الباحث القرآني

ولَمّا أمَرَ بِالتَّأنِّي الَّذِي هو نَتِيجَةُ العِلْمِ، عَطَفَ عَلى ذَلِكَ الإخْبارِ بِالِاسْتِجابَةِ قَوْلَهُ: ﴿وجاوَزْنا﴾ أيْ: فَعَلْنا بِعَظَمَتِنا في إجازَتِهِمْ فِعْلَ المُناظِرِ لِلْآخَرِ المُبارِي لَهُ، ودَلَّ بِإلْصاقِ الباءِ بِهِمْ عَلى مُصاحَبَتِهِ سُبْحانَهُ لَهم دَلالَةً عَلى رِضاهُ بِفِعْلِهِمْ فَقالَ: ﴿بِبَنِي إسْرائِيلَ﴾ أيْ: عَبْدِنا المُخْلِصِ لَنا ﴿البَحْرَ﴾ إعْلامًا بِأنَّهُ أمَرَهم بِالخُرُوجِ مِن مِصْرَ وأنْجَزَ لَهم ما وعَدَ فَأهْلَكَ فِرْعَوْنَ ومَلَأهُ بِاتِّباعِهِمْ سَبِيلَ مَن لا يَعْلَمُ بِطَيْشِهِمْ وعَدَمِ صَبْرِهِمْ، ونَجّى بَنِي إسْرائِيلَ بِصَبْرِهِمْ وخُضُوعِهِمْ؛ والِالتِفاتُ مِنَ الغَيْبَةِ إلى التَّكَلُّمِ لِما في هَذِهِ المُجاوَزَةِ ومُقَدِّماتِها ولَواحِقِها مِن مَظاهِرِ العَظَمَةِ ونُفُوذِ الأوامِرِ ومُضاءِ الأحْكامِ؛ وبَيَّنَ سُبْحانَهُ كَيْفِيَّةَ إظْهارِ اسْتِجابَةِ الدَّعْوَةِ بِقَوْلِهِ مُسَبَّبًا عَنِ المُجاوَزَةِ: (p-١٨٤)﴿فَأتْبَعَهُمْ﴾ أيْ: بَنِي إسْرائِيلَ ﴿فِرْعَوْنُ وجُنُودُهُ﴾ أيْ: أوْقَعُوا تَبَعَهم أيْ حَمَلُوا نُفُوسَهم عَلى تَبَعِهِمْ، وهو السَّيْرُ في أثَرِهِمْ، واتَّبَعَهُ - إذا سَبَقَهُ فَلَحِقَهُ، ويُقالُ: تَبِعَهُ في الخَيْرِ واتَّبَعَهُ في الشَّرِّ. ولَمّا أُفْهِمَ ذَلِكَ، صَرَّحَ بِهِ فَقالَ: ﴿بَغْيًا﴾ أيْ: تَعَدِّيًا لِلْحَقِّ واسْتِهانَةً بِهِمْ ﴿وعَدْوًا﴾ أيْ: ظُلْمًا وتَجاوُزًا لِلْحَدِّ. ولَمّا كانَ فاعِلُ ذَلِكَ جَدِيرًا بِأنْ يَرْجِعَ عَمّا سَلَكَهُ مِنَ الوُعُورَةِ، عَجِبَ مِنهُ في تَمادِيهِ فَقالَ - عاطِفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: [واسْتَمَرَّ] يَتَمادى في ذَلِكَ -: ﴿حَتّى﴾ ولَمّا كانَتْ رُؤْيَةُ انْفِراجِ البَحْرِ عَنْ مَواضِعِ سَيْرِهِمْ مَظِنَّةَ تَحَقُّقِ رُجُوعِ الماءِ إلى مَواضِعِهِ فَيَغْرَقُ، عَبَّرَ بِأداةِ التَّحَقُّقِ فَقالَ: ﴿إذا أدْرَكَهُ﴾ أيْ: قَهَرَهُ وأحاطَ بِهِ ﴿الغَرَقُ﴾ أيِ المَوْتُ بِالماءِ كَما سَألَ مُوسى [فِي] أنَّهُ لا يُؤْمِنُ حَتّى يَرى العَذابَ الألِيمَ ﴿قالَ آمَنتُ﴾ أيْ: أوْقَعْتُ إيمانَ الدّاعِي لِي مِنَ التَّكْذِيبِ؛ ثُمَّ عَلَّلَ إيمانَهُ بِقَوْلِهِ مُبْدَلًا مِن ”آمَنتُ“ في قِراءَةِ حَمْزَةَ والكِسائِيِّ بِالكَسْرِ مُؤَكِّدًا مِن شِدَّةِ الجَزَعِ: ﴿أنَّهُ﴾ [و] عَلى تَقْدِيرِ الباءِ تَعْلِيلًا في قِراءَةِ الجَماعَةِ؛ أيْ: مُعْتَرِفًا بِأنَّهُ ﴿لا إلَهَ إلا الَّذِي﴾ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أوْقَعَ ﴿آمَنتُ﴾ عَلى ﴿أنَّهُ﴾ وما بَعْدَها - أيْ ﴿آمَنتُ﴾ نَفْيَ الإلَهِيَّةِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ مَنِ اسْتَثْنَيْتُهُ مِن أنْ أُعَبِّرَهُ أوْ أرْجِعَ عَنْهُ. ولَمّا كانَ قَدْ تَحَقَّقَ الهالِكُ وعَلِمَ أنَّهُ لا نَجاةَ إلّا بِالصِّدْقِ، أرادَ الإعْلامَ (p-١٨٥)بِغايَةِ صِدْقِهِ فَقالَ: ﴿آمَنتُ﴾ أيْ: أوْقَعْتُ التَّصْدِيقَ مُعْتَرِفَةً ﴿بِهِ بَنُو إسْرائِيلَ﴾ فَعَيَّنَهُ تَعْيِينًا أزالَ الِاحْتِمالَ؛ ثُمَّ قالَ: ﴿وأنا مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ فَكَرَّرَ قَبُولَ ما كانَ دُعِيَ إلَيْهِ فَأباهُ اسْتِكْبارًا، وعَبَّرَ بِما دَلَّ عَلى ادِّعاءِ الرُّسُوخِ فِيهِ بَيانًا لِأنَّهُ ذُلَّ ذُلًّا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ الكِبْرِ ولَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ لِفَواتِ شَرْطِهِ، فاتَّصَلَ ذُلُّهُ ذَلِكَ بَذْلِ الخِزْيِ في البَرْزَخِ وما بَعْدَهُ، وقَدْ كانَتِ المَرَّةُ الواحِدَةُ كافِيَةً لَهُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وزادَهُ تَعالى ذُلًّا بِالإيئاسِ مِنَ الفَلاحِ بِقَوْلِهِ عَلى لِسانِ الحالِ أوْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أوْ مَلَكِ المَوْتِ أوْ غَيْرِهِ مِنَ الجُنُودِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ: ﴿آلآنَ﴾ أيْ: أتُجِيبُ إلى ما دُعِيتَ إلَيْهِ في هَذا الحِينِ الَّذِي لا يَنْفَعُ فِيهِ الإجابَةُ لِفَواتِ الإيمانِ بِالغَيْبِ الَّذِي لا يَصِحُّ أنْ يَقَعَ اسْمُ الإيمانِ إلّا عَلَيْهِ ﴿وقَدْ﴾ أيْ: والحالُ أنَّكَ قَدْ ﴿عَصَيْتَ﴾ أيْ: بِالكُفْرِ ﴿قَبْلُ﴾ أيْ: في جَمِيعِ زَمانِ الدَّعْوَةِ الَّذِي قَبْلَ هَذا الوَقْتِ، ومَعْصِيَةُ المَلِكِ تُوجِبُ الأخْذَ والغَضَبَ كَيْفَ كانَتْ، فَكَيْفَ وهي بِالكُفْرِ! ﴿وكُنْتَ﴾ أيْ: كَوْنًا جِبِلِّيًّا ﴿مِنَ المُفْسِدِينَ﴾ أيِ العَرِيقِينَ في الفَسادِ والإفْسادِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب