الباحث القرآني

ولَمّا تَقَدَّمَ سُؤالُهُمُ الإتْيانَ بِما يَقْتَرِحُونَ مِنَ الآياتِ، ومَضَتِ الإشارَةُ إلى أنَّ تَسْيِيرَهم في الفُلْكِ مِن أعْظَمِ الآياتِ وإنْ كانُوا لِإلْفِهِمْ [لَهُ قَدْ] نَسُوا ذَلِكَ، وتَناسَجَتِ الآيُ كَما سَلَفَ إلى أنْ بَيَّنَ هَذا أنَّ مَتاعَ المُفْتَرِينَ الكَذِبَ قَلِيلٌ تَخْوِيفًا مِن شَدِيدِ السَّطْوَةِ وعَظِيمِ الأخْذِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ لِأنَّهم كانُوا أطْوَلَ الأُمَمِ الظّالِمَةِ مُدَّةً وأكْثَرِهِمْ عِدَّةً، ثُمَّ أُخِذُوا أشَدَّ أخْذٍ فَزالَتْ آثارُهم وانْطَمَسَتْ أعْلامُهم ومَنارُهم فَصارُوا كَأنَّهم لَمْ يَكُونُوا أصْلًا ولا أظْهَرُوا قَوْلًا (p-١٦٢)ولا فِعْلًا، فَقالَ تَعالى عاطِفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّ الَّذِينَ﴾ [يونس: ٦٩] مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ ﷺ وأصْحابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم لِأنَّ المُصِيبَةَ إذا عَمَّتْ خَفَّتْ، وتَخْوِيفًا لِلْكُفّارِ لِيَرْجِعُوا أوْ يَخِفُّوا مِن أذاهُمْ: ﴿واتْلُ﴾ أيِ اقْرَأْ قِراءَةً مُتَتابِعَةً مُسْتَعْلِيَةً ﴿عَلَيْهِمْ نَبَأ نُوحٍ﴾ أيْ: خَبَرَهُ العَظِيمَ مُذَكِّرًا بِأوَّلِ كَوْنِ الفُلْكِ، وأنَّهُ كانَ إذْ ذاكَ آيَةً غَرِيبَةً خارِقَةً لِلْعادَةِ عَجِيبَةً، وأنَّ قَوْمَ نُوحٍ لَمْ يَنْفَعْهم ذَلِكَ ولا أغْنى عَنْهُمُ افْتِراؤُهم وعِنادُهم مَعَ تَطاوُلِ الأمَدِ وتَباعُدِ المُدَدِ، بَلْ صارَ أمْرُهم إلى زَوالٍ، وأخْذٍ عَنِيفٍ ونَكالٍ ﴿كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ [يونس: ٤٥] مَعَ نَجاةِ رَسُولِهِمْ وخَيْبَةِ مَأْمُولِهِمْ، قَدْ لَبِثَ فِيهِمْ ما لَمْ يَلْبَثْهُ نَبِيٌّ في قَوْمِهِ ولا رَسُولٌ في أُمَّتِهِ ألْفَ سَنَةٍ إلّا خَمْسِينَ عامًا، وما آمَنَ مَعَهُ إلّا قَلِيلٌ ﴿إذْ قالَ لِقَوْمِهِ﴾ أيْ: بَعْدَ أنْ دَعاهم إلى اللَّهِ فَأطالَ دُعاءَهم ومُتِّعُوا في الدُّنْيا كَثِيرًا وأمْلى لَهم طَوِيلًا فَما زادَهم ذَلِكَ إلّا نُفُورًا ﴿يا قَوْمِ﴾ أيْ: يا مَن يَعِزُّ عَلَيَّ خِلافُهم ويَشُقُّ عَلَيَّ ما يَسُوءُهم لِتَهاوُنِهِمْ بِحَقِّ رَبِّهِمْ مَعَ قُوَّتِهِمْ عَلى الطّاعَةِ ﴿إنْ كانَ كَبُرَ﴾ أيْ: شَقَّ وعَظُمَ مَشَقَّةً صارَتْ جِبِلَّةً ﴿عَلَيْكُمْ﴾ ولَمّا كانَتْ عادَةُ الوُعّاظِ والخُطَباءِ أنْ يَكُونُوا حالَ الخُطْبَةِ واقِفِينَ، قالَ: ﴿مَقامِي﴾ أيْ: قِيامِي، ولَعَلَّهُ خَصَّ هَذا المَصْدَرَ لِصَلاحِيَتِهِ لِمَوْضِعِ القِيامِ وزَمانِهِ فَيَكُونُ (p-١٦٣)الإخْبارُ بِكَراهَتِهِ لِأجْلِ ما وقَعَ فِيهِ مِنَ القِيامِ أدَلَّ عَلى كَراهَةِ القِيامِ ﴿وتَذْكِيرِي﴾ أيْ: بِكم ﴿بِآياتِ اللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الجَلالُ والإكْرامُ، فَإنَّ ذَلِكَ لا يَصُدُّنِي عَنْ مُجاهَدَتِي بِما يَكْبُرُ عَلَيْكم مِن ذَلِكَ خَوْفًا مِنكُمْ؛ لِأنَّ اللَّهَ أمَرَنِي بِهِ وأنا أخافُ عَذابَهُ إنْ تَرَكْتُ، ولا أُبالِي بِكَراهِيَتِكم لِذَلِكَ خَوْفَ عاقِبَةِ قَصْدِكم لِي بِالأذى ﴿فَعَلى﴾ أيْ: فَإنِّي عَلى ﴿اللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ العِزَّةُ كُلُّها وحْدَهُ ﴿تَوَكَّلْتُ﴾ فَإقامَةُ ذَلِكَ مَقامَ الجَزاءِ مِن إطْلاقِ السَّبَبِ - الَّذِي هو التَّوَكُّلُ - عَلى المُسَبَّبِ - الَّذِي هو انْتِفاءُ الخَوْفِ - مَجازًا مُرْسَلًا، إعْلامًا لَهم بِعَظَمَةِ اللَّهِ وحَقارَتِهِمْ بِسَبَبِ أنَّهم أعْرَضُوا عَنِ الآياتِ وهم يَعْرِفُونَها، بِما دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالتَّذْكِيرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى عِنادِهِمْ بِالباطِلِ، والمُبْطِلُ لا يُخْشى أمْرُهُ؛ لِأنَّ الباطِلَ لا ثَباتَ لَهُ، ودَلَّ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأجْمِعُوا أمْرَكُمْ﴾ أيْ: في أذايَ بِالإهْلاكِ وغَيْرِهِ، اعْزِمُوا عَلَيْهِ وانْوُوهُ واجْزِمُوا بِهِ، والواوُ بِمَعْنى ”مَعَ“ في قَوْلِهِ: ﴿وشُرَكاءَكُمْ﴾ لِيَدُلَّ عَلى أنَّهُ لا يَخافُهم وإنْ كانُوا شُرَكاءَهم أحْياءَ كائِنِينَ مَن كانُوا وكانَتْ كَلِمَتُهم واحِدَةً لا فُرْقَةَ فِيها بِوَجْهٍ. ولَمّا كانَ الَّذِي يَتَسَتَّرُ بِالأُمُورِ بِما يَفُوتُهُ بَعْضُ المَقاصِدِ لِاشْتِراطِ التَّسَتُّرِ، أخْبَرَهم أنَّهُ لا يُمانِعُهم سَواءٌ أبْدَوْا أوْ أخْفَوْا فَقالَ: ﴿ثُمَّ لا يَكُنْ﴾ أيْ: بَعْدَ التَّأبِّي وطُولِ زَمانِ المُجاوَزَةِ في المُشاوَرَةِ ﴿أمْرَكُمْ﴾ أيِ الَّذِي تَقْصِدُونَهُ بِي ﴿عَلَيْكم غُمَّةً﴾ أيْ: خَفِيًّا يَسْتَتِرُ عَلَيْكم شَيْءٌ مِنهُ بِسَبَبِ سَتْرِ ذَلِكَ عَنِّي لِئَلّا أسْعى في مُعارَضَتِكُمْ، فَلا تَفْعَلُوا ذَلِكَ بَلْ جاهِرُونِي بِهِ (p-١٦٤)[مُجاهَرَةً] فَإنَّهُ لا مُعارَضَةَ لِي بِغَيْرِ اللَّهِ الَّذِي يَسْتَوِي عِنْدَهُ السِّرُّ والعَلانِيَةُ؛ والتَّعْبِيرُ بِ: ”ثُمَّ“ إشارَةٌ إلى التَّأنِّي وإتْقانِ الأمْرِ لِلْأمانِ مِن مُعارَضَتِهِ بِشَيْءٍ مِن حَوْلٍ مِنهُ أوْ قُوَّةٍ ﴿ثُمَّ اقْضُوا﴾ [ما تُرِيدُونَ، أيْ: بَتُّوهُ بَتَّةَ المَقْضِيِّ إلَيْهِ واصِلًا] ﴿إلَيَّ﴾ ولَمّا كانَ ذَلِكَ ظاهِرًا في الإنْجازِ ولَيْسَ صَرِيحًا، [صَرَّحَ] بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تُنْظِرُونِ﴾ أيْ: ساعَةً ما، وكُلُّ ذَلِكَ لِإظْهارِ قِلَّةِ المُبالاةِ بِهِمْ لِلِاعْتِمادِ عَلى اللَّهِ لِأنَّهُ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ ومَعْبُوداتُهم لا تُغْنِي شَيْئًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب