الباحث القرآني

ولَمّا كانَ جُلُّ قَصْدِهِمْ بِذَلِكَ الِاسْتِهْزاءَ، وكانَ وُقُوعُهُ أمْرًا مُمْكِنًا، وكانَ مِن شَأْنِ العاقِلِ أنْ يَبْعُدَ عَنْ كُلِّ خَطَرٍ مُمْكِنٍ، أمَرَهُ (p-١٣٦)ﷺ بِجَوابٍ آخَرَ حَذَفَ مِنهُ واوَ العَطْفِ لِئَلّا يُظَنَّ أنَّهُ لا يَكْفِي في كَوْنِهِ جَوابًا إلّا بِضِمْنِهِ إلى ما عُطِفَ عَلَيْهِ فَقالَ: ﴿قُلْ﴾ أيْ: لِمَنِ اسْتَبْطَأ وعِيدَنا بِالعَذابِ في الدُّنْيا أوْ في الأُخْرى، وهو لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ الأخْذِ في الدُّنْيا إعْلامًا بِأنَّ الَّذِي يَطْلُبُونَهُ ضَرَرٌ لَهم مَحْضٌ لا نَفْعَ فِيهِ بِوَجْهٍ، فَهو مِمّا لا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ قَصْدُ عاقِلٍ ﴿أرَأيْتُمْ﴾ وهي مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ لِأنَّها دَخَلَتْ عَلى الجُمْلَةِ مِنَ الِاسْتِفْهامِ ﴿إنْ أتاكم عَذابُهُ﴾ في الدُّنْيا. ولَمّا كانَ أخْذُ اللَّيْلِ أنَكى وأسْرَعَ قَدَّمَهُ فَقالَ: ﴿بَياتًا﴾ [أيْ] في اللَّيْلِ بَغْتَةً وأنْتُمْ نائِمُونَ كَما يَفْعَلُ العَدُوُّ؛ ولَمّا كانَ الظَّفَرُ لَيْلًا لا يَسْتَلْزِمُ الظَّفَرَ نَهارًا مُجاهَرَةً قالَ: ﴿أوْ نَهارًا﴾ أيْ: مُكاشَفَةً وأنْتُمْ مُسْتَيْقِظُونَ، أتَسْتَمِرُّونَ عَلى عِنادِكم فَلا تُؤْمِنُوا؟ فَكَأنَّهم قالُوا: لا، فَلْيَجْعَلْ بِهِ لِيَرى، فَقِيلَ: إنَّكم لا تَدْرُونَ ما تَطْلُبُونَ! إنَّهُ لا طاقَةَ لِمَخْلُوقٍ بِنَوْعٍ مِنهُ، ولا يَجْتَرِئُ عَلى مِثْلِ هَذا الكَلامِ إلّا مُجْرِمٌ ﴿ماذا﴾ أيْ: ما الَّذِي؟ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا جَوابَ الشَّرْطِ ﴿يَسْتَعْجِلُ﴾ أيْ: يَطْلُبُ العَجَلَةَ ﴿مِنهُ﴾ أيْ: مِن عَذابِهِ، وعَذابُهُ كُلُّهُ مَكْرُوهٌ لا يُحْتَمَلُ شَيْءٌ مِنهُ ﴿المُجْرِمُونَ﴾ إذْ سُنَّةُ اللَّهِ قَدِ اسْتَمَرَّتْ بِأنَّ المُكَذِّبَ لا يَثْبُتُ إلّا عِنْدَ مَخايِلِهِ، وأمّا إذا بَرَكَ بِكَلْكَلِهِ وأناخَ بِثِقَلِهِ فَإنَّهُ يُؤْمِنُ حَيْثُ لا يَنْفَعُهُ الإيمانُ ﴿ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا﴾ [فاطر: ٤٣] وهَذا مَعْنى التَّراخِي في قَوْلِهِ: ﴿أثُمَّ إذا ما وقَعَ﴾ (p-١٣٧)أيْ عَذابُهُ وانْتَفى كُلُّ ما يُضادُّهُ ﴿آمَنتُمْ بِهِ﴾ وذَلِكَ أنَّهُ كانَتْ عادَتُهم كَمَن قَبْلَهُمُ الِاسْتِعْجالَ بِالعَذابِ عِنْدَ التَّوَعُّدِ بِهِ، وكانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ قَدْ جَرَتْ بِأنَّ المُكَذِّبِينَ إذا أتاهُمُ العَذابُ يَتَراخى إيمانُهم بَعْدَ مَجِيءِ مُقَدِّماتِهِ وقَبْلَ اجْتِثاثِهِمْ بِعَظائِمِ صَدَماتِهِ لِشِدَّةِ مُعانَدَتِهِمْ فِيهِ وتَوَطُّنِهِمْ عَلَيْهِ كَما وقَعَ لِلْأوَّلِينَ \ مِنَ الأُمَمِ بَغْيًا وعُتُوًّا كَقَوْمِ صالِحٍ لَمّا تَغَيَّرَتْ وُجُوهُهم بِألْوانٍ مُخْتَلِفَةٍ في اليَوْمِ الأوَّلِ ثُمَّ الثّانِي ثُمَّ الثّالِثِ وأيْقَنُوا بِالهَلَكَةِ ووَدَّعَ بَعْضُهم بَعْضًا ولَمْ يُؤْمِنُوا، وجَرَتْ بِأنَّهم إذا ذاقُوا مَسَّ العَذابِ وأخَذَتْهم فَواجِئُهُ الصِّعابُ شَغَلَتْهم دَواهِيهِ عَنِ العِنادِ واضْطَرَّتْهم أهْوالُهُ إلى سَهْلِ الِانْقِيادِ، فَكانَ في غايَةِ الحُسْنِ وضَعَ تَقْرِيعَهم عَلى الِاسْتِعْجالِ عَقِبَ الوَعِيدِ، ثُمَّ وضَعَ التَّراخِيَ عَنِ الإيمانِ بِالعِنادِ بَعْدَ الإشْرافِ عَلى الهَلاكِ ومُعايَنَةِ التَّلَفِ، فَكانَ كَأنَّهُ قِيلَ: أخْبِرُونِي عَلى تَقْدِيرٍ أنْ يَأْتِيَكم عَذابُهُ الَّذِي لا عَذابَ أعْظَمُ مِنهُ - كَما دَلَّ عَلى ذَلِكَ إضافَتُهُ إلَيْهِ - فَبَيَّتَكم أوْ كاشَفَكُمْ، ما تَفْعَلُونَ؟ ألا تُؤْمِنُونَ؟ فَقالُوا: لا، فَلْيَعْجَلْ بِهِ لِيُرى، فَناسَبَ لَمّا كانَ اسْتِعْجالُهم بَعْدَ هَذا الإنْذارِ تَسْفِيهُهم عَلى ذَلِكَ فَقِيلَ: ﴿ماذا﴾ أيْ: أيَّ نَوْعٍ مِنهُ يَطْلُبُ عَجَلَتَهُ ﴿المُجْرِمُونَ﴾ ولا نَوْعَ مِنهُ إلّا وهو فَوْقَ الطّاقَةِ ووَراءَ الوُسْعِ، إنَّ هَذا لَمُنْكَرٌ مِنَ الآراءِ، أفَبَعْدَ تَراخِي إيمانِكم عَنْ مَخايِلِ صَدْمَتِهِ ومُشاهَدَةِ مَبادِئِ عَظَمَتِهِ وشِدَّتِهِ أوْجَدْتُمُ الإيمانَ بِهِ عِنْدَ وُقُوعِهِ؟ يُقالُ لَكم حِينَ اضْطَرَّتْكم فَواجِئُهُ إلى الإيمانِ وحَمَلَتْكم (p-١٣٨)قَوارِعُهُ عَلى صَيُّورَةِ الإذْعانِ: ﴿آلآنَ﴾ تُؤْمِنُونَ بِهِ - أيْ بِسَبَبِهِ - بَعْدَ أنْ أزالَ بَطْشُنا قُواكم وحَلَّ عَزائِمَ هِمَمِكم وأوْهاكم ﴿وقَدْ كُنْتُمْ﴾ أيْ: كَوْنًا كَأنَّكم مَجْبُولُونَ عَلَيْهِ ﴿بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ أيْ: تَطْلُبُونَ تَعْجِيلَهُ طَلَبًا عَظِيمًا حَتّى كَأنَّكم تَطْلُبُونَ عَجَلَةَ شَيْءٍ غَيْرِهِ تَكْذِيبًا وعَزْمًا عَلى الثَّباتِ عَلى العِنادِ، لَوْ وقَعَ فَلَمْ نَقْبَلْ إيمانَكم هَذا مِنكم ولا كَفَّ عَذابِنا عَنْكُمْ، بَلْ صَيَّرَكم كَأمْسِ الدّابِرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب