الباحث القرآني

ولَمّا كانَ أكْثَرُ ذَلِكَ وعْظًا لَهم وتَذْكِيرًا، خَتَمَهُ بِأمْرِهِ ﷺ بِما يَفْعَلُهُ في خاصَّةِ نَفْسِهِ أجابُوا أوْ لَمْ يُجِيبُوا، فَقالَ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿قُلْ يا أيُّها النّاسُ﴾ [يونس: ١٠٤] ﴿واتَّبِعْ﴾ أيْ: بِجَمِيعِ جُهْدِكَ ﴿ما يُوحى إلَيْكَ﴾ وبَناهُ لِلْمَفْعُولِ لِأنَّ ذَلِكَ كانَ بَعْدَ أنْ تَقَرَّرَتْ عِصْمَتُهُ ﷺ وعُلِمَ أنَّ كُلَّ ما يَأْتِيهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ، فَكانَ ذَلِكَ أمْكَنَ في أمْرِهِ بِاتِّباعِ كُلِّ ما يَأْتِيهِ مِنهُ سُبْحانَهُ وفي الإيذانِ بِأنَّهُ لا يَنْطِقُ عَنِ الهَوى ﴿واصْبِرْ﴾ في تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ عَلى ما أصابَكَ في ذَلِكَ مِن عَظِيمِ الضَّرَرِ وبَلِيغِ الخَطَرِ (p-٢٢١)مِن ضَلالِ مَن لَمْ يَهْتَدِ وإعْراضِهِ وجَفْوَتِهِ وأذاهُ ﴿حَتّى يَحْكُمَ اللَّهُ﴾ أيِ المَلِكُ الأعْظَمُ بَيْنَ مَن ضَلَّ مِن أُمَّتِكَ ومَنِ اهْتَدى ﴿وهُوَ﴾ أيْ: وحْدَهُ ﴿خَيْرُ الحاكِمِينَ﴾ لِأنَّهُ يُوقِعُ الحُكْمَ في أوْلى مَواقِعِهِ وأحَقِّها وأحْسَنِها وأعْدَلِها، وهو المُطَّلِعُ عَلى السَّرائِرِ فاعْمَلْ أنْتَ بِما تُؤْمَرُ بِهِ وبَشِّرْ وأنْذِرْ وأخْبِرْ وادْعُ إلى اللَّهِ بِجَمِيعِ ما أمَرَكَ بِهِ واتْرُكِ المَدْعُوِّينَ حَتّى يَأْمُرَكَ فِيهِمْ بِأمْرِهِ؛ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ورُوِيَ أنَّها لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الأنْصارَ قالَ: ««إنَّكم سَتَجِدُونَ بَعْدِي أثَرَةً فاصْبِرُوا حَتّى تَلَقَّوْنِي»» - وتَبِعَهُ عَلى ذَلِكَ أبُو حَيّانَ وغَيْرُهُ، فَإنْ صَحَّ فالسِّرُّ فِيهِ - واللَّهُ أعْلَمُ - أنَّهُ لَمّا أعْلَمَتْ هَذِهِ الآيَةُ أنَّ مَنِ اتَّبَعَ الوَحْيَ ابْتُلِيَ بِما يَنْبَغِي الصَّبْرُ عَلَيْهِ وأفْهَمَتْ أنَّ مَن كانَ لَهُ أشَدَّ اتِّباعًا كانَ أشَدَّ بَلاءً، وكانَ الأنْصارُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجْمَعِينَ أحَقَّ بِهَذا الوَصْفِ مِن غَيْرِهِمْ مِن حَيْثُ [أنَّهُمْ] كانُوا أوَّلَ قَبِيلَةٍ جَمَعَها الإيمانُ، ومِن حَيْثُ كانُوا لَهُ أسْهَلَ قِيادًا وألْيَنَ عَرِيكَةً مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهم عِشْرَةٌ بِالنَّبِيِّ ﷺ ولا خِبْرَةٌ بِأحْوالِهِ تُوجِبُ لَهم مِنَ اتِّباعِهِ ما يُوجِبُ لِمَن كانَ مِن بَنِي عَمِّهِ قُرَيْشٍ يُخالِطُهُ ويَأْنَسُ بِهِ ويَرى مِنهُ مَعالِيَ الأخْلاقِ وكَرِيمَ الشَّمائِلِ ما يُوَفِّرُ داعِيَتَهُ عَلى اتِّباعِهِ، فَلَمّا كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، خَصَّ النَّبِيُّ ﷺ الأنْصارَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم لِهَذا الأمْرِ، فَتَفْضِيلُهم في ذَلِكَ مِنَ الجِهَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ فَلا يُتَوَهَّمُ (p-٢٢٢)تَفْضِيلُهم عَلى المُهاجِرِينَ. بَلِ المُهاجِرُونَ أفْضَلُ؛ لِأنَّهم جَمَعُوا إلى النُّصْرَةِ الهِجْرَةَ مَعَ أنَّ أكْثَرَهم لَهُ مِن قُرْبِ النَّسَبِ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والسَّبْقِ في الإسْلامِ حَظٌّ وافِرٌ. هَذا ما ظَهَرَ لِي مِن مُناسَبَتِهِ عَلى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ. والَّذِي في الصَّحِيحِ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ««أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أرادَ أنْ يَقْطَعَ لِلْأنْصارِ مِنَ البَحْرَيْنِ فَقالَتِ الأنْصارُ: حَتّى تَقْطَعَ لِإخْوانِنا مِنَ المُهاجِرِينَ مِثْلَ الَّذِي تَقْطَعُ لَنا، وقالَ: سَتَرَوْنَ بَعْدِي أثَرَةً فاصْبِرُوا حَتّى تَلْقَوْنِي»». فَهَذا فِيهِ أنَّ السَّبَبَ حِرْصُهم \ عَلى الإنْصافِ وهو يَدُلُّ عَلى أنَّ المُنْصِفَ يَقِلُّ إنْصافُ النّاسِ لَهُ وهو أمْرٌ مُسْتَقْرًى. والوَحْيُ: إلْقاءُ المَعْنى إلى النَّفْسِ في خَفاءٍ. وهو هُنا ما يَجِيءُ بِهِ المَلَكُ إلى النَّبِيِّ عَلَيْهِما السَّلامُ عَنِ اللَّهِ تَعالى فَيُلْقِيهِ إلَيْهِ عَلى اخْتِصاصِهِ بِهِ مِن غَيْرِ أنْ يَرى ذَلِكَ سِواهُ مِنَ النّاسِ؛ والصَّبْرُ: تَجَرُّعُ مَرارَةِ الِامْتِناعِ مِنَ المُشْتَهى إلى الوَقْتِ الَّذِي يَنْبَغِي فِيهِ تَعاطِيهِ ويُعَيَّنُ عَلَيْهِ العِلْمُ بِعاقِبَتِهِ وكَثْرَةِ الفِكْرِ في الخَبَرِ الَّذِي يُنالُ بِهِ، واعْتِيادُ الصَّبْرِ في خَصْلَةٍ يُسَهِّلُ الصَّبْرَ في [خَصْلَةٍ] أُخْرى لِأنَّ الخَيْرَ يَدْعُو إلى الخَيْرِ فَتَمَكُّنُ الإنْسانِ في خَصْلَةٍ يَصِيرُ لَهُ مَلَكَةً تَدْعُوهُ إلى ما شاكَلَها، وقَدْ خَتَمَ سُبْحانَهُ السُّورَةَ بِما ابْتَدَأها بِهِ مِن أمْرِ الكِتابِ والإشارَةِ إلى الإرْشادِ لِما يَنْفَعُ مِن ثَمَرَةِ إنْزالِهِ وهو العَمَلُ بِما دَلَّ (p-٢٢٣)عَلَيْهِ أوْ أشارَ إلَيْهِ إلى أنْ يَنْجَلِيَ الحَكِيمُ الَّذِي أنْزَلَهُ لِلْحُكْمِ في الدُّنْيا أوْ في الآخِرَةِ بِما لا مَرَدَّ لَهُ مِمّا بَرَزَتْ بِهِ مَواعِيدُهُ الصّادِقَةُ في كَلِماتِهِ التّامَّةِ، وهَذا بِعَيْنِهِ هو أوَّلُ الَّتِي بَعْدَها، فَكانَ خَتْمُ هَذِهِ السُّورَةِ وسَطًا بَيْنَ أوَّلِها وأوَّلِ الَّتِي تَلِيها، فَفِيهِ رَدُّ المَقْطَعِ عَلى المَطْلَعِ. وتَتَبُّعٌ لِما اسْتُتْبِعَ. واللَّهُ المُوَفِّقُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب