الباحث القرآني

ولَمّا خَتَمَ بِبِشارَةِ مَن دَلَّ عَلى إيمانِهِمْ إسْلامُهم بِفِعْلِ ما يَدُلُّ عَلى هَوانِ أمْرِ العَدُوِّ، وكانَ هَلاكُ المُشانِئِ مِن أعْظَمِ البَشائِرِ، وكانَ ضَلالُ فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ بِالزِّينَةِ والمالِ إضْلالًا لِغَيْرِهِمْ، سَألَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إزالَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ لِلرّاحَةِ مِن شَرِّهِ، فَقالَ تَعالى حاكِيًا عَنْهُ: ﴿وقالَ مُوسى﴾ أيْ: بَعْدَ طُولِ دُعائِهِ لِفِرْعَوْنَ وإظْهارِ المُعْجِزاتِ لَدَيْهِ وطُولِ تَكَبُّرِهِ عَلى أمْرِ اللَّهِ وتَجَبُّرِهِ عَلى المُسْتَضْعَفِينَ مِن عِبادِهِ، ولَمّا كانَ مِن أعْظَمِ أهْلِ الِاصْطِفاءِ، أسْقَطَ الأداةَ تَسَنُّنًا بِهِمْ، وأشارَ بِصِفَةِ الإحْسانِ إلى أنَّ هَلاكَ أعْدائِهِمْ أعْظَمُ إحْسانٍ إلَيْهِمْ فَقالَ: ﴿رَبَّنا﴾ [أيْ] أيُّها المُحْسِنُ إلَيْنا ﴿إنَّكَ﴾ أكَّدَ لِما لِلْجُهّالِ مِن إنْكارِ أنْ يَكُونَ عَطاءُ المَلِكِ الأعْظَمِ سَبَبًا لِلْإهانَةِ ﴿آتَيْتَ فِرْعَوْنَ ومَلأهُ﴾ أيْ: أشْرافَ قَوْمِهِ عَلى ما هم فِيهِ مِنَ الكُفْرِ والكِبْرِ ﴿زِينَةً﴾ أيْ: عَظِيمَةً يَتَزَيَّنُونَ بِها مِنَ الحِلْيَةِ واللِّباسِ وغَيْرِهِما ﴿وأمْوالا﴾ أيْ: كَثِيرَةً مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ وغَيْرِهِما ﴿فِي الحَياةِ الدُّنْيا﴾ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ كانَ لَهم مِن فُسْطاطِ مِصْرَ إلى أرْضِ الحَبَشَةِ جِبالٌ فِيها مَعادِنُ مِن ذَهَبٍ وفِضَّةٍ وزَبَرْجَدٍ وياقُوتٍ؛ ثُمَّ بَيَّنَ غايَتَها لَهم فَقالَ \ مُفْتَتِحًا بِالنِّداءِ بِاسْمِ الرَّبِّ لِيُعِيذَهُ وأتْباعَهُ مِن مِثْلِ حالِهِمْ: ﴿رَبَّنا﴾ أيْ: [أيُّها] المُوجِدُ لَنا المُحْسِنُ إلَيْنا والمُدَبِّرُ لِأُمُورِنا ﴿لِيُضِلُّوا﴾ في (p-١٨٠)أنْفُسِهِمْ ويُضِلُّوا غَيْرَهم ﴿عَنْ سَبِيلِكَ﴾ أيِ الطَّرِيقِ الواسِعَةِ الَّتِي نَهَجْتَها لِلْوُصُولِ إلى رَحْمَتِكَ. ولَمّا بَيَّنَ أنَّ مَآلَهُمُ الضَّلالُ، دَعا عَلَيْهِمْ فَقالَ مُفْتَتِحًا أيْضًا بِالنِّداءِ بِاسْمِ الرَّبِّ ثالِثًا لِأنَّ ذَلِكَ مِن أماراتِ الإجابَةِ كَما أُشِيرَ إلَيْهِ في آخِرِ آلِ عِمْرانَ وإشارَةً إلى أنَّهم لا صَلاحَ لَهم بِدُونِ هَلاكِهِمْ وهَلاكِها: ﴿رَبَّنا اطْمِسْ﴾ أيْ: أوْقِعِ الطَّمْسَ وهو التَّسْوِيَةُ بَيْنَ المَطْمُوسِ وبَيْنَ غَيْرِهِ مِمّا لَيْسَ لَهُ نَفْعُهُ ﴿عَلى أمْوالِهِمْ﴾ ولَمّا كانَ قَدْ رَأى مِنهم مِنَ التَّكَبُّرِ عَلى اللَّهِ والتَّكْذِيبِ لِآياتِهِ والتَّعْذِيبِ لِأوْلِيائِهِ ما لا يَشْفِي غَيْظَهُ مِنهُ إلّا إدامَةُ شَقائِهِمْ دُنْيا وأُخْرى، وكانَ عالِمًا بِأنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلى إبْقائِهِمْ عَلى الكُفْرِ [مَعَ] تَحْسِيرِهِمْ بِسَلْبِ المالِ كَقُدْرَتِهِ عَلى ذَلِكَ بِاسْتِدْراجِهِمْ إلَيْهِ بِالمالِ، قالَ: ﴿واشْدُدْ﴾ أيْ: شَدًّا ظاهِرًا لِكُلِّ أحَدٍ - بِما أشارَ إلَيْهِ الفَكُّ مُسْتَعْلِيًا ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: اطْبَعْ عَلَيْها وامْنَعْها مِنَ الإيمانِ، وأجابَ الدُّعاءَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلا يُؤْمِنُوا﴾ أيْ: لِيَتَسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ الشَّدِّ عَدَمُ إيمانِهِمْ إذا رَأوْا مَبادِئَ العَذابِ بِالطَّمْسِ ﴿حَتّى يَرَوُا﴾ أيْ: بِأعْيُنِهِمْ ﴿العَذابَ الألِيمَ﴾ حَيْثُ لا يَنْفَعُهُمُ الإيمانُ فَيَكُونُوا جامِعِينَ ذُلَّ النُّفُوسِ المَطْلُوبَ مِنهُمُ اليَوْمَ لِيُفِيدَهُمُ العِزُّ الدّائِمُ إلى شِدَّةِ الغَضَبِ بِوَضْعِ الشَّيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ المُنْتِجِ لِدَوامِ ذُلِّهِمْ بِالعِقابِ؛ وهَذِهِ الآيَةُ مُنَبِّهَةٌ عَلى أنَّ الرِّضى بِكُفْرٍ خاصٍّ (p-١٨١)لا يَسْتَلْزِمُ اسْتِحْسانَ الكُفْرِ مِن حَيْثُ هو كُفْرٌ؛ قالَ الإمامُ الحَلِيمِيُّ في كِتابِ شُعَبِ الإيمانِ المُسَمّى بِالمِنهاجِ: وإذا تَمَنّى مُسْلِمٌ كُفْرَ مُسْلِمٍ فَهَذا عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَتَمَنّاهُ لَهُ كَما يَتَمَنّى الصَّدِيقُ لِصَدِيقِهِ الشَّيْءَ يَسْتَحْسِنُهُ فَيُحِبُّ أنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ، فَهَذا كُفْرٌ لِأنَّ اسْتِحْسانَ الكُفْرِ كُفْرٌ، والآخَرُ أنْ يَتَمَنّاهُ لَهُ كَما يَتَمَنّى لِعَدُوِّهِ الشَّيْءَ يَسْتَفْظِعُهُ - فَيَجِبُ أنْ يَقَعَ فِيهِ، فَهَذا لَيْسَ بِكُفْرٍ، تَمَنّى مُوسى صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وسَلامُهُ بَعْدَ أنْ أجْهَدَهُ فِرْعَوْنُ ألّا يُؤْمِنَ فِرْعَوْنُ ومَلَؤُهُ لِيَحِقَّ عَلَيْهِمُ العَذابُ، وزادَ عَلى ذَلِكَ أنْ دَعا اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالى فَلَمْ يُنْكِرْ تَعالى ذَلِكَ عَلَيْهِ لِعِلْمِهِ أنَّ شِدَّتَهُ عَلى فِرْعَوْنَ وغِلْظَتَهُ عَلَيْهِ لِما رَآهُ مِن عُتُوِّهِ وتَجَبُّرِهِ هي الَّتِي حَمَلَتْهُ عَلى ذَلِكَ، فَمَن كانَ في مَعْناهُ فَلَهُ حُكْمُهُ؛ وقَدْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ الزَّرْكَشِيُّ في حَرْفِ الثّاءِ مِن قَواعِدِهِ مُرْتَضِيًا لَهُ، ونُقِلَ عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ قالَ: ولَوْ كانَ في قَلْبِ مُسْلِمٍ عَلى كافِرٍ فَأسْلَمَ فَحَزِنَ المُسْلِمُ لِذَلِكَ وتَمَنّى لَوْ عادَ إلى الكُفْرِ لا يَكْفُرُ، لَأنَّ اسْتِقْباحَهُ الكُفْرَ هو الَّذِي حَمَلَهُ عَلى تَمَنِّيهِ واسْتِحْسانَهُ الإسْلامَ هو الحامِلُ لَهُ عَلى كَراهَتِهِ؛ ونُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلامِ أنَّهُ لَوْ قُتِلَ عَدُوٌّ لِلْإنْسانِ ظُلْمًا فَفَرِحَ هَلْ يَأْثَمُ! إنْ فَرِحَ بِكَوْنِهِ عَصى اللَّهَ فِيهِ فَنَعَمْ، وإنْ فَرِحَ بِكَوْنِهِ خَلَصَ (p-١٨٢)مِن شَرِّهِ فَلا بَأْسَ لِاخْتِلافِ سَبَبَيِ الفَرَحِ - انْتَهى. ويُؤَيِّدُهُ ما رَوى البَيْهَقِيُّ في دَلائِلِ النُّبُوَّةِ بِسَنَدِهِ عَنْ مِقْسَمٍ مُرْسَلًا «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَعا عَلى عُتْبَةَ بْنِ أبِي وقّاصٍ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ كَسَرَ رُباعِيَّتَهُ ودَمّى وجْهَهُ فَقالَ: «اللَّهُمَّ لا تُحِلْ عَلَيْهِ الحَوْلَ حَتّى يَمُوتَ كافِرًا!»» فَما حالَ عَلَيْهِ الحَوْلُ حَتّى ماتَ كافِرًا إلى النّارِ، ومَسْألَةُ أنَّ الرِّضى بِالكُفْرِ كُفْرٌ نَقَلَها الشَّيْخانِ عَنِ المُتَوَلِّي وسَكَتا عَلَيْها، ولَكِنْ قالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ في شَرْحِ المُهَذَّبِ: إنَّ ذَلِكَ إفْراطٌ، فَما تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْصِيلِ عَنِ الحَلِيمِيِّ وابْنِ عَبْدِ السَّلامِ هو المُعْتَمَدُ، والمَسْألَةُ في أصْلِ الرَّوْضَةِ. فَإنَّهُ قالَ: لَوْ قالَ لِمُسْلِمٍ: سَلَبَهُ اللَّهُ الإيمانَ، أوْ لِكافِرٍ: رَزَقَهُ اللَّهُ الإيمانَ، فَلَيْسَ بِكُفْرٍ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ رِضًى بِالكُفْرِ [لَكِنَّهُ] دُعاءٌ عَلَيْهِ بِتَشْدِيدِ الأمْرِ والعُقُوبَةِ؛ قُلْتُ: ذَكَرَ القاضِي حُسَيْنٌ في الفَتاوى وجْهًا ضَعِيفًا أنَّهُ لَوْ قالَ لِمُسْلِمٍ: سَلَبَهُ اللَّهُ الإيمانَ، كَفَرَ - واللَّهُ أعْلَمُ، وحَكى الوَجْهَيْنِ عَنِ القاضِي في الأذْكارِ وقالَ: إنَّ الدُّعاءَ بِذَلِكَ مَعْصِيَةٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب