتَعْمَلا أيْضًا أنْتُما مَعَ أهْلِ أبِي فَضْلًا، وتُعْطِيانِي عَلامَةً هي حَقٌّ. لِتَسْتَبْقُوا أبِي وأُمِّي وإخْوَتِي وجَمِيعَ مَنِ التَصَقَ بِهِمْ، وتُخَلِّصُوا أنْفُسَنا مِنَ القَتْلِ. فَقالا لَها: نَبْذُلُ أنْفُسَنا دُونَكم لِلْمَوْتِ إنْ لَمْ تُخْبِرُوا بِخَبَرِنا هَذا. فَيَكُونُ عِنْدَ تَسْلِيمِ اللَّهِ لَنا البَلَدَ نَعْمَلُ مَعَكِ فَضْلًا وأمانَةً؛ فَأحْدَرَتْهُما بِالحَبْلِ مِن داخِلِ الطّاقَةِ إذْ مَنزِلُها في حائِطِ السُّورِ. وفي السُّورِ هي ساكِنَةٌ. وقالَتْ لَهُما: سِيرا إلى الجَبَلِ كَيْلا يَلْقاكُما الطّالِبُونَ، وبَعْدَ ذَلِكَ سِيرا لِطَرِيقِكُما، فَقالا لَها: أبْرِياءُ نَحْنُ مِن قَسَمِكِ هَذا الَّذِي اسْتَقْسَمْتِنا إنْ لَمْ تَفْعَلِي ما نَقُولُ لَكِ، هو ذا نَحْنُ داخِلُونَ إلى البَلَدِ فاعْقِدِي خُصْلَةَ خَيْطٍ مِنَ القِرْمِزِ في الطّاقَةِ الَّتِي أخْبَرْتِنا مِنها، وأبُوكِ وأُمُّكِ وإخْوَتُكِ وكُلُّ بَيْتِ أبِيكِ تَضُمِّينَ إلَيْكِ إلى المَنزِلِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَن يَخْرُجُ مِن أبْوابِ مَنزِلِكِ إلى خارِجٍ دَمُهُ في عُنُقِهِ ونَحْنُ أبْرِياءُ، وكُلُّ مَن يَكُونُ مَعَكِ في المَنزِلِ دَمُهُ في أعْناقِنا إنْ بَطَشَتْ بِهِ يَدٌ. وإنْ أخْبَرْتِ بِخَبَرِنا (p-١٩٦)هَذا فَنَحْنُ أبْرِياءُ مِن قَسَمِكِ الَّذِي اسْتَقْسَمْتِنا، فَقالَتْ: كَما قُلْتُما، فَأطْلَقَتْهُما ومَضَيا، وعَقَدَتْ خُصْلَةَ القِرْمِزِ في الطّاقَةِ، فَمَضَيا إلى الجَبَلِ وجَلَسا ثَمَّ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلى أنْ رَجَعَ الطّالِبُونَ ولَمْ يَجِدُوهُما. ورَجَعَ الرَّسُولانِ وانْحَدَرا مِنَ الجَبَلِ وجازا الأُرْدُنَّ وجاءا إلى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ وقَصّا لَهُ كُلَّ ما وافاهُما وقالا لِيُوشَعَ: إنَّ اللَّهَ دَفَعَ بِأيْدِينا كُلَّ الأرْضِ، وقَدْ ماجَ جَمِيعُ ساكِنِها مِنّا؛ وأدْلَجَ يُوشَعُ بِالغَداةِ ورَحَلُوا مِنَ الكَفْرَيْنِ، وجاءُوا إلى الأُرْدُنِّ هو وجَمِيعُ بَنِي إسْرائِيلَ وباتُوا ثُمَّ قَبْلَ أنْ يَجُوزُوا. فَلَمّا كانَ بَعْدَ ثَلاثَةِ أيّامٍ جازَ النُّقَباءُ في وسَطِ العَسْكَرِ وأمَرُوا القَوْمَ قائِلِينَ لَهُمْ: عِنْدَ نَظَرِكم صُنْدُوقُ عَهْدِ اللَّهِ رَبِّكم والأئِمَّةِ الأوَّلِينَ حامِلِينَ لَهُ أنْتُمْ تَرْحَلُونَ مِن مَوْضِعِكم وتَمْشُونَ خَلْفَهُ، لَكِنْ بَيْنَكم وبَيْنَهُ بَعْدُ مِقْدارُ ألْفَيْ ذارِعٍ بِالمِساحَةِ، لا تَقْرَبُوا مِنهُ لِأجْلِ أنْ تَعْرِفُوا الطَّرِيقَ الَّتِي تَمْشُونَ فِيها إذْ لَمْ تَمْشُوا فِيها أمْسِ وأوَّلَ أمْسِ. وقالَ يُوشَعُ لِلْقَوْمِ: اسْتَعِدُّوا؛ فَإنَّ غَدًا يَعْمَلُ اللَّهُ في وسَطِكم عَجائِبَ، وقالَ يُوشَعُ لِلْأئِمَّةِ: احْمِلُوا صُنْدُوقَ العُهَدِ وجُوزُوا قُدّامَ القَوْمِ. فَحَمَلُوا صُنْدُوقَ العَهْدِ وسارُوا قُدّامَ القَوْمِ، وقالَ اللَّهُ لِيُوشَعَ: هَذا اليَوْمَ أبْتُدِئُ بِتَعْظِيمِ اسْمِكَ بِحَضْرَةِ جَمِيعِ إسْرائِيلَ لِكَيْ يَعْلَمُوا أنِّي كَما كُنْتُ مَعَ مُوسى أكُونُ مَعَكَ؛ وقالَ يُوشَعُ لِبَنِي إسْرائِيلَ: تَقَدَّمُوا (p-١٩٧)هاهُنا واسْمَعُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ؛ قالَ يُوشَعُ: بِهَذِهِ الخَلَّةِ تَعْرِفُونَ أنَّ قادِرًا حَيًّا لِذاتِهِ في وسَطِكُمْ، وأنْ قارِضًا يُقْرِضُ مِن قُدّامِكم قَبائِلَ الأُمَمِ: الكَنْعانِيِّينَ والذّاعِرِينَ - وفي نُسْخَةٍ: الحاثِيِّينَ المَنسُوبِينَ إلى حاثٍّ جَدِّهِمْ - والحُوِيِّينَ أيِ الفُصَحاءَ البُلَغاءَ - وفي نُسْخَةٍ: المُجْتَمِعِينَ إلى الحَيِّ - والرَّبَضِيِّينَ والفَلّاحِينَ والأمُورانِيِّينَ - أيِ الرُّؤَساءَ - واليَبُوسِيِّينَ - أيِ الجَبّارِينَ القاهِرِينَ، ها هو ذا صُنْدُوقُ العَهْدِ، سَيِّدُ كُلِّ الأرْضِ جائِزٌ قُدّامَكم في الأُرْدُنِّ [والآنَ] خُذُوا لَكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِن أسْباطِ إسْرائِيلَ: رَجُلًا واحِدًا مِن كُلِّ سِبْطٍ، ويَكُونُ عِنْدَ قَرارِ أقْدامِ أرْجُلِ الأئِمَّةِ حامِلِي صُنْدُوقِ العَهْدِ سَيِّدُ كُلِّ الأرْضِ في مِياهِ الأُرْدُنِّ مِنَ الأمْرِ العَظِيمِ أنَّهُ تَنْقَطِعُ مِياهُ الأُرْدُنِّ المُنْحَدِرَةُ مِن فَوْقُ وتَقِفُ طَوْدًا واحِدًا كَأنَّها في زِقٍّ مَحْصُورَةٌ. ولَمّا ارْتَحَلَ الشَّعْبُ وقَطَّعُوا خِيَمَهم لِيَجُوزُوا الأُرْدُنَّ سارَ الكَهَنَةُ الَّذِينَ حَمَلُوا التّابُوتَ أمامَ الشَّعْبِ، فَلَمّا انْتَهَوْا إلى الأُرْدُنِّ [وكانَ مُمْتَلِئًا يَفِيضُ كُلَّ أيّامِ الحَصادِ انْشَقَّ الأُرْدُنُّ] وقامَ الماءُ الَّذِي كانَ يَنْحَدِرُ مِن فَوْقُ كَأنَّهُ في زِقٍّ ناحِيَتَهُ، وتَباعَدَ عَنْ قَرْيَةِ إدامَ الَّتِي عِنْدَ صَرِيمٍ (p-١٩٨)جِدًّا، والَّذِي كانَ يَجْرِي إلى البَحْرِ العَرَبِيِّ الَّذِي يُدْعى بَحْرَ المِلْحِ انْشَقَّ وحارَ وانْقَطَعَ، وجازَ الشَّعْبُ حِيالَ أرِيحا، وقامَ الكَهَنَةُ الذِّيمُ حَمَلُوا تابُوتَ العَهْدِ في الأُرْدُنِّ يابِسًا حَتّى عَبَرَ جَمِيعُ الشَّعْبِ بَحْرَ الأُرْدُنِّ؛ فَلَمّا جازَ الشَّعْبُ جَمِيعًا قالَ الرَّبُّ لِيُوشَعَ: اعْمَدْ إلى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الشَّعْبِ: مِن كُلِّ سِبْطٍ رَجُلٌ واحِدٌ، وقُلْ لَهُمْ: خُذُوا مِن هاهُنا مِن جَوْفِ الأُرْدُنِّ مِن تَحْتِ أقْدامِ الكَهَنَةِ اثْنَيْ عَشَرَ حَجَرًا وعَبِّرُوها مَعَكم وانْصِبُوها في مَوْضِعِ المَبِيتِ الَّذِي تَبِيتُونَ فِيهِ اللَّيْلَةَ، فَأمَرَهم يُوشَعُ [بِذَلِكَ] وأنْ يَحْمِلَ كُلُّ رَجُلٍ حَجَرَهُ عَلى عاتِقِهِ، فَأخَذُوها إلى مَوْضِعِ مَبِيتِهِمْ ونَصَبُوها هُناكَ، فَمَكَثَتِ الحِجارَةُ - الَّتِي أخَذُوها مِنَ الأُرْدُنِّ مِن تَحْتِ أقْدامِ الكَهَنَةِ الَّذِينَ حَمَلُوا التّابُوتَ - مَوْضُوعَةً هُناكَ إلى اليَوْمِ؛ والكَهَنَةُ الَّذِينَ حَمَلُوا التّابُوتَ كانُوا قِيامًا حَتّى تَمَّتْ جَمِيعُ الأقْوالِ الَّتِي أمَرَ الرَّبُّ يَشُوعَ أنْ يَقُصَّ عَلى الشَّعْبِ كَما أوْصى مُوسى يَشُوعَ، وعَجِلَ الشَّعْبُ عَلى المَجازِ وجازُوا، فَلَمّا جازَ جَمِيعُ الشَّعْبِ وجازَ الكَهَنَةُ الَّذِينَ كانُوا حامِلِينَ التّابُوتَ أمامَ الشَّعْبِ وجازَ بَنُو رُوبالَ وبَنُو جادَ ونِصْفُ سِبْطِ مَنسا، وهم مُتَسَلِّخُونَ أمامَ إخْوَتِهِمْ - كَما أُمِرَ مُوسى - أرْبَعُونَ ألْفًا ذَوُو قُوَّةٍ، جازُوا أمامَ الرَّبِّ إلى قاعِ أرِيحا لِلْمُحارَبَةِ. في ذَلِكَ (p-١٩٩)اليَوْمَ عَظُمَ يَشُوعُ عِنْدَ جَمِيعِ بَنِي إسْرائِيلَ وفَرَقُوهُ كَفَرَقِهِمْ مِن مُوسى طُولَ أيّامِ حَياتِهِ، وقالَ الرَّبُّ لِيَشُوعَ: مُرِ الكَهَنَةَ الَّذِينَ حَمَلُوا تابُوتَ الشَّهادَةِ يَصْعَدُوا مِنَ الأُرْدُنِّ، فَأمَرَهُمْ، فَلَمّا صَعَدُوا رَجَعَ ماءُ الأُرْدُنِّ إلى مَواضِعِهِ أوَّلَ ما اسْتَقَرَّتْ أقْدامُ الكَهَنَةِ في الشَّطِّ وجَرى في سَواحِلِ الأُرْدُنِّ كَما كانَ أوَّلًا، فَصَعِدُوا مِنَ الأُرْدُنِّ في عَشْرٍ خَلَتْ مِنَ الشَّهْرِ الأوَّلِ - قُلْتُ: وهو نِيسانُ عَلى ما قالَ بَعْضُ فُضَلاءِ اليَهُودِ - ونَزَلُوا الجَلْجالَ أقْصى مَشارِقِ أرِيحا، فَأمّا الِاثْنا عَشَرَ حَجَرًا الَّتِي أخَذُوها مِنَ الأُرْدُنِّ فَنَصَبَها يَشُوعُ في الجَلْجالِ، وقالَ يَشُوعُ لِبَنِي إسْرائِيلَ: إذا سَألَكم بَنُوكم غَدًا وقالُوا لَكُمْ: ما هَذِهِ الحِجارَةُ؟ قُولُوا لَهُمْ: إنَّ بَنِي إسْرائِيلَ فُلِقَ لَهُ هَذا الأُرْدُنُّ فَجازُوهُ يابِسًا، لِأنَّ اللَّهَ رَبَّكم يَبَّسَ ماءَ الأُرْدُنِّ أمامَهم حَتّى جازُوهُ كَما فَعَلَ اللَّهُ رَبُّكم بِبَحْرِ سَوْفَ الَّذِي يَبَّسَهُ أمامَنا حَتّى جُزْناهُ لِيَعْلَمَ جَمِيعُ شُعُوبِ الأرْضِ أنَّ يَدَ الرَّبِّ قَوِيَّةٌ، وتَتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكم كُلَّ الأيّامِ. فَلَمّا سَمِعَ جَمِيعُ مُلُوكِ الأُمُورانِيِّينَ [الَّذِينَ في جانِبِ الأُرْدُنِّ الغَرْبِيِّ وجَمِيعُ مُلُوكِ الكَنْعانِيِّينَ الَّذِينَ] عَلى شاطِئِ البَحْرِ أنَّ الرَّبَّ يَبَّسَ ماءَ الأُرْدُنِّ أمامَ بَنِي إسْرائِيلَ حَتّى جازُوا، فَزِعَتْ قُلُوبُهم ولَمْ يَبْقَ فِيهِمْ رَمَقٌ فَزَعًا مِن بَنِي إسْرائِيلَ وفي ذَلِكَ الزَّمانِ قالَ الرَّبُّ لِيَشُوعَ: اتَّخِذْ سَيْفًا مِن طُورانَ واخْتِنْ بَنِي إسْرائِيلَ ثانِيَةً، فَخَتَنَ بَنِي إسْرائِيلَ ثانِيَةً في أكَمَةِ (p-٢٠٠)الغُلْفِ، والَّذِي خَتَنَ يَشُوعَ جَمِيعُ الذُّكُورَةِ [الَّذِينَ] كانُوا وُلِدُوا في البَرِّيَّةِ حِينَ خَرَجُوا مِن أرْضِ مِصْرَ، لِأنَّ جَمِيعَ الرِّجالِ الأبْطالِ المُقاتِلَةِ هَلَكُوا في البَرِّيَّةِ [لِأنَّهُمْ] لَمْ يُطِيعُوا اللَّهَ رَبَّهم وكانُوا كُلُّهم مُخْتَتِنِينَ، فَأقْسَمَ الرَّبُّ عَلَيْهِمْ أنْ لا يُرِيَهُمُ الأرْضَ الَّتِي وعَدَ آباءَهم أنْ يُعْطِيَهُمُوها الأرْضُ الَّتِي تَغُلُّ السَّمْنَ والعَسَلَ، فَبَنُوهُمُ الَّذِينَ كانُوا مِن بَعْدِهِمْ [هُمْ] الَّذِينَ خَتَنَ يَشُوعُ لِأنَّهم كانُوا غُلْفًا. فَلَمّا خَتَنَ جَمِيعَ الشَّعْبِ مَكَثُوا مَواضِعَهم في المُعَسْكَرِ حَتّى بَرِئُوا، وقالَ الرَّبُّ لِيَشُوعَ: اليَوْمَ صَرَفْتُ عَنْكم عارَ أهْلِ مِصْرَ، ودَعا اسْمَ ذَلِكَ المَوْضِعِ جَلْجالًا، ونَزَلَ بَنُو إسْرائِيلَ الجَلْجالَ وعَلِمُوا فِصْحًا في أرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنَ الشَّهْرِ الأوَّلِ عِنْدَ المَساءِ في قاعِ أرِيحا وأكَلُوا مِن بُرِّ الأرْضِ بَعْدَ الفِصْحِ وأكَلُوا في ذَلِكَ اليَوْمِ فَطِيرًا وسُنْبُلًا مَقْلُوًّا، وارْتَفَعَ المَنُّ عَنْ بَنِي إسْرائِيلَ مُنْذُ ذَلِكَ اليَوْمِ حَيْثُ أكَلُوا مِن بُرِّ الأرْضِ ولَمْ يَنْزِلِ المَنُّ لِبَنِي إسْرائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ اليَوْمِ وأكَلُوا مِن بُرِّ الأرْضِ وغَلّاتِ أرْضِ كَنْعانَ في تِلْكَ السَّنَةِ. وبَيْنا [كانَ] يَشُوعُ في قاعِ أرِيحا قائِمًا إذْ نَظَرَ رَجُلًا قائِمًا إزاءَهُ مُخْتَرِطًا سَيْفَهُ مُمْسِكَهُ بِيَدِهِ، فَأقْبَلَ يَشُوعُ إلَيْهِ وقالَ لَهُ: أنْتَ مِنّا أمْ مِن أعْدائِنا؟ قالَ: أنا سَيِّدُ أجْنادِ الرَّبِّ، الآنَ أتَيْتُكَ، فَخَرَّ يَشُوعُ ساجِدًا عَلى وجْهِهِ عَلى الأرْضِ وقالَ: ما الَّذِي يَقُولُ السَّيِّدُ (p-٢٠١)لِعَبْدِهِ؟ قالَ: اخْلَعْ خُفَّيْكَ عَنْ قَدَمَيْكَ؛ فَإنَّ المَوْضِعَ الَّذِي أنْتَ قائِمٌ فِيهِ طاهِرٌ، فَفَعَلَ يَشُوعُ ذَلِكَ؛ وكانَ بَنُو إسْرائِيلَ قَدْ حاصَرُوا أرِيحا، ولَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ أحَدٌ مِن أهْلِها يَدْخُلُ ولا يَخْرُجُ، قالَ الرَّبُّ لِيُوشَعَ: انْظُرْ! إنِّي قَدْ دَفَعْتُ في يَدِكَ أرِيحا ومُلْكَها وكُلَّ أجْنادِها، فَلْيُحِطْ بِالمَدِينَةِ جَمِيعُ الرِّجالِ المُقاتِلَةِ، ودُورُوا حَوْلَ المَدِينَةِ مَرَّةً في اليَوْمِ، وافْعَلُوا ذَلِكَ سِتَّةَ أيّامٍ، ويَحْمِلُ سَبْعَةٌ مِنَ الكَهَنَةِ سَبْعَةَ أبْواقٍ ويَهْتِفُونَ أمامَ التّابُوتِ، حَتّى إذا كانَ اليَوْمُ السّابِعُ دُورُوا حَوْلَ المَدِينَةِ سَبْعَ مَرّاتٍ ويَهْتِفُ الكَهَنَةُ بِالقُرُونِ، فَإذا هَتَفَتِ الأبْواقُ وسَمِعْتُمْ أصْواتَها يَهْتِفُ جَمِيعُ الشَّعْبِ بِأعْلى أصْواتِهِمْ صَوْتًا شَدِيدًا، فَيَقَعُ سُورُ المَدِينَةِ مَكانَهُ، ويَصْعَدُ الشَّعْبُ كُلُّ إنْسانٍ حِيالَهُ، فَدَعا يَشُوعُ الكَهَنَةَ وقالَ لَهُمُ: احْمِلُوا تابُوتَ الرَّبِّ عَهْدَ الرَّبِّ ويَحْمِلُ سَبْعَةٌ مِنَ الكَهَنَةِ سَبْعَةَ قُرُونٍ ويَنْفُخُونَ فِيها أمامَ تابُوتِ الرَّبِّ، ثُمَّ قالَ لِلشَّعْبِ: دُورُوا حَوْلَ المَدِينَةِ، والمُتَسَلِّخُونَ يَجُوزُونَ أمامَ تابُوتِ الرَّبِّ، فَحَمَلَ سَبْعَةٌ مِنَ الكَهَنَةِ سَبْعَةَ قُرُونٍ وهَتَفُوا أمامَ تابُوتِ الرَّبِّ فَلَمْ يَزالُوا يَنْفُخُونَ في القُرُونِ، والَّذِينَ كانُوا يَحْمِلُونَ التّابُوتَ يَتَّبِعُونَ أصْحابَ الأبْواقِ والمُتَسَلِّخُونَ يَسِيرُونَ أمامَ الكَهَنَةِ الَّذِي يَهْتِفُونَ بِالقُرُونِ ويَسِيرُونَ [أمامَ] التّابُوتِ. وقالَ يَشُوعُ لِلشَّعْبِ: لا تَهْتِفُوا، ولا تَسْمَعُوا أصْواتَكُمْ، ولا تَخْرُجْ كَلِمَةٌ مِن أفْواهِكم إلى [اليَوْمِ] الَّذِي آمُرُكم أنْ تَهْتِفُوا. فَدارَتِ الجَماعَةُ بِالتّابُوتِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً (p-٢٠٢)كَما أمَرَهم يَشُوعُ، فَلَمّا كانَ اليَوْمُ السّابِعُ أدْلَجُوا سَحَرًا وأحاطُوا بِالمَدِينَةِ كَسُنَّتِهِمْ ولَكِنْ في ذَلِكَ اليَوْمِ السّابِعِ دارُوا حَوْلَها سَبْعَ مَرّاتٍ، وفي المَرَّةِ السّابِعَةِ هَتَفَ الكَهَنَةُ بِالقُرُونِ وقالَ يَشُوعُ لِلشَّعْبِ: اهْتِفُوا لِأنَّ الرَّبَّ قَدْ دَفَعَ المَدِينَةَ في أيْدِيكُمْ، ولَكِنْ صَيِّرُوا هَذِهِ المَدِينَةَ وكُلَّ ما فِيها حَرِيمَةً لِلرَّبِّ، لا يَمَسُّهُ إنْسانٌ مِنكُمْ، وأبْقُوا عَلى راحابَ الزّانِيَةِ - يَعْنِي القِنْدِقانِيَّةَ كَما أخْبَرَنِي بَعْضُ فُضَلائِهِمْ، ويُؤَيِّدُهُ التَّعْبِيرُ عَنْها فِيما مَضى بِالسَّوّاقَةِ واللَّهُ أعْلَمُ - وعَلى كُلِّ مَن مَعَها في بَيْتِها لِأنَّها غَيَّبَتِ الدِّسِّيسَيْنِ اللَّذَيْنِ أرْسَلْنا، فَأمّا أنْتُمْ فاحْتَفِظُوا مِنَ الحَرامِ، ولا تُنَجِّسُوا أنْفُسَكم بِأكْلِ الحَرامِ، فَتَصِيرُوا عَسْكَرَ بَنِي إسْرائِيلَ \ حَرامًا، فَنَفَخُوا في القُرُونِ فَلَمّا سَمِعَ الشَّعْبُ صَوْتَ الأبْواقِ ضَجُّوا كُلُّهم ضَجَّةً واحِدَةً شَدِيدَةً جِدًّا، فَوَقَعَ سُورُ المَدِينَةِ فَصَعِدَ الشَّعْبُ إلى المَدِينَةِ كُلُّ إنْسانٍ حِيالَهُ، فافْتَتَحُوها وقَتَلُوا كُلَّ مَن فِيها رِجالَها ونِساءَها والمَشْيَخَةَ والصِّبْيانَ والثِّيرانَ والحَمِيرَ والغَنَمَ، قَتَلُوها بِالسَّيْفِ، وأمّا الرَّجُلانِ اللَّذانِ اجْتَسّا الأرْضَ فَقالَ لَهم يَشُوعُ: ادْخُلا إلى بَيْتِ المَرْأةِ الزّانِيَةِ - يَعْنِي القِنْدِقانِيَّةَ كَما مَضى - فَأخْرِجاها وأخْرِجا كُلَّ مَن مَعَها في البَيْتِ كَما حَلَفْتُما لَها، فَفَعَلُوا وأنْزَلُوهم خارِجَ عَسْكَرِ بَنِي إسْرائِيلَ وأحْرَقُوا المَدِينَةَ وكُلَّ مَن فِيها بِالنّارِ، وأحْيا يَشُوعُ الزّانِيَةَ ووالِدَيْها وكُلَّ مَن مَعَها، وأقْسَمَ يَشُوعُ في ذَلِكَ الزَّمانِ ولَعَنَ وقالَ: مَلْعُونًا يَكُونُ (p-٢٠٣)أمامَ الرَّبِّ [الرَّجُلُ الَّذِي يَقُومُ يَبْنِي مَدِينَةَ أرِيحا هَذِهِ، وكانَ الرَّبُّ] بِعَوْنِهِ مَعَ يَشُوعَ ونَصْرِهِ، وشاعَ خَبَرُهُ في الأرْضِ كُلِّها، وأثِمَ بَنُو إسْرائِيلَ وتَناوَلُوا مِنَ الحَرامِ، وذَلِكَ لِأنَّ عاجارَ بْنَ كَرْمى بْنِ زَبَدِي بْنِ زَرْحَ مِن قَبِيلَةِ يَهُودا نَحَرَ وأخَذَ مِنَ الحَرامِ وغَيَّبَ في خَيْمَتِهِ، فاشْتَدَّ غَضَبُ الرَّبِّ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، ثُمَّ أرْسَلَ يَشُوعُ رِجالًا إلى عايَ الَّتِي عِنْدَ بَيْتِ آوِنَ مِن مَشارِقِ بَيْتِ إلْ لِيَجْتَسُّوها، فَقالُوا لَهُ: إنَّهُ يُجْزِئُ في أخْذِها ألْفانِ أوْ ثَلاثَةٌ لِأنَّ أهْلَها قَلِيلٌ، فَصَعِدُوا فَحارَبُوهم عِنْدَ بابِ المَدِينَةِ فانْهَزَمَ بَنُو إسْرائِيلَ وجُرِحَ مِنهم جَرْحى كَثِيرٌ - فَذَكَرَ القِصَّةَ في سُجُودِ يَشُوعَ وانْزِعاجَهُ وإخْبارَ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ أنَّ قَوْمَهُ غَلُّوا، ثُمَّ أمَرَهُ بِالقُرْعَةِ حَتّى خَرَجَ الَّذِي عِنْدَهُ الغُلُولُ وهو عاجارُ، وكانَ غُلُولُهُ طَنْفَسَةً بابِلِيَّةً ومِائَتَيْ مِثْقالِ فِضَّةٍ وسَبِيكَةً مِن ذَهَبٍ فِيها خَمْسُونَ مِثْقالًا، فَأخْرَجَهُ يَشُوعُ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ هو لَهُ، وقَدْ مَضى ذَلِكَ في البَقَرَةِ عِنْدَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَياةَ الدُّنْيا بِالآخِرَةِ﴾ [البقرة: ٨٦] وتَقَدَّمَ في المائِدَةِ فَتْحُ بَعْضِ بِلادِ [بَيْتِ] المَقْدِسِ بِأُعْجُوبَةٍ أُخْرى واسْتَمَرُّوا هَكَذا يَفْتَحُونَها بَلَدًا بَعْدَ بَلَدٍ، ويَقْتُلُونَ مِن جَبابِرَتِها عَدَدًا بَعْدَ عَدَدٍ، ويَرَوْنَ في ذَلِكَ مِن عَجائِبِ الأُمُورِ وبَدائِعِ المَقْدُورِ ما يَبْقى عَلى كَرِّ الآبادِ ومَرِّ الدُّهُورِ، وهم في أثْناءِ ذَلِكَ كُلَّ قَلِيلٍ يَكْفُرُونَ (p-٢٠٤)ويَنْقُضُونَ العُهُودَ ولا يَشْكُرُونَ كَما هو مُبَيَّنٌ في سِفْرِ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وقَدْ مَضى شَيْءٌ مِنهُ في المائِدَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَعَمُوا وصَمُّوا﴾ [المائدة: ٧١] - الآيَةَ. كُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ أنْ جاءَهم مِنَ العِلْمِ ما لا تَدْخُلُهُ مِرْيَةٌ لا يُخالِطُهُ شَكٌّ ولا يَدْنُو مِنهُ لَبْسٌ، فَتَبارَكَ مَن لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ، لا مُضِلَّ لِمَن هَدى ولا هادِيَ لِمَن يُضِلُّهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب