الباحث القرآني

ولَمّا تَمَّ ما دَفَعَ بِهِ مَكْرَهم في طَعْنِهِمْ، أتْبَعَهُ بِعُذْرِهِ ﷺ في الإبْلاغِ عَلى وجْهٍ يَدُلُّ قَطْعًا عَلى أنَّهُ كَلامُ اللَّهِ وما تَلاهُ إلّا بِإذْنِهِ فَيَجْتَثُّ طَعْنَهم مِن أصْلِهِ ويُزِيلُهُ بِحَذافِيرِهِ فَقالَ: ﴿قُلْ﴾ أيْ لَهم مُعَلِّمًا أنَّهُ سُبْحانَهُ إمّا أنْ يَشاءَ الفِعْلَ وإمّا أنْ يَشاءَ عَدَمَهُ ولَيْسَتْ ثَمَّ حالَةُ سُكُوتٍ أصْلًا ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ العَظَمَةُ كُلُّها أنْ لا أتْلُوهُ عَلَيْكم ﴿ما تَلَوْتُهُ﴾ أيْ تابَعْتُ قِراءَتَهُ أنا ﴿عَلَيْكم ولا أدْراكُمْ﴾ أيْ أعْلَمَكم عَلى وجْهِ المُعالَجَةِ هو سُبْحانَهُ ﴿بِهِ﴾ عَلى لِسانِي؛ ولَمّا كانَ ذِكْرُ ذَلِكَ أتْبَعَهُ السَّبَبَ المُعَرِّفَ بِهِ فَقالَ: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكم عُمُرًا﴾ (p-٨٩)ولَمّا كانَ عُمْرُهُ لَمْ يَسْتَغْرِقْ زَمانَ القَبْلِ قالَ: ﴿مِن قَبْلِهِ﴾ مِقْدارَ أرْبَعِينَ سَنَةً بِغَيْرٍ واحِدٍ مِنَ الأمْرَيْنِ لِكَوْنِ اللَّهِ لَمْ يَشَأْ واحِدًا مِنهُما إذْ ذاكَ، ثُمَّ أتَيْتُكم بِهَذا الكِتابِ الأحْكَمِ المُشْتَمِلِ عَلى حَقائِقِ عِلْمِ الأُصُولِ ودَقائِقِ عِلْمِ الفُرُوعِ ولَطائِفِ عِلْمِ الأخْلاقِ وأسْرارِ قَصَصِ الأوَّلِينَ في عِبارَةٍ قَدْ عَجَزْتُمْ - وأنْتُمْ أفْصَحُ النّاسِ وأبْلَغُهم - عَنْ مُعارَضَةِ آيَةٍ مِنها، فَوَقَعَ بِذَلِكَ العِلْمُ القَطْعِيُّ الظّاهِرُ جِدًّا أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ فَلِذَلِكَ سَبَّبَ عَنْهُ إنْكارَ العَقْلِ فَقالَ: ﴿أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ إشارَةً إلى أنَّهُ يَكْفِي - في مَعْرِفَةِ أنَّ القُرْآنَ مِن عِنْدِ اللَّهِ وأنَّ غَيْرَهُ عاجِزٌ عَنْهُ - كَوْنُ النّاظِرِ في أمْرِهِ وأمْرِي مِن أهْلِ العَقْلِ، أيْ أفَلا يَكُونُ لَكم عَقْلٌ فَتَعْرِفُوا بِهِ حَقِيقَةَ القُرْآنِ بِما أرْشَدَكم إلَيْهِ في هَذِهِ الآيَةِ مِن هَذا البُرْهانِ الظّاهِرِ والسُّلْطانِ القاهِرِ القائِمِ عَلى أنَّهُ ما يَصِحُّ لِي بِوَجْهٍ أنْ أُبَدِّلَهُ مِن قِبَلِ نَفْسِي لِأنِّي مِثْلُكم [و] قَدْ عَرَفْتُمْ أنَّكم عاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ مَعَ التَّظاهُرِ، فَأنا وحْدِي - مَعَ كَوْنِي أُمِّيًّا - أعْجِزُ، ومِن أنَّهُ تَعالى لَوْ شاءَ ما بَلَغَكُمْ، ومِن أنِّي مَكَثْتُ فِيكم إتْيانِي بِهِ زَمَنًا طَوِيلًا لا أتْلُو عَلَيْكم شَيْئًا ولا أدَّعِي فِيكم عِلْمًا ولا أتَرَدَّدُ إلى عالِمٍ؛ وتَعْرِفُوا أنَّ قائِلَ ما قُلْتُمْ مُكَذِّبٌ بِآياتِ اللَّهِ، وفاعِلُ ما طَلَبْتُمْ كاذِبٌ عَلى اللَّهِ، وكُلٌّ مِن ذَلِكَ أظْلَمُ الظُّلْمِ ﴿فَمَن﴾ أيْ: فَهو سَبَبٌ لِأنْ يُقالَ: مَن ﴿أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى﴾ أيْ: تَعَمَّدَ ﴿عَلى اللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي حازَ جَمِيعَ العَظَمَةِ ﴿كَذِبًا﴾ أيْ: أيَّ كَذِبٍ كانَ، وكانَ الأصْلُ: مِنِّي، عَلى تَقْدِيرِ أنْ لا يَكُونَ هَذا القُرْآنُ (p-٩٠)مِن عِنْدِ اللَّهِ كَما زَعَمْتُمْ، ولَكِنَّهُ وضَعَ هَذا الظّاهِرَ مَكانَهُ تَعْمِيمًا وتَعْلِيقًا لِلْحُكْمِ بِالوَصْفِ ﴿أوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ﴾ كَما فَعَلْتُمْ أنْتُمْ، وذَلِكَ مِن أعْظَمِ الكَذِبِ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: لا أحَدَ أظْلَمُ مِنهُ فَهو لا يُفْلِحُ لِأنَّهُ مُجْرِمٌ، عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ مُؤَكَّدًا لِأجْلِ إنْكارِهِمْ: ﴿إنَّهُ لا يُفْلِحُ﴾ أيْ: بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ ﴿المُجْرِمُونَ﴾ فَقَدْ وضَحَ \ أنَّ المَقْصُودَ نَفْيُ الكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ ﷺ وإلْحاقُ الوَعِيدِ حَيْثُ كَذَّبُوا بِالآياتِ بَعْدَ ثُبُوتِ أنَّها مِن عِنْدِ اللَّهِ والإعْلامِ بِأنَّهُ لا أحَدَ أظْلَمُ مِنهُمْ؛ لِأنَّهم كَذَبُوا عَلى اللَّهِ في كُلِّ ما يَنْسُبُونَهُ إلَيْهِ مِمّا نَهى عَنْهُ وكَذَّبُوا بِآياتِهِ، والإتْيانُ بِالغَيْرِ قَدْ يَكُونُ مَعَ وُجُودِ الأوَّلِ والتَّبْدِيلُ لا يَكُونُ إلّا بِرَفْعِ الأوَّلِ ووَضْعِ غَيْرِهِ مَكانَهُ؛ والتِّلْقاءُ: جِهَةُ مُقابَلَةِ الشَّيْءِ، أتْبَعَهُ بِمَجِيئِهِ بَعْدَهُ؛ والمَشِيئَةُ خاصَّةً تَكُونُ سَبَبًا مُؤَدِّيًا إلى وُقُوعِ الشَّيْءِ، ومُرَتَّبًا لَهُ عَلى وجْهٍ قَدْ يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ خِلافُهُ، والإرادَةُ نَظِيرُها؛ والعَقْلُ: العِلْمُ الغَرِيزِيُّ الَّذِي يُمْكِنُ بِهِ الِاسْتِدْلالُ بِالشّاهِدِ عَلى الغائِبِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿ويَعْبُدُونَ﴾ [يونس: ١٨] حالًا مِن ﴿الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا﴾ [يونس: ١٥] أيْ: قالُوا ذَلِكَ عابِدِينَ ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [يونس: ١٨] أيِ المَلِكِ الأعْلى الَّذِي لَهُ جَمِيعُ صِفاتِ الكَمالِ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَهم أنَّ هَذا القُرْآنَ كَلامُهُ لِعَجْزِهِمْ عَنْ مُعارَضَةِ شَيْءٍ مِنهُ وهو يَنْهاهم عَنْ عِبادَةِ غَيْرِهِ وهم يَعْلَمُونَ قُدْرَتَهُ عَلى الضُّرِّ والنَّفْعِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب