الباحث القرآني
﴿وَإِذۡ یَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّاۤىِٕفَتَیۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَیۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَیُرِیدُ ٱللَّهُ أَن یُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَـٰتِهِۦ وَیَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ ٧﴾ - سياق قصة غزوة بدر
٣٠٢٠١- عن عبد الله بن عباس -من طريق عطية العوفي- قوله: ﴿وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم﴾، قال: أرادوا العِير. قال: ودخل رسول الله ﷺ المدينة في شهر ربيع الأول، فأغار كُرْزُ بن جابر الفِهْرِيُّ يريد سَرْحَ[[السَّرْح: الماشية. النهاية (سرح).]] المدينة، حَتّى بلغ الصَّفْراء، فبلغ النبي ﷺ، فركب في أثره، فسبقه كُرْزُ بن جابر، فرجع النبي ﷺ، فأقام سَنَتَه. ثم إنّ أبا سفيان أقبل من الشام في عِيرٍ لقريش، حتى إذا كان قريبًا من بدر، نزل جبريل على النبي ﷺ، فأوحى إليه: ﴿وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم﴾، فنَفَر النبي ﷺ بجميع المسلمين، وهم يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا، منهم سبعون ومائتان من الأنصار، وسائرهم من المهاجرين. وبلغ أبا سفيان الخبر وهو بالبطم[[كذا في المطبوع. وقد رجح الشيخ شاكر ١٣/٤٠٤ أن هذه الكلمة تحريف (إضم) واد بجبال تهامة وهو الوادي الذي فيه المدينة.]]، فبعث إلى جميع قريش وهم بمكة، فنفرت قريش وغضبت[[أخرجه ابن جرير ١١/٤٥. إسناده ضعيف، لكنها صحيفة صالحة ما لم تأت بمنكر أو مخالفة. وينظر: مقدمة الموسوعة.]]. (ز)
٣٠٢٠٢- عن عبد الله بن عباس = (ز)
٣٠٢٠٣- وعروة بن الزبير-من طريق الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان- قال: لما سَمِع رسول الله ﷺ بأبي سفيان مُقْبِلًا من الشام، ندَب المسلمين إليهم، وقال: «هذه عِيرُ قريش، فيها أموالهم، فاخرُجوا إليها، لعلَّ الله يُنَفِّلُكموها». فانتدَب الناس، فخفَّ بعضُهم، وثقُلَ بعضُهم، وذلك أنهم لم يظُنُّوا أن رسول الله ﷺ يَلقى حربًا، وكان أبو سفيان حينَ دنا من الحجاز يَتَحَسَّسُ الأخبار، ويسألُ من لَقِيَ من الرُّكْبان؛ تخوُّفًا عن أمرِ الناس، حتى أصاب خبرًا من بعضِ الرُّكْبان أنّ محمدًا قد استنفَر لك أصحابَه. فحذِر عند ذلك، فاستأجَر ضَمْضَمَ بن عمرو الغِفاري، فبعَثه إلى مكة، وأمَره أن يأتيَ قريشًا، فيستنفِرَهم إلى أموالهم، ويخبرَهم أنّ محمدًا ﷺ قد عرَض لها في أصحابه، فخرج سريعًا إلى مكة، وخرج رسول الله ﷺ حتى بلغ واديًا يقال له: ذَفِرانُ. فأتاه الخبرُ عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عن عيرهم، فاستشار النبي ﷺ الناس، فقام أبو بكر فقال فأَحْسَن، ثم قام عمر فقال فأَحْسَن، ثم المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله، امضِ لما أمَرَك الله، فنحن معك، والله لا نقولُ لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهبْ أنت وربُّك فقاتِلا، إنا هاهنا قاعدون. ولكن اذهب أنت وربُّك فقاتِلا، إنا معكم مقاتلون، فوالذي بعَثك بالحقِّ، لئن سِرْتَ بنا إلى بَرْكِ الغِمادِ لجالَدْنا معك مَن دونَه حتى تبلُغه. فقال له رسول الله ﷺ خيرًا، ودعا له، وقال له سعد بن معاذ: لو استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخضْتَه لخضنا معَك ما تخلَّف منا رجلٌ واحد، وما نكرَهُ أن تلقى بنا عدوَّنا غدًا، إنا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ في اللقاء، لعل الله يُريك منّا ما تَقَرُّ به عينُك، فسِرْ بنا على بركة الله. فسُرَّ رسول الله ﷺ بقول سعدٍ، ونشَّطه ذلك، ثم قال: «سيروا، وأبشِروا، فإن الله قد وعَدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظرُ إلى مصارعِ القوم»[[أخرجه ابن إسحاق -كما في سيرة ابن هشام ١/٦٠٦- ٦٠٧، ٦١٤-٦١٥-، ومن طريقه ابن جرير ١١/٣٦، ٤١-٤٣، من طريق الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا، عن ابن عباس به. إسناده حسن.]]. (٧/٤٦)
٣٠٢٠٤- عن عبد الله بن عباس -من طريق علي بن أبي طلحة- في قوله: ﴿وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين﴾، قال: أقبلَت عِيرُ أهل مكة من الشام، فبلَغ أهلَ المدينة ذلك، فخرجوا ومعهم رسول الله ﷺ يريدُ العِير، فبلغ أهلَ مكة ذلك، فأسرعوا السير إليها لكي لا يغلِبَ عليها رسول الله ﷺ وأصحابُه، فسبَقتِ العيرُ رسول الله ﷺ، وكان الله ﷿ وعَدَهم إحدى الطائفتين، وكانوا أن يلقَوُا العيرَ أحبَّ إليهم، وأيسرَ شوكة، وأخصرَ نفرًا، فلما سبقتِ العير وفاتتْ رسول الله ﷺ سار رسول الله ﷺ بالمسلمين يريدُ القوم، فكَرِه القومُ مسِيرَهم؛ لِشَوْكَة القوم، فنزل النبي ﷺ والمسلمون، بينَهم وبينَ الماء رَمْلَةٌ دِعْصَةٌ[[الدِّعْصَةُ -بكسر الدال-: قطعة من الرمل مستديرة، أو الكثيبُ المجتمع، أو الصغير. القاموس (دعص).]]، فأصاب المسلمين ضعفٌ شديد، وألقى الشيطانُ في قلوبهم الغيظ، فوسوس بينَهم يوسوسُهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسولُه وقد غلَبَكم المشركون على الماء وأنتم تُصَلُّون مُجْنِبين؟! فأمْطَر الله عليهم مطرًا شديدًا، فشَرِب المسلمون وتَطَهَّروا، فأذهب الله عنهم رِجْزَ الشيطان، وأشفَّ[[شفَّ الماء: تقصّى شربَه. اللسان (ش ف ف).]] الرملُ من إصابة المطر، ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم، وأمدَّ الله نبيه ﷺ والمؤمنين بأَلْف من الملائكة، فكان جبريل في خمسِمائة من الملائكة مُجَنِّبةً[[مُجَنِّبَة الجيش: هي التي تكون في الميمنة والميسرة، وهما مُجَنِّبتان. النهاية (جنب).]]، وميكائيلُ في خمسِمائة من الملائكة مُجَنِّبةً، وجاء إبليس في جندٍ من الشياطين معه رايتُه، في صورة رجال من بني مُدْلِجٍ، والشيطان في صورة سُراقة بن مالك بن جُعْشُمٍ، فقال الشيطان للمشركين: ﴿لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم﴾ [الأنفال:٤٨]. فلما اصطَفَّ القوم قال أبو جهل: اللهم أوْلانا بالحقِّ فانصُرْه. ورفَع رسول الله ﷺ يدَيه فقال: «يا ربِّ، إن تَهْلِكْ هذه العِصابةُ في الأرض فلن تُعبَدَ في الأرض أبدًا». فقال له جبريل: خذْ قبضةً من التراب فارمِ به وجوههم. فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومَنخِرَيهِ وفمَه من تلك القبضة، فولَّوا مُدْبِرِين، وأقبَل جبريل إلى إبليس، فلما رآه -وكانت يده في يد رجل من المشركين- انتزَع إبليسُ يدَه، ثم ولّى مُدْبِرًا هو وشيعتُه، فقال الرجل: يا سراقة، أتزعُمُ أنّك لنا جارٌ؟! فقال: ﴿إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب﴾ [الأنفال:٤٨]. فذلك حين رأى الملائكة[[أخرجه البيهقي في الدلائل ٣/٧٨-٧٩، وابن جرير ١١/٤٥، ٦٤، ٨٦، ٢٢١. إسناده جيد، وقد تقدم. وينظر: مقدمة الموسوعة.]]. (٧/٤٧)
٣٠٢٠٥- عن عكرمة مولى ابن عباس -من طريق أيوب-: أن أبا سفيان أقبل من الشام في عير قريش، وخرج المشركون مُغْوِثِينَ[[قال في النهاية (غوث): أي: مُغِيثين، فجاء به على الأصل ولم يُعِلَّهُ كاستحوذ واستنوق، ولو روي «مُغَوِّثين» بالتشديد من غَوَّثَ بمعنى أغاث لكان وجها.]] لعيرهم، وخرج النبي ﷺ يريد أبا سفيان وأصحابه، فأرسل رسول الله ﷺ رجلين من أصحابه عينًا طليعةً ينظران بأيِّ ماء هو، فانطلقا، حتى إذا علما علمه وأخبرا خبره جاءا سريعين، فأخبرا النبي ﷺ، وجاء أبو سفيان فنزل على الماء الذي كان به الرجلان، فقال لأهل الماء: هل أحسستم أحدًا من أهل يثرب؟ قالوا: لا. قال: فهل مر بكم؟ قالوا: ما رأينا إلا رجلين من أهل كذا وكذا. قال أبو سفيان: فأين كان مُناخُهُما[[المُناخ: مَبْرَكُ الإبل. القاموس (نوخ).]]؟ فدلوه عليه، فانطلق حتى أتى بَعْرَ إبلهما، ففَتَّه، فإذا فيه نوًى، فقال: هذه نَواضِحُ[[النواضح: الإبل التي يُسْتَقى عليها. النهاية (نضح).]] أهل يثرب. فترك الطريق، وأخذ سِيف البحر، وجاء الرجلان، فأخبرا النبي ﷺ خبره، فقال: أيكم أخذ هذه الطريق؟ فقال أبو بكر: هم بماء كذا وكذا، ونحن بماء كذا وكذا، فيرتحل فينزل بماء كذا وكذا، وننزل نحن بماء كذا، ثم ينزل بماء كذا، وتنزل بماء كذا وكذا، ثم نلتقي بماء كذا وكذا، كأَنّا فَرَسا رِهان. فسار النبي ﷺ حتى نزل بدرًا، فوجد على ماء بدر بعض رقيق قريش ممن خرج يغيث أبا سفيان، فأخذهم أصحابه، فجعلوا يسائلونهم، فإذا صدقوهم ضربوهم، وإذا كذبوهم تركوهم، فمر بهم النبي ﷺ وهم يفعلون ذلك، فقال: «إن صدقوكم ضربتموهم، وإن كذبوكم تركتموهم؟». ثم دعا واحدًا منهم، فقال: «من يطعم القوم؟». فقال: فلان وفلان. فعَدَّد رجالًا، يطعمهم كل رجل يومًا، قال: «فكم يُنْحَر لهم؟». فقال: عشرة من الجُزُر. فقال النبي ﷺ: «الجَزُورُ بمائة، وهم ما بين الألف والتسعمائة». فلما جاء المشركون صافُّوهم، وكان النبي ﷺ قد استشار قبل ذلك في قتالهم، فقام أبو بكر يشير عليه، فأجلسه النبي ﷺ، ثم استشارهم، فقام عمر يشير عليه، فأجلسه النبي ﷺ، ثم استشارهم، فقام سعد بن عبادة، فقال: يا نبي الله، والله لكأنك تُعَرِّضُ بنا منذ اليوم لتعلَمَ ما في نفوسنا، والذي نفسي بيده لو ضربت أكبادها حتى تبلغ بَرْكَ الغِمادِ من ذي يَمَنٍ لكنا معك. فوَطَّنَ النبي ﷺ أصحابه على القتال والصبر، وسُرَّ بذلك منهم، فلما التَقَوْا سار في قريش عتبة بن ربيعة، فقال: أيْ قوم، أطيعوني اليوم، ولا تقاتلوا محمدًا وأصحابه، فإنكم إن قاتلتموه لم تزل بينكم إحْنَة ما بقيتم وفساد، لا يزال الرجل منكم ينظر إلى قاتل أخيه، وقاتل ابن عمه، فإن يكن مَلِكًا أكلتم في مُلْك أخيكم، وإن يك نبيًّا فأنتم أسعد الناس به، وإن يك كاذبًا كَفَتْكُمُوه ذُؤْبانُ العرب. فأبوا أن يسمعوا مقالته، وأبوا أن يطيعوا، فقال: أنشدكم الله في هذه الوجوه التي كأنها المصابيح أن تجعلوها أندادًا لهذه الوجوه التي كأنها عيون الحيات. فقال أبو جهل: لقد ملأت سَحَرَك[[السَّحْر: الرئة، انتفخ سَحْرُك أي: رئتك، يقال ذلك للجبان. النهاية (سحر).]] رعبًا. ثم سار في قريش، فقال: إن عتبة بن ربيعة إنما يشير عليكم بهذا؛ لأن ابنه مع محمد، ومحمد ابن عمه، فهو يكره أن يقتل ابنه وابن عمه. فغضب عتبة، وقال: أيْ مُصَفِّرُ اسْتِهِ[[قال ابن الأثير: رماه بالأُبْنَة، وأنه كان يُزَعْفِر استَهُ. وقيل: هي كلمة تقال للمُتَنَعّم المُتْرَفِ الذي لم تُحَنّكُه التجارب والشدائد. وقِيل: أراد يا مُضَرِّط نفسه، من الصَّفِير، وهو الصوت بالفم والشفتين، كأنه قال: يا ضَرّاط. نسبه إلى الجُبن والخَوَر. النهاية (صفر).]]، ستعلم أيُّنا أجبن وأَلْأَم وأقتل لقومه اليوم. ثم نزل، ونزل معه أخوه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن عتبة، فقال: أبْرِزُوا إلينا أكفاءنا. فقام ناس من الأنصار من بني الخزرج، فأجلسهم النبي ﷺ، فقام علي، وحمزة، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فاختلف كل رجل منهم وقرينه ضربتين، فقتل كل رجل منهم صاحبه، وأعان حمزة عليًّا على قتل صاحبه فقتله، وقطعت رجل عبيدة، فمات بعد ذلك، وكان أول قتيل قتل يومئذ من المسلمين مِهْجَعٌ مولى عمر بن الخطاب، ثم أنزل الله نصره، وهزم عدوه، وقُتِل أبو جهل بن هشام، فأُخْبِرَ بقتله النبي ﷺ، فقال: «أفعلتم؟». فقالوا: نعم، يا نبي الله. فسُرَّ بذلك، وقال: «إنّ عهدي به وفي ركبته حَوَرٌ، فاذهبوا فانظروا، هل ترون ذلك؟». فنظروا، فرأوه، وأُسِرَ يومئذ ناس من قريش، ثم أمر النبي ﷺ بالقتلى فجُرُّوا حتى ألقوا في القَلِيبِ[[القَلِيب: البئر التي لم تُطْوَ، يُذكَّر ويُؤنَّث. النهاية (قلب).]]، ثم أشرف عليهم النبي ﷺ، فقال: «أيْ عتبة بن ربيعة، أيْ أمية بن خلف» فجعل يسميهم رجلًا رجلًا «هل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟». فقالوا: يا نبي الله، أوَيسمعون ما تقول؟[[أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ٥/٣٤٨-٣٥٢ (٩٧٢٧)، وفي تفسيره ٢/١١١-١١٣ (٩٩٠)، وابن المنذر ١/٣٦٢-٣٦٥ (٨٨٠) مرسلًا.]]. (ز)
٣٠٢٠٦- عن محمد ابن شهاب الزهري -من طريق موسى بن عُقْبَة-= (ز)
٣٠٢٠٧- وموسى بن عُقْبَة -من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عُقْبَة-، قالا: مكث رسول الله ﷺ بعد قَتْل ابن الحضْرمي شَهْرين، ثم أقبل أبو سفيان بن حرب في عِير لقريش من الشام، ومعه سبعون راكبًا من بطون قريش كلِّها، وفيهم مَخْرَمةُ بن نَوْفَل، وعمرُو بن العاصي، وكانوا تُجّارًا بالشام، ومعهم خزائن أهل مكة، ويقال: كانت عِيرُهم ألفَ بعير، ولم يكن لأحدٍ من قريش أُوقيَّةٌ فما فوقها إلا بعث بها مع أبي سفيان، إلا حُوَيطِبَ بن عبد العُزّى، فلذلك كان تخلَّفَ عن بدر فلم يشهده، فذُكِروا لرسول الله ﷺ وأصحابه، وقد كانت الحربُ بينهم قبل ذلك، وقتْلُ ابن الحضْرمي، وأَسْرُ الرجلين؛ عثمان والحكم، فلما ذُكِرت عِيرُ أبي سفيان لرسول الله ﷺ بعَث رسول الله ﷺ عَدِيَّ بن أبي الزَّغْباءِ الأنصاري من بني غَنْمٍ -وأصلُه من جُهَينة- وبَسْبَسًا -يعني: ابن عمرو- إلى العِير عَيْنًا له، فسارا حتى أتَيا حيًّا من جُهَيْنة قريبًا من ساحل البحر، فسألُوهم عن العِير وعن تجار قريش، فأخبَرُوهما بخبر القوم، فرجعا إلى رسول الله ﷺ، فأخبراه، فاستنفَرَ المسلمين للعير، وذلك في رمضان. وقدم أبو سفيان على الجُهَنِيِّين وهو مُتَخَوِّفٌ من رسول الله ﷺ وأصحابه، فقال: أحِسُّوا من محمد. فأخبَروه خبر الراكبين؛ عدي بن أبي الزَّغْباءِ وبَسبَسٍ، وأشاروا له إلى مُناخِهِما، فقال أبو سفيان: خُذوا من بَعْرِ بعيرِهما. ففَتَّه فوجَد فيه النَّوى، فقال: هذه علائفُ أهل يثرب، وهذه عيون محمدٍ وأصحابه. فسارُوا سِراعًا خائفين للطلب، وبعَثَ أبو سفيان رجلًا من بني غِفار -يقال له: ضَمْضمُ بن عمرو- إلى قريش: أن انفِرُوا، فاحمُوا عِيرَكم من محمد وأصحابه؛ فإنه قد استَنْفَر أصحابَه ليَعرِضُوا لنا. وكانت عاتكة بنتُ عبد المطلب ساكنةً بمكة، وهي عمة رسول الله ﷺ، وكانت مع أخيها العباس بن عبد المطلب، فرأت رؤيا قبل بدر، وقبل قدوم ضَمْضَمٍ عليهم، ففزِعتْ منها، فأرسلت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب من ليلتها، فجاءها العباس، فقالت: رأيتُ الليلة رُؤْيا قد أشفَقتُ منها، وخشِيتُ على قومِك منها الهَلَكة. قال: وماذا رأيتِ؟ قالت: لن أُحدِّثَك حتى تعاهِدَني أنك لا تذكُرُها؛ فإنهم إن سمِعوها آذَوْنا، وأسمعُونا ما لا نحبُّ. فعاهَدَها العباس، فقالت: رأيتُ راكبًا أقبَل من أعلى مكة على راحلته، يصيح بأعلى صوته: يا لَغُدُرُ، اخرُجوا في ليلتين أو ثلاث. فأقبَل يصيحُ حتى دخل المسجد على راحلتِه، فصاح ثلاث صيحات، ومال عليه الرجال والنساء والصبيان، وفزِعَ له الناس أشدَّ الفزع، قالت: ثم أُراهُ مَثَلَ على ظهر الكعبة على راحلتِه، فصاح ثلاث صيحات، فقال: يا لَغُدُرُ، ويا لَفُجَرُ، اخرُجوا في ليلتين أو ثلاث. ثم أُراهُ مَثَلَ على ظهر أبي قُبَيْسٍ[[أبو قبيس: هو الجبل المشرف على مكة، وجهه إلى قُعَيْقِعان. معجم البلدان ١/١٠٢.]] كذلك يقول: يا لَغُدُرُ، ويا لَفُجَرُ. حتى أسمَعَ مَن بينَ الأخْشَبَيْن[[الأخشبان: جبلان يضافان تارة إلى مكة، وتارة إلى منى، وهما واحد، أحدهما أبو قبيس، والآخر قعيقعان، ويقال: بل هما أبو قبيس والجبل الأحمر. معجم البلدان ١/١٦٣.]] من أهل مكة، ثم عمَدَ إلى صخرة فنزعها مِن أصلها، ثم أرْسَلَها على أهل مكة، فأقبلت الصخرة لها حسٌّ شديد، حتى إذا كانت عند أصل الجبل ارفَضَّت[[أي: تفرقت. النهاية (رفض).]]، فلا أعلمُ بمكة دارًا ولا بيتًا إلا وقد دخَلَتها فِلْقةٌ من تلك الصخرة، فقد خشيتُ على قومك. ففزِعَ العباس من رؤياها، ثم خرج من عندها فلَقِيَ الوليد بن عتبة بن ربيعة من آخر تلك الليلة، وكان الوليد خليلًا للعباس، فقصَّ عليه رؤيا عاتكة، وأمره ألا يذكُرها لأحد، فذكَرَها الوليد لأبيه عتبة، وذكَرَها عتبة لأخيه شيبة، فارتفَعَ الحديث حتى بلَغَ أبا جهل بن هشام، واستفاض في أهل مكة. فلما أصبحوا غدا العباس يطوف بالبيت، فوجد في المسجد أبا جهل، وعتبة وشيبة ابنيْ ربيعة، وأميةَ وأُبَيًّا ابنيْ خَلَف، وزَمْعَةَ بن الأسود، وأبا البَخْتريّ في نفرٍ من قريش يتحدَّثون، فلما نظروا إلى العباس ناداه أبو جهل: يا أبا الفضل، إذا قضيتَ طوافَك فهلُمَّ إلينا. فلما قضى طوافه جاء فجلس إليهم، فقال له أبو جهل: ما رؤيا رأَتْها عاتكة؟ فقال: ما رأَتْ من شيء. فقال أبو جهل: أما رضِيتُم يا بني هاشم بكذب الرجال حتى جئتُمونا بكذب النساء؟ إنّا وإياكم كفَرَسَيْ رِهانٍ، فاسْتَبَقْنا المجدَ منذُ حين، فلما تحاكَّتِ الرُّكَبُ قلتُم: منّا نبيٌّ. فما بقِيَ إلا أن تقولوا: مِنّا نَبِيَّةٌ. فما أعلمُ في قريش أهل بيتٍ أكذبَ امرأة ولا رجلًا منكم. وآذاهُ أشدَّ الأذى، وقال أبو جهل: زعمتْ عاتكة أن الراكب قال: اخرُجوا في ليلتين أو ثلاث. فلو قد مضتْ هذه الثلاثُ تبيَّنتْ قريشٌ كذِبَكم، وكتَبْنا سِجِلًّا أنكم أكذَبُ أهل بيت في العرب رجلًا وامرأة، أما رضيتمُ يا بني قُصَيٍّ إن ذهَبتم بالحِجابة، والنَّدوة، والسِّقاية، واللواء، والرِّفادة، حتى جئتُمونا بنبيٍّ منكم؟! فقال العباس: هل أنتَ مُنتهٍ؟ فإنّ الكذبَ منك وفي أهل بيتك. فقال مَن حضَرَهما: ما كنتَ يا أبا الفضل جهولًا ولا خَرِقًا. ولقِيَ العباس من عاتكة فيما أفْشى عليها من رؤياها أذىً شديدًا. فلما كان مساءُ الليلة الثالثة من الليلة التي رأتْ عاتكة فيها الرؤيا، جاءَهم الراكب الذي بعَثَ أبو سفيان، وهو ضَمْضَمُ بن عمرو الغِفاري، فصاح وقال: يا آل غالب بن فِهْرٍ، انفِرُوا، فقد خرَجَ محمد وأهل يثرب يعترِضُون لأبي سفيان، فأحرِزُوا[[أحرز الشيء: إذا حفظه وضمه إليه وصانه عن الأخذ. النهاية (حرز).]] عِيرَكم. ففَزِعتْ قريشٌ أشدَّ الفزع، وأشفقُوا مِن رؤيا عاتكة. وقال العباس: هذا زعمتم كذا، وكذَّبَ عاتكة. فنفرُوا على كلِّ صَعْبٍ وذَلول، وقال أبو جهل: أيظُنُّ محمدٌ أن يصيبَ مثلَ ما أصابَ بِنَخْلَةَ[[نخلة: موضع بين مكة والطائف. وقد قتل فيه عمرو بن الحضرمي؛ قتله عبد الله بن جحش في سرية بعثها النبي ﷺ، وهي التي أشار إليها أبو جهل في كلامه. اللسان (نخل)، والبداية والنهاية ٥/٣٦-٤٤.]]؟! سيعلمُ أنمنعُ عيرَنا أم لا. فخرجوا بخمسين وتسعمائة مقاتل، وساقُوا مائة فرس، ولم يَتْرُكوا كارهًا للخروج يظنُّون أنه في صَغْوِ[[الصَّغْو: الميل. يقال: صغا إليه يصغى ويصغو صَغْوًا وصُغُوًّا وصغًا: مال. اللسان (صغو).]] محمدٍ وأصحابه، ولا مسلمًا يعلمُون إسلامَه، ولا أحدًا من بني هاشم -إلا مَن لا يتَّهمون- إلا أشْخَصُوه معهم، فكان مِمَّن أشْخَصُوا العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وطالب بن أبي طالب، وعقيلُ بن أبي طالب في آخرين. فهنالك يقول طالب بن أبي طالب: لاهُمَّ إمّا يخرُجَنَّ طالبْ بمِقْنَبٍ من هذه المقانِبْ[[المِقْنَب –بالكَسْر-: جَماعة الخيْل والفُرْسان. النهاية (قنب).]] في نفَرٍ مُقاتلٍ يُحاربْ وليكن المسلوبَ غيرَ السّالبْ والرّاجعَ المغْلوبَ غيرَ الغالبْ فسارُوا حتى نزَلُوا الجُحْفَة، نزلُوها عِشاءً يتزوَّدُون من الماء، وفيهم رجل من بني المطلب بن عبد مَناف، يقال له: جُهَيْمُ بن الصَّلت بن مَخْرَمة. فوَضَعَ جُهَيْمٌ رأسَه فأغْفى، ثم فزِع، فقال لأصحابه: هل رأيتم الفارس الذي وقَفَ عَلَيَّ آنِفًا؟ فقالوا: لا، إنك مجنون. فقال: قد وقَفَ عَلَيَّ فارسٌ آنِفًا، فقال: قُتِل أبو جهل، وعُتبة، وشيبة، وزَمْعَة، وأبو البَخْتَرِيّ، وأُميَّةُ بن خلف. فعدَّ أشرافًا مِن كفار قريش، فقال له أصحابه: إنما لعِب بك الشيطان. ورُفِع حديثُ جُهَيمٍ إلى أبي جهل، فقال: قد جئتُم بكذِب بني المطلب مع كذب بني هاشم، سَتَرَوْنَ غدًا مَن يُقتَلُ. ثم ذُكرَ لرسول الله ﷺ عِيرُ قريش، جاءتْ من الشام وفيها أبو سفيان بن حرب، ومَخْرَمةُ بن نَوْفَل، وعمرو بن العاصي، وجماعةٌ مِن قريش، فخرَج إليهم رسول الله ﷺ، فسلَك حينَ خرج إلى بدر على نَقْبِ[[النَّقْبُ: هو الطريق بين الجبلين. النهاية (نقب).]] بني دينار، ورجَعَ حين رجَعَ من ثَنِيَّة الوَداع، فنَفَر رسول الله ﷺ حين نَفَرَ ومعه ثلاثُمائةٍ وستةَ عشرَ رجلًا -وفي رواية ابن فُلَيْح: ثلاثُمائةٍ وثلاثةَ عشرَ رجلًا-، وأَبْطَأَ عنه كثير من أصحابه، وتَرَبَّصُوا، وكانت أولَ وقْعةٍ أعزَّ الله فيها الإسلام. فخرج في رمضان على رأس ثمانيةَ عشرَ شهرًا من مَقْدَمِه المدينة، ومعه المسلمون لا يُريدون إلا العِير، فسَلَك على نَقْبِ بني دينار، والمسلمون غيرُ مُقْوِين[[مقوون: كاملو أداة الحرب. اللسان (قوي).]] من الظَّهْر، إنما خرَجُوا على النَّواضِح[[النواضح من الإبل: التي يستقى عليها. اللسان (نضح).]]، يعتقِبُ النفرُ منهم على البعير الواحد، وكان زَميلُ رسول الله ﷺ عَلِيَّ بن أبي طالب، ومَرْثَدَ بن أبي مَرْثَدٍ الغَنَوي حليفَ حمزة، فهم معه ليس معهم إلا بعيرٌ واحد، فسارُوا، حتى إذا كانوا بعِرْقِ الظُّبْيَة[[عرق الظبية: موضع بين مكة والمدينة. معجم البلدان ٣/٥٧٤، ٦٥٢.]] لَقِيَهم راكبٌ من قِبَلِ تِهامة، والمسلمون يسيرُون، فوافَقَه نفرٌ من أصحاب رسول الله ﷺ، فسألُوه عن أبي سفيان، فقال: لا عِلمَ لي به. فلما يَئِسُوا مِن خبره قالوا له: سلِّم على النبي ﷺ. فقال: وفيكم رسول الله؟! قالوا: نعم. قال: أيُّكم هو؟ فأشاروا له إليه، فقال الأعرابي: أنتَ رسول الله كما تقول؟ قال: «نعم». قال: إن كنتَ رسول الله كما تزعُمُ فحدِّثني بما في بطن ناقتي هذه؟ فغضب رجل من الأنصار ثم من بني عبد الأشهل يقال له: سلمةُ بن سلامةَ بن وقْشٍ. فقال للأعرابي: وقَعْتَ على ناقتِك فحمَلتْ منك. فكَرِه رسول الله ﷺ ما قال سلمةُ حينَ سمِعَه أفْحَشَ، فأَعْرَضَ عنه، ثم سار رسول الله ﷺ لا يلقاه خبرٌ، ولا يعلمُ بنَفْرة قريش، فقال رسول الله ﷺ: «أشِيرُوا علينا في أمرنا ومسيرنا». فقال أبو بكر: يا رسول الله، أنا أعلمُ الناس بمسافة الأرض، أخْبَرنا عدي بن أبي الزَّغْباءِ أن العِيرَ كانت بوادِي كذا وكذا، فكأَنّا وإيّاهم فرسا رهانٍ إلى بدر. ثم قال: «أشيروا عَلَيَّ». فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، إنها قريشٌ وعِزُّها، واللهِ ما ذلَّت منذُ عزَّت، ولا آمنتْ منذ كفرت، والله لتُقاتِلَنَّك، فتأهَّبْ لذلك أُهْبَتَه، وأعِددْ له عُدَّتَه. فقال رسول الله ﷺ: «أشِيروا عَلَيَّ». فقال المِقْداد بن عمرو: إنا لا نقولُ لك كما قال أصحاب موسى: اذهبْ أنت وربُّك فقاتِلا، إنا هاهنا قاعدون. ولكن اذهب أنت وربُّك فقاتِلا، إنّا معكم مُتَّبِعون. فقال رسول الله ﷺ: «أشِيروا عَلَيَّ». فلما رأى سعد بن معاذ كثرةَ استشارة النبي ﷺ أصحابَه، فيُشيرون، فيَرجِعُ إلى المشورة، ظنَّ سعدٌ أنه يستنطِقُ الأنصار شَفَقًا ألّا يَسْتَحْوِذُوا معه على ما يريدُ من أمره، فقال سعد بن معاذ: لعلك يا رسول الله تخشى ألا تكون الأنصار يريدون مواساتَك، ولا يرَوْنها حقًّا عليهم إلا بأن يرَوْا عدوًّا في بيوتهم وأولادهم ونسائهم، وإني أقول عن الأنصار وأُجيب عنهم يا رسول الله، فاظْعَنْ حيث شئتَ، وخُذْ من أموالنا ما شِئْتَ، ثم أعْطِنا ما شئتَ، وما أخَذتَه منّا أحبُّ إلينا مما ترَكتَ، وما ائتمَرْتَ من أمر فأَمْرُنا بأمرِك فيه تَبَعٌ، فوالله لو سِرْتَ حتى تبلغَ البَرْكَ من غِمْدِ ذي يَمَنٍ لَسِرْنا معك. فلما قال ذلك سعد قال رسول الله ﷺ: «سيروا على اسم الله، فإني قد رأيتُ مَصارِعَ القوم». فعَمَد لبدرٍ. وخفَض أبو سفيان فلَصِقَ بساحل البحر، وكتب إلى قريش حين خالف مسيرَ رسول الله ﷺ، ورأى أنه قد أحرَز ما معه، وأمرهم أن يرجعوا؛ فإنما خرَجتُم لتُحرِزوا رَكْبَكم فقد أُحرِزَ لكم. فلَقِيَهم هذا الخبر بالجُحْفَة، فقال أبو جهل: والله لا نرجعُ حتى نَقدَمَ بدرًا، فنُقيم بها، ونُطعِم مَن حَضَرَنا من العرب؛ فإنه لن يرانا أحدٌ فيُقاتلَنا. فكَرِه ذلك الأَخْنَسُ بن شَرِيقٍ، فأحبَّ أن يرجِعوا، وأشار عليهم بالرجعة، فأبَوْا وعَصَوْا، وأخَذَتهم حَمِيَّةُ الجاهلية، فلما يئِسَ الأخنسُ من رجوع قريش أكَبَّ على بني زُهْرةَ، فأطاعوه فرجَعوا، فلم يشهَد أحد منهم بدرًا، واغْتَبَطُوا برأي الأخنس، وتَبَرَّكوا به، فلم يزَلْ فيهم مُطاعًا حتى مات، وأرادَتْ بنو هاشم الرجوعَ فيمن رجَع، فاشتَدَّ عليهم أبو جهل، وقال: والله لا تُفارِقُنا هذه العصابة حتى نرجع. وسار رسول الله ﷺ حتى نزل أدنى شيء من بدر، ثم بعث عليَّ بن أبي طالب، والزبير بن العوّام، وبَسْبَسًا الأنصاري، في عصابةٍ من أصحابه، فقال لهم: «اندفِعوا إلى هذه الظِّرابَ[[الظراب: الجبال الصغار، واحدها: ظَرِب. النهاية (ظرب).]]». وهي في ناحية بدر، «فإني أرجو أن تجدُوا الخبرَ عندَ القَلِيبِ الذي يلى الظِّرابَ». فانطَلَقوا متوشِّحِي السيوف، فوجدوا وارِدَ قريشٍ عند القَلِيبِ الذي ذكَر رسول الله ﷺ، فأخَذوا غلامين؛ أحدُهما لبني الحجاج بن أسود، والآخرُ لأبي العاصي يقال له: أسلَم، وأفلَت أصحابُهما قِبَلَ قريش، فأقبَلوا بهما حتى أتَوا بهما رسول الله ﷺ وهو في مُعَرَّسِهِ[[المُعَرَّسُ: موضع التعريس. والتعريس: نزول المسافر آخر الليل نزلةً للنوم والاستراحة. النهاية (عرس).]] دونَ الماء، فجعَلوا يسأَلون العَبدَينِ عن أبي سفيان وأصحابه، لا يرَوْن إلا أنهما لهم، فطَفِقا يُحدِّثانِهم عن قريش ومَن خرج منهم وعن رءُوسهم فيكذِّبونهما، وهم أكرَهُ شيء للذي يُخبرانِهم، وكانوا يطمَعون بأبي سفيان وأصحابِه ويكرَهون قريشًا، وكان رسول الله ﷺ قائمًا يصلِّي، يسمعُ ويرى الذي يصنعون بالعبدَيْن، فجعل العبدان إذا أذلَقُوهما[[أذْلَقَهُ: أقلقه وأضعفه. القاموس (ذلق).]] بالضرب يقولان: نعم، هذا أبو سفيان. والرَّكبُ كما قال الله تعالى: ﴿أسفل منكم﴾. قال الله: ﴿إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا﴾ [الأنفال:٤٢]. قال: فطفِقوا إذا قال العبدان: هذه قريشٌ قد جاءَتْكم. كذَّبوهما، وإذا قالا: هذا أبو سفيان. ترَكوهما، فلما رأى رسول الله ﷺ صَنِيعَهم بهما سلَّم من صلاته، وقال: «ماذا أخبَراكم؟». قالوا: أخبرانا أن قريشًا قد جاءت. قال: «فإنهما قد صدَقا، والله إنكم لتضرِبونهما إذا صدَقا، وتترُكونهما إذا كذَبا، خرَجت قريش لتُحرِزَ رَكْبَها، وخافوكم عليهم». ثم دعا رسول الله ﷺ العبدَين، فسأَلهما، فأخبَراه بقريش، وقالا: لا عِلْمَ لنا بأبي سفيان. فسألهما رسول الله ﷺ: «كم القوم؟». قالا: لا ندري، والله هم كثير. فزعموا أن رسول الله ﷺ قال: «مَن أطعَمَهم أمس؟». فَسَمَّيا رجلًا من القوم، قال: «كم نَحَر لهم؟». قالا: عشْرَ جزائرَ. قال: «فمن أطعمهم أولَ أمس؟». فسمَّيا رجلًا آخرَ من القوم، قال: «كم نَحَر لهم؟». قالا: تسعًا. فزعَموا أن رسول الله ﷺ قال: «القومُ ما بينَ التسعِمائة والألف». يعتبرُ ذلك بتسع جزائرَ ينحَرونها يومًا، وعشرٍ ينحَرونها يومًا، فقام رسول الله ﷺ فقال: «أشيروا عليَّ في المنزل». فقام الحُبابُ بن المنذر، أحد بني سَلِمة، فقال: يا رسول الله، أنا عالمٌ بها وبقُلُبِها، إن رأيتَ أن تسيرَ إلى قَلِيبٍ منها قد عرَفتُها كثيرةَ الماء عذبة، فتنزِلَ إليها، وتَسْبِقَ القومَ إليها، وتُغَوِّرَ ما سِواها. فقال رسول الله ﷺ: «سِيروا، فإن الله قد وعدكم إحدى الطائفتين أنها لكم». فوقع في قلوب ناس كثير الخوف، وكان فيهم شيء من تخاذل من تخويف الشيطان، فسار رسول الله ﷺ والمسلمون مُسابِقين إلى الماء، وسار المشركون سِراعًا يريدون الماء، فأنزل الله عليهم في تلك الليلة مطرًا واحدًا؛ فكان على المشركين بلاءً شديدًا منعهم أن يسيروا، وكان على المسلمين دِيمةً[[الدِّيمة: المطر الدائم في سكون. النهاية (ديم).]] خفيفة، لَبَّد[[أي: جعل الأرض التي يسيرون عليها قوية لا تَسُوخُ فيها الأرجل وكذا المنزلُ الذي ينزلونه. النهاية (لبد).]] لهم المسيرَ والمَنزلَ، وكانت بَطْحاءُ[[بطحاء الوادي وأَبْطَحُهُ: حصاه اللِّيِّنُ في بطن المَسِيل. النهاية (بطح).]]، فسبَق المسلمون إلى الماء، فنزَلوا عليه شَطرَ الليل، فاقْتَحَم القوم في القليبِ فماحُوها[[الميح: أن يدخل البئر فيملأ الدلو، وذلك إذا قل ماؤها. اللسان (ميح).]] حتى كثُر ماؤُها، وصنَعوا حوضًا عظيمًا، ثم غَوَّروا ما سواه من المياه، وقال رسول الله ﷺ: «هذه مَصارِعُهم -إن شاء الله- بالغداة». وأنزَل الله: ‹إذْ يَغْشاكُمُ النُّعاسُ أمَنَةً مِّنْهُ ويُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ ويُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ولِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ ويُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدامَ›[[و‹إذْ يَغْشاكُمُ النُّعاسُ› بفتح الياء والشين وألف بعدها، ورفع ‹النُّعاسُ› قراءة متواترة، قرأ بها ابن كثير، وأبو عمرو، وقرأ نافع، وأبو جعفر: ‹إذْ يُغْشِيكُمُ النُّعاسَ› بضم الياء، وكسر الشين، وياء بعدها، ونصب ‹النُّعاسَ›، وكذلك بقية العشرة إلا أنهم فتحوا العين، وشدّدوا الشين ‹إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ›. انظر: النشر ١/٢٧٦، والإتحاف ص٢٩٧.]]. ثم صفَّ رسول الله ﷺ على الحِياضِ، فلما طلَع المشركون قال رسول الله ﷺ: «اللهمّ هذه قريش قد جاءت بِخُيَلائِها وفخرِها، تُحادُّك وتكذِّبُ رسولك، اللهمَّ إني أسألك ما وعَدتَني». ورسول الله ﷺ ممسكٌ بعَضُدِ أبي بكر، يقول: «اللهم إني أسألك ما وعَدتَني». فقال أبو بكر: أبشِرْ، فوالذي نفسي بيده، ليُنجِزَنَّ اللهُ لك ما وعَدَك. فاستنصَرَ المسلمون الله واستغاثوه، فاستجاب الله لنبيِّه وللمسلمين. وأقبل المشركون ومعهم إبليس في صورة سُراقةَ بن جُعْشُمٍ المُدْلِجِيِّ يحدِّثُهم أن بني كِنانَةَ وراءهم قد أقبلوا لنصرهم، وأنه لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم، لما أخبَرهم من مَسِير بني كِنانَةَ، وأنزل الله: ﴿ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس﴾. هذه الآية والتي بعدها [الأنفال:٤٧-٤٨]، وقال رجال من المشركين لَمّا رأوا قِلَّةَ مَن مع محمد ﷺ: غَرَّ هؤلاء دينُهم. فأنزل الله: ﴿ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم﴾ [الأنفال:٤٩]. وأقبل المشركون حتى نزلوا وتَعَبَّوْا للقتال، والشيطان معهم لا يُفارقُهم، فسعى حكيمُ بن حِزام إلى عُتْبَةَ بن رَبِيعَة، فقال له: هل لك أن تكون سيدَ قريش ما عِشْتَ؟ قال عتبة: فأفعلُ ماذا؟ قال: تُجِيرُ بينَ الناس[[تجير بين الناس: أي: تفصل بينهم. التاج (جور).]]، وتَحْمِلُ[[الحَمالَةُ –بالفتح٠: ما يَتَحَمَّلُهُ الإنسان عن غيره من دِيَة أو غَرامة، مثل أن يقع حرب بين فريقين تُسْفَك فيها الدماء، فيدخل بينهم رجل يتحمل دِياتِ القتلى ليُصْلح ذات البين. والتَّحَمُّل: أن يَحْمِلَها عنهم على نفسه. النهاية (حمل).]] دمَ ابن الحضرمي وبما أصاب محمدٌ من تلك العير، فإنهم لا يطلُبون من محمدٍ غيرَ هذه العير ودم هذا الرجل. قال عتبة: نعم، قد فعَلتُ، ونِعِمّا قلتَ ونِعمّا دَعَوتَ إليه، فاسعَ في عشيرتِك فأنا أتحمَّلُ بها. فسعى حكيمٌ في أشراف قريش بذلك يدعوهم إليه، وركِبَ عُتْبَة جملًا له، فسار عليه في صفوف المشركين في أصحابه، فقال: يا قومِ، أطيعوني، فإنكم لا تطلُبون عندهم غير دم ابن الحضرمي وما أصابوا من عِيرِكم تلك، وأنا أتحمَّلُ بوفاءِ ذلك، ودَعُوا هذا الرجل؛ فإن كان كاذبًا ولِيَ قتلَه غيرُكم من العرب، فإنّ فيهم رجالًا لكم فيهم قرابةٌ قَرِيبَةٌ، وإنكم إن تقتلوهم لا يزال الرجل منكم ينظر إلى قاتل أخيه، أو ابنه، أو ابن أخيه، أو ابن عمِّه، فيُوَرِّثُ ذلك فيهم إحَنًا وضَغائِن، وإن كان هذا الرجلُ مَلِكًا كنتم في مُلْكِ أخيكم، وإن كان نَبِيًّا لِمَ تَقتُلوا النبي فتُسَبُّوا به؟! ولن تَخْلُصُوا إليهم حتى يُصِيبوا أعدادَهم، ولا آمَنُ أن تكونَ لهم الدَّبْرَةُ[[الدَّبْرَة: نقيض الدولة والعاقبة والهزيمة في القتال. القاموس (دبر).]] عليكم. فحسده أبو جهل على مقالته، وأبى الله إلا أن يُنفِذَ أمره، وعَمَد أبو جهل إلى ابن الحَضْرَمِيّ، وهو أخو المقتول، فقال: هذا عتبةُ يُخَذِّلُ بين الناس، وقد تحمَّلَ بدِيَةِ أخيك يزعمُ أنك قابلُها، أفلا تَسْتَحْيُون من ذلك أن تَقْبَلوا الدِّيَة؟! فزعَموا أن النبي ﷺ قال وهو ينظر إلى عتبة: «إن يكن عند أحد من القوم خيرٌ فهو عند صاحب الجمل الأحمر، وإن يطيعوه يَرشُدوا». فلما حَرَّض أبو جهل قريشًا على القتال أمَر النساء يُعْوِلْنَ عَمْرًا، فقُمْن يَصِحْنَ: واعَمْراه، واعَمْراه. تحريضًا على القتال، فاجتمَعت قريشٌ على القتال، فقال عتبة لأبي جهل: ستَعلمُ اليوم أيّ الأمرين أرشد. وأخَذَت قريش مَصافَّ هذا القتال، وقالوا لعُمَير بن وهب: اركَبْ فاحْزُرْ لنا محمدًا وأصحابَه. فقعَد عُميرٌ على فرسِه، فأطاف برسول الله ﷺ وأصحابه، ثم رجع إلى المشركين، فقال: حَزَرْتُهم بثلاثمائة مقاتل، زادوا شيئًا أو نقَصوا شيئًا، وحزَرتُ سبعين بعيرًا أو نحوَ ذلك، لكن أنظِروني حتى أنظرَ هل لهم مَدَد أو كَمِين؟ فأطاف حولَهم، وبعَثوا خيلهم معه فأطافوا حولهم، ثم رجعوا فقالوا: لا مَدَدَ لهم ولا كَمِينَ، وإنما هم أكَلَةُ جَزُورٍ[[يقال: إنما هم أكلة رأس. يُضرب مثلًا للقوم يقِلُّ عددهم. مجمع الأمثال للميداني ١/٨١.]]. وقالوا لعمير: حَرِّشْ بينَ القوم. فحمَل عُمَيرٌ على الصفِّ بمائةِ فارس، واضطجَع رسول الله ﷺ، وقال لأصحابه: «لا تُقاتِلوا حتى أُوذِنَكم». وغَشِيَه نومٌ فغلبه، فلما نظر بعضُ القوم إلى بعض، جعل أبو بكر يقول: يا رسول الله، قد دنا القومُ ونالوا مِنّا. فاستيقظ رسول الله ﷺ، وقد أراه الله إياهم في منامه قليلًا، وقلَّل المسلمين في أعين المشركين، حتى طَمِع بعضُ القوم في بعض، ولو أراه عددًا كثيرًا لفشِلوا وتنازَعوا في الأمر كما قال الله. وقام رسول الله ﷺ في الناس فوعَظهم، وأخبَرهم أن الله قد أوجَب الجنة لمن استُشهِد اليوم، فقام عُمَيْرُ بن الحُمامِ عن عجينٍ كان يعجنُه لأصحابه حين سمع قول النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله، إن لي الجنة إن قُتِلتُ؟ قال: «نعم». فشَدَّ على أعداء الله مكانَه فاستُشهِد، وكان أولَ قتيلٍ قُتِل. ثم أقبَل الأسود بن عبد الأسد المخزومي يحلفُ بآلهته لَيَشْرَبَنَّ من الحوض الذي صنَع محمدٌ، ولَيَهْدِمَنَّه، فلما دنا من الحوض لَقِيَه حمزة بن عبد المطلب، فضَرَب رِجْلَه، فقطَعها، فأقبَل يحبو حتى وقَع في جَوْف الحوض، وأَتْبَعه حمزة حتى قتله، ثم نزل عتبة بن ربيعة عن جمله، ونادى: هل من مُبارِز؟ ولَحِقَه أخوه شيبة والوليد ابنُه، فنادَيا يسألان المُبارزة، فقام إليهم ثلاثةٌ من الأنصار، فاسْتَحْيا النبي ﷺ من ذلك، فناداهم: أن ارجِعوا إلى مَصافِّكم، ولْيَقُمْ إليهم بنو عمِّهم. فقام حمزة، وعلي بن أبي طالب، وعُبيدةُ بن الحارث بن المطلب؛ فقتَل حمزةُ عتبة، وقتَل عبيدةُ شيبة، وقتَل عليٌّ الوليد، وضرَب شيبةُ رِجْلَ عبيدة فقطَعها، فاستَنْقَذه حمزة وعلي، فحُمِل حتى تُوفِّيَ بالصَّفْراء[[الصفراء: وادٍ من ناحية المدينة. معجم البلدان ٣/٣٩٩.]]، وعندَ ذلك نذَرت هند بنتُ عتبة لَتَأْكُلَنَّ من كَبِدِ حمزة إن قَدرت عليها، فكان قَتْلُ هؤلاء النفر قبل التقاءِ الجَمْعَين، وعَجَّ المسلمون إلى الله يسألونه النصر حين رأَوُا القتال قد نَشِبَ، ورفع رسول الله ﷺ يَدَيْه إلى الله يسأله ما وعَدَه، ويسأله النصر، ويقول: «اللهمَّ إن ظُهِر على هذه العصابة ظَهَر الشِّرْكُ، ولم يقُمْ لك دينٌ». وأبو بكر يقول: يا رسول الله، والذي نفسي بيده لَيَنصُرَنَّك الله، ولَيُبَيِّضَنَّ وجهَك. فأنزل الله من الملائكة جُندًا في أكْنافِ العدو، فقال رسول الله ﷺ: «قد أنزل الله نصره، ونزلت الملائكة، أبشِرْ يا أبا بكر، فإني قد رأيتُ جبريل مُعْتَجِرًا[[الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه، ويرد طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئًا تحت ذَقَنِهِ. النهاية (عجر).]] يقود فرسًا بين السماء والأرض، فلما هبَط إلى الأرض جلس عليها، فتَغيَّب عني ساعة، ثم رأيتُ على شَفَتِه غُبارًا». وقال أبو جهل: اللهمَّ انصُرْ خيرَ الدِّينَيْن، اللهم ديننا القديم ودين محمد الحديث. ونكَص الشيطان على عَقِبَيه حين رأى الملائكة، وتَبَرَّأ من نُصرة أصحابه، وأخذ رسول الله ﷺ مِلءَ كفِّه من الحَصْباءِ[[الحَصْباءُ: الحصى الصغار. النهاية (حصب).]]، فرمى بها وجوهَ المشركين، فجعل الله تلك الحَصْباءَ عظيمًا شأنُها، لم تترُكْ من المشركين رجلًا إلا ملأَت عينيه، والملائكة يقتُلونهم ويأسِرونهم، ويجِدون النفرَ كلَّ رجلٍ منهم مُنكَبًّا على وجهه لا يدري أين يتوجَّهُ، يُعالِجُ التراب ينزِعُه من عينيه. ورجَعت قريش إلى مكة مُنهَزِمين مَغلوبين، وأذلَّ الله بوقعة بدر رقابَ المشركين والمنافقين، فلم يبقَ بالمدينة منافقٌ ولا يهوديٌّ إلا وهو خاضعٌ عنقُه لوقعة بدر، وكان ذلك يوم الفرقان، يوم فرَّق الله بين الشرك والإيمان، وقالت اليهود تيقُّنًا: إنه النبي الذي نجد نعته في التوراة، والله لا يرفعُ رايةً بعد اليوم إلا ظهرت. ورجع رسول الله ﷺ إلى المدينة، فدخل من ثَنِيَّةِ الوداع، ونزَل القرآن يُعَرِّفُهم الله نعمتَه فيما كرِهوا من خروج رسول الله ﷺ إلى بدر، فقال: ﴿كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون﴾ هذه الآية وثلاثَ آيات معها، وقال فيما استجاب للرسول وللمؤمنين: ﴿إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم﴾ الآية وأخرى معها، وأنزَل فيما غشِيَهم من النُّعاس: ‹إذْ يَغْشاكُمُ النُّعاسُ› الآية، ثم أخبَرهم بما أوحى إلى الملائكة من نصرِهم، فقال: ﴿إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم﴾ الآية والتي بعدها، وأنزَل في قتلِ المشركين والقبضةِ التي رمى بها رسول الله ﷺ: ﴿فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم﴾ الآية والتي بعدها [الأنفال:١٧، ١٨]، وأنزل في استفتاحِهم: ﴿إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح﴾ [الأنفال:١٩]، ثم أنزل: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله﴾ في سبعِ آيات منها [الأنفال:٢٠-٢٦]، وأنزل في منازلهم: ﴿إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى﴾ الآية والتي بعدها [الأنفال:٤٢، ٤٣]، وأنزل فيما يَعِظُهم به: ﴿يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا﴾ الآية وثلاث آيات معها [الأنفال:٤٥-٤٨]، وأنزل فيما تكلَّم به مَن رأى قِلَّة المسلمين: ﴿غر هؤلاء دينهم﴾ الآية [الأنفال:٤٩]، وأنزل في قتلى المشركين ومَن اتَّبَعَهم: ﴿ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة﴾ الآية وثمانَ آياتٍ معها [الأنفال:٥٠-٥٨][[أخرجه البيهقي في الدلائل ٣/١٠١-١١٩، وموسى بن عقبة في مغازيه -كما في تاريخ الإسلام للذهبي ٢/١٠٣-١١٢- مرسلًا. قال الذهبي: «حذفتُ من هذه القصة كثيرًا مما سلف من الأحاديث الصحيحة استغناءً بما تقدم».]]. (٧/٢٩- ٤٦)
٣٠٢٠٨- عن إسماعيل السُّدِّيّ -من طريق أسباط-: أنّ أبا سفيان أقبل في عِير من الشام فيها تجارة قريش، وهي اللَّطِيمة[[اللَّطيمة: الجِمال التي تحمل العِطْر والبَزَّ غيرَ المِيَرة. النهاية (لطم).]]، فبلغ رسولَ الله ﷺ أنها قد أقبلت، فاستنفر الناس، فخرجوا معه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، فبعث عينًا له من جُهَيْنَة حَلِيفًا للأنصار يدعى: ابن الأُرَيْقِطِ، فأتاه بخبر القوم. وبلغ أبا سفيان خروجُ محمد ﷺ، فبعث إلى أهل مكة يستعينهم، فبعث رجلًا من بني غِفار يدعى ضَمْضَم بن عمرو، فخرج النبي ﷺ ولا يشعر بخروج قريش، فأخبره الله بخروجهم، فتخوف من الأنصار أن يخذلوه ويقولوا: إنا عاهدنا أن نمنعك إن أرادك أحد ببلدنا. فأقبل على أصحابه، فاستشارهم في طلب العير، فقال له أبو بكر ﵁: إني قد سلكت هذا الطريق، فأنا أعلم به، وقد فارقهم الرجل بمكان كذا وكذا، فسكت النبي ﷺ، ثم عاد فشاورهم، فجعلوا يشيرون عليه بالعِير. فلما أكثر المشورة تكلم سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله، أراك تشاور أصحابك فيشيرون عليك، وتعود فتشاورهم، فكأنك لا ترضى ما يشيرون عليك، وكأنك تتخوف أن تتخلف عنك الأنصار، أنت رسول الله، وعليك أُنزِل الكتاب، وقد أمرك الله بالقتال، ووعدك النصر، والله لا يخلف الميعاد، امضِ لما أُمِرْت به، فوالذي بعثك بالحق لا يتخلف عنك رجل من الأنصار. ثم قام المِقْداد بن الأسود الكِندِيّ، فقال: يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون. ولكِنّا نقول: أقْدِم فقاتل، إنا معك مقاتلون. ففرح رسول الله ﷺ بذلك، وقال: «إنّ ربي وعدني القوم، وقد خرجوا، فسيروا إليهم». فساروا[[أخرجه ابن جرير ١١/٤٣-٤٤ مرسلًا.]]. (ز)
﴿وَإِذۡ یَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّاۤىِٕفَتَیۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَیۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ﴾ - تفسير
٣٠٢٠٩- قال أبو أيوب الأنصاري -من طريق أبي عِمْران-: ﴿وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم﴾، قالوا: الشَّوْكة: القوم. وغير الشوكة: العِير. فلَمّا وعَدَنا الله إحدى الطائفتين: إما العير، وإما القوم، طابَتْ أنفسنا[[أخرجه ابن جرير ١١/٤٧، وابن أبي حاتم ٥/١٦٦١.]]. (ز)
٣٠٢١٠- عن عروة بن الزبير -من طريق محمد بن جعفر بن الزبير- ﴿وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم﴾، أي: الغنيمة، دون الحرب[[أخرجه ابن أبي حاتم ٥/١٦٦١.]]. (ز)
٣٠٢١١- عن عروة بن الزبير -من طريق هشام بن عروة-: أنّ أبا سفيان أقبل ومن معه من رُكْبان قريش مُقْبِلِين من الشّام، فسلكوا طريق الساحل، فلما سمع بهم النبي ﷺ ندب أصحابه، وحَدَّثَهم بما معهم من الأموال، وبِقِلَّة عددهم. فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان والركب معه، لا يرونها إلا غنيمةً لهم، لا يظنون أن يكون كبيرُ قتال إذا رأوهم. وهي ما أنزل الله: ﴿وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم﴾[[أخرجه ابن جرير ١١/٤١ مرسلًا.]]. (ز)
٣٠٢١٢- عن الضحاك بن مزاحم -من طريق عبيد بن سليمان- في قوله: ﴿وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم﴾، قال: هي عِيرُ أبي سفيان، ودَّ أصحابُ محمد ﷺ أنّ العِيرَ كانت لهم، وأن القتالَ صُرِف عنهم[[أخرجه ابن جرير ١١/٤٨، وابن أبي حاتم ٥/١٦٦١. وعزاه السيوطي إلى أبي الشيخ.]]. (٧/٤٩)
٣٠٢١٣- عن قتادة بن دعامة -من طريق سعيد- في قوله: ﴿وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم﴾، قال: الطائفتان: إحداهما أبو سفيان أقبَل بالعِيرِ من الشام، والطائفة الأخرى أبو جهل بن هشام معه نفرٌ من قريش، فكَرِه المسلمون الشَّوْكَة والقتال، وأَحَبُّوا أن يَلْتَقُوا العِير، وأراد الله ما أراد[[أخرجه ابن جرير ١١/٤٤، ٤٥، وابن أبي حاتم ٥/١٦٦١ بلفظ: ﴿وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم﴾ فالطائفتان: إحداهما أبو سفيان أقبل بالعير من الشام، والطائفة الأخرى: أبو جهل بن هشام معه نفير قريش. وذكره يحيى بن سلام - تفسير ابن أبي زمنين ٢/١٦٧. وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ.]]. (٧/٤٩)
٣٠٢١٤- عن إسماعيل السُّدِّيّ -من طريق أسباط- قال: ﴿وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم﴾ أرادوا العير، والله يريد أن يحق الحق بكلماته[[أخرجه ابن أبي حاتم ٥/١٦٦٢.]]. (ز)
٣٠٢١٥- عن عبد الملك ابن جُرَيْج -من طريق حجاج- ﴿وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم﴾، قال: كان جبريل ﵇ قد نزل، فأخبره بمسير قريش وهي تريد عِيرها، ووعده إما العير، وإما قريشًا، وذلك كان ببدر، وأخذوا السُّقاة وسألوهم، فأخبروهم، فذلك قوله: ﴿وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم﴾. هم أهل مكة[[أخرجه ابن جرير ١١/٤٦.]]. (ز)
٣٠٢١٦- قال مقاتل بن سليمان: ﴿وإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدى الطّائِفَتَيْنِ﴾ العير، أو هزيمة المشركين وعسكرهم ﴿أنَّها لَكُمْ وتَوَدُّونَ أنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ﴾ يعني: العير ﴿تَكُونُ لَكُمْ ويُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ﴾ يقول: يحقق الإسلام بما أنزل إليك[[تفسير مقاتل بن سليمان ٢/١٠١، ١٠٢.]]٢٧٤٦. (ز)
٣٠٢١٧- عن محمد بن إسحاق -من طريق سلمة- ﴿وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم﴾، أي: الغنيمة دون الحرب[[أخرجه ابن جرير ١١/٤٨.]]. (ز)
٣٠٢١٨- عن سفيان الثوري، في قول الله: ﴿إحدى الطائفتين أنها لكم﴾، قال: عِير أبي سفيان[[تفسير سفيان الثوري ص١١٦.]]. (ز)
٣٠٢١٩- قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم -من طريق ابن وهب- في قوله: ﴿وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم﴾ إلى آخر الآية، خرج النبي ﷺ إلى بدر، وهم يريدون يعترضون عِيرًا لقريش. قال: وخرج الشيطان في صورة سُراقَةَ بنِ جُعْشُمٍ، حتى أتى أهل مكة، فاستغواهم، وقال: إن محمدًا وأصحابه قد عرضوا لعِيركم. وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس، مَن مثلكم؟! وإني جار لكم أن تكونوا على ما يكره الله. فخرجوا، ونادَوا أن لا يتخلف مِنّا أحد إلا هدمنا داره واستبحناه، وأخذ رسول الله ﷺ وأصحابه بالرَّوْحاءِ[[الرَّوْحاء: موضع بين مكة والمدينة. ينظر: النهاية (سد)، ومعجم البلدان ٣/٧٦.]] عَيْنًا للقوم، فأخبره بهم، فقال رسول الله ﷺ: إن الله قد وعدكم العِير أو القوم. فكانت العِير أحبَّ إلى القوم من القوم، كان القتال في الشَّوْكة، والعِير ليس فيها قتال، وذلك قول الله: ﴿وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم﴾، قال: الشوكة: القتال. وغير الشوكة: العير[[أخرجه ابن جرير ١١/٤٦-٤٧.]]. (ز)
٣٠٢٢٠- عن يعقوب بن محمد، قال: حدثني غير واحد في قوله: ﴿وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم﴾: إن الشوكة قريش[[أخرجه ابن جرير ١١/٤٨.]]. (ز)
﴿وَإِذۡ یَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّاۤىِٕفَتَیۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَیۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ﴾ - آثار متعلقة بالآية
٣٠٢٢١- عن عبد الله بن عباس -من طريق عكرمة- قال: قيل لرسول الله ﷺ حين فرَغ من بدر: عليك العيرَ ليس دونَها شيء. فناداه العباس وهو أسيرٌ في وثاقِه: إنه لا يصلُحُ لك. قال: «ولِمَ؟». قال: لأن الله إنما وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك. قال: «صدقتَ»[[أخرجه أحمد ٣/٤٦٦ (٢٠٢٢)، ٥/٦٠ (٢٨٧٣)، ٥/١٤١-١٤٢ (٣٠٠١)، والترمذي ٥/٣١٦ (٣٣٣٥)، والحاكم ٢/٣٥٧ (٣٢٦١)، وعبد الرزاق في تفسيره ٢/١١٦ (٩٩٦)، وابن أبي حاتم ٥/١٦٦٠ (٨٨١٣). قال الترمذي: «هذا حديث حسن». وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». وقال ابن كثير في تفسيره ٤/١٦: «إسناد جيد».]]. (٧/٥٠)
﴿وَیُرِیدُ ٱللَّهُ أَن یُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَـٰتِهِۦ وَیَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ ٧﴾ - تفسير
٣٠٢٢٢- عن أبي مالك غَزْوان الغفاري -من طريق السدي- قوله: ﴿دابر﴾، يعني: أصل[[أخرجه ابن أبي حاتم ٥/١٦٦٢.]]. (ز)
٣٠٢٢٣- عن قتادة بن دعامة: ﴿ويقطع دابر الكافرين﴾، أي: شَأْفَتَهم[[عزاه السيوطي إلى عبد بن حميد.]]. (٧/٥٠)
٣٠٢٢٤- قال صفوان بن سليم -من طريق محمد بن عمرو-: ﴿ويقطع دابر الكافرين﴾ فأوحى الله إليه القتال[[أخرجه ابن أبي حاتم ٥/١٦٦٢.]]. (ز)
٣٠٢٢٥- قال مقاتل بن سليمان: ﴿ويُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ﴾، يقول: يحقق الإسلام بما أنزل إليك، ﴿ويَقْطَعَ دابِرَ الكافِرِينَ﴾ يعني: أصل الكافرين ببدر[[تفسير مقاتل بن سليمان ٢/١٠١، ١٠٢.]]. (ز)
٣٠٢٢٦- عن محمد بن إسحاق -من طريق سلمة- ﴿ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين﴾، أي: الوقعة التي أوقع بصناديد قريش وقادتهم يوم بدر[[أخرجه ابن جرير ١١/٤٩، ٥٠، وابن أبي حاتم ٥/١٦٦٢.]]. (ز)
٣٠٢٢٧- قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم -من طريق ابن وهب- في قول الله: ﴿ويريد الله أن يحق الحق بكلماته﴾: أن يقتل هؤلاء الذين أراد أن يقطع دابرهم، هذا خير لكم من العير[[أخرجه ابن جرير ١١/٤٩.]]. (ز)
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.