الباحث القرآني

ثُمَّ كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: فَقالَ لَهم ذَلِكَ فَلَمْ يَأْتُوا لِقَوْمِهِمْ بِشُبْهَةٍ تُوجِبُ شَكًّا فَضْلًا عَنْ مُصَدَّقٍ، لِأنَّهُ مُعْجِزٌ لِكَوْنِهِ كَلامًا في أعْلى طَبَقاتِ البَلاغَةِ بِحُسْنِ النِّظامِ والجَزالَةِ مُنَزَّلًا مِن عِنْدِ اللَّهِ المُحِيطِ عِلْمًا وقُدْرَةً، فَهو مُشْتَمِلٌ مِن كُلِّ مَعْنًى عَلى ما عَلا كُلَّ العُلُوِّ عَنْ مُدانٍ ﴿بَلْ﴾ . وأحْسَنُ مِن ذَلِكَ أنَّهُ لَمّا أقامَ الدَّلِيلَ عَلى أنَّ القُرْآنَ كَلامُهُ، وكانَ الدَّلِيلُ إنَّما مِن شَأْنِهِ أنْ يُقامَ عَلى مَن عَرَضَ لَهُ غَلَطٌ أوْ شُبْهَةٌ، وكانَ قَوْلُهُمْ: ﴿افْتَراهُ﴾ [يونس: ٣٨] لا عَنْ شُبْهَةٍ وإنَّما هو مُجَرَّدُ عِنادٍ، نَبَّهَ سُبْحانَهُ عَلى ذَلِكَ وعَلى أنَّهُ إنَّما أقامَ الدَّلِيلَ لِإظْهارِ عِنادِهِمْ لا لِأنَّ عِنْدَهم شُبْهَةً في كَوْنِهِ حَقًّا بِالإضْرابِ عَنْ قَوْلِهِمْ فَقالَ: ﴿بَلْ﴾ أيْ: لَمْ يَقُولُوا ”افْتَراهُ“ عَنِ اعْتِقادٍ مِنهم لِذَلِكَ بَلْ ﴿كَذَّبُوا﴾ أيْ: أوْقَعُوا التَّكْذِيبَ الَّذِي لا تَكْذِيبَ أشْنَعَ مِنهُ مُسْرِعِينَ في ذَلِكَ مِن غَيْرِ أنْ يَتَفَهَّمُوهُ مُسْتَهِينِينَ ﴿بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾ أيْ في نَظْمِهِ أوْ مَعْناهُ مِن غَيْرِ شُبْهَةٍ أصْلًا بَلْ (p-١٢٥)عِنادًا وطُغْيانًا ونُفُورًا مِمّا يُخالِفُ دِينَهم وشِرادًا، فَهو مِن بابِ ”مَن جَهِلَ شَيْئًا عاداهُ“ والإحاطَةُ: إرادَةُ ما هو كالحائِطِ حَوْلَ الشَّيْءِ، فَإحاطَةُ العِلْمِ بِالشَّيْءِ العِلْمُ بِهِ مِن جَمِيعِ وُجُوهِهِ. ولَمّا كانَ لا بُدَّ مِن وُقُوعِ تَأْوِيلِهِ، وهو إتْيانُ ما فِيهِ مِنَ الإخْبارِ بِالمُغَيَّباتِ عَلى ما هي عَلَيْهِ، قالَ: ﴿ولَمّا يَأْتِهِمْ﴾ أيْ: إلى زَمَنِ تَكْذِيبِهِمْ ﴿تَأْوِيلُهُ﴾ أيْ: تَرْجِيعُنا لِأخْبارِهِ إلى مَراجِعِها وغاياتِها حَتّى يَعْلَمُوا أصِدْقٌ هي أمْ كَذِبٌ، فَإنَّهُ مُعْجِزٌ مِن جِهَةِ نَظْمِهِ ومِن جِهَةِ \ صِدْقِهِ في أخْبارِهِ؛ والتَّأْوِيلُ: المَعْنى الَّذِي يَؤُولُ إلَيْهِ التَّفْسِيرُ، وهو مُنْتَهى التَّصْرِيحِ مِنَ التَّضْمِينِ. ولَمّا كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ فِعْلَهم هَذا لَعَجَبٌ، فَما حَمَلَهم عَلى التَّمادِي فِيهِ؟ فَقِيلَ: تَبِعُوا في ذَلِكَ مَن قَبْلَهم لِمُوافَقَتِهِمْ في سُوءِ الطَّبْعِ، قالَ مُهَدِّدًا لَهم ومُسَلِّيًا لَهُ ﷺ: ﴿كَذَلِكَ﴾ أيْ: مِثْلَ تَكْذِيبِهِمْ هَذا التَّكْذِيبَ العَظِيمَ في الشَّناعَةِ قَبْلَ تَدْبِيرِ المُعْجِزِ ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ﴾ ولَمّا كانَ المُكَذِّبُونَ بَعْضَ السّالِفِينَ، أثْبَتَ الجارَّ فَقالَ: ﴿مِن قَبْلِهِمْ﴾ أيْ: مِن كُفّارِ الأُمَمِ الخالِيَةِ فَظَلَمُوا فَأهْلَكْناهم بِظُلْمِهِمْ؛ ولَمّا كانَ التَّكْذِيبُ خَطَرًا لِما يُثِيرُ مِنَ السُّرُورِ، سَبَّبَ عَنْهُ - تَحْذِيرًا مِنهُ - النَّظَرَ في عاقِبَةِ أمْرِهِ فَقالَ: ﴿فانْظُرْ﴾ أيْ: بِعَيْنِكَ دِيارَهم وبِقَلْبِكَ أخْبارَهم. ولَمّا كانَ مَن نَظَرَ هَذا النَّظَرَ وجَدَ فِيهِ أجَلَّ مُعْتَبَرٍ وأعْلى مُزْدَجَرٍ، وجَّهَ السُّؤالَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ﴾ أيْ: آخِرُ أمْرِ ﴿الظّالِمِينَ﴾ (p-١٢٦)أيِ الَّذِينَ رَسَخَتْ أقْدامُهم في وضْعِ الأشْياءِ في غَيْرِ مَواضِعِها حَتّى كَذَّبُوا مَن لا يَجُوزُ عَلَيْهِ الكَذِبُ بِوَجْهٍ، ومِنَ المَقْطُوعِ بِهِ أنَّ هَذا المَسْؤُولَ يَقُولُ مِن غَيْرِ تَعَلْثُمٍ ولا تَرَدُّدٍ: عاقِبَةٌ وخِيمَةٌ قاصِمَةٌ ذَمِيمَةٌ؛ والعاقِبَةُ سَبَبٌ تُؤَدِّي إلَيْهِ البادِئَةُ، فالَّذِي أدّى إلى هَلاكِهِمْ بِعَذابِ الِاسْتِئْصالِ ما تَقَدَّمَ مِن ظُلْمِهِمْ لِأنْفُسِهِمْ وعُتُوِّهِمْ في كُفْرِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب