الباحث القرآني
﴿ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ٢٤﴾ - تفسير
٤٧٦٣١- قال يحيى بن سلّام: قوله: ﴿اذهب إلى فرعون إنه طغى﴾، يعني: إنه كَفَر= (ز)
٤٧٦٣٢- وقال السدي: إنه عَصى الله. [قال يحيى بن سلّام:] وهو واحد[[تفسير يحيى بن سلّام ١/٢٥٧.]]. (ز)
٤٧٦٣٣- قال مقاتل بن سليمان: ﴿اذهب إلى فرعون إنه طغى﴾، يقول: إنه عَصى، فادعوه إلى عبادتي، واعلم أنِّي قد ربطتُ على قلبه؛ فلم يؤمن. فأتاه ملَكٌ خازِنٌ مِن خُزّان الريح، فقال له: انطلِق لِما أُمِرْتَ[[تفسير مقاتل بن سليمان ٣/٢٥.]]. (ز)
﴿ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ٢٤﴾ - آثار في قصة الآيات
٤٧٦٣٤- عن وهْب بن مُنَبِّه -من طريق عبد الصمد بن معقل- قال: لَمّا رأى موسى النارَ انطلق يسير، حتى وقف منها قريبًا، فإذا هو بنار عظيمة، تَفُور مِن ورق شجرة خضراء شديدة الخضرة يُقال لها: العُلِّيق، لا تزداد النارُ فيما يَرى إلا عِظَمًا وتَضَرُّمًا، ولا تزداد الشجرة على شِدَّة الحريق إلا خُضْرَةً وحُسْنًا، فوقف ينظر لا يدري على ما يضع أمرها، إلا أنّه قد ظن أنّها شجرة تحترق وأوقد إليها مَوْقِدُ، فَنالَها، فاحترقت، وأنّه إنما يمنع النار شدة خضرتها، وكثرة مائها، وكثافة ورَقها، وعِظَم جِذعها، فوضع أمرها على هذا، فوقف وهو يطمع أن يَسْقُط منها شيءٌ فيَقْتَبِسه، فلمّا طال عليه ذلك أهوى إليها بِضِغْثٍ في يده، وهو يريد أن يقتبس مِن لَهَبِها، فلمّا فعل ذلك موسى مالَتْ نحوه كأنها تُريده، فاستأخر عنها وهاب، ثم عاد فطاف بها، فلم تزل تُطْمِعُه ويَطْمَعُ بها، ثم لم يكن شيءٌ بأوْشَكَ مِن خُمودها، فاشْتَدَّ عند ذلك عجبه، وفكَّر موسى في أمرها، فقال: هي نارٌ مُمْتَنِعَةٌ لا يُقْتَبَس منها، ولكنها تَتَضَرَّم في جوف شجرة فلا تحرقها. ثم خمودها على قِدَر عظمها في أوْشَكَ مِن طَرْفَة عين، فلمّا رأى ذلك موسى قال: إنّ لِهذه شأنًا. ثم وضع أمرها على أنها مأمورة أو مصنوعة، لا يدري مَن أمرها ولا بما أُمِرَت ولا مَن صنعها، ولا لِمَ صُنعت، فوقف مُتَحَيِّرًا لا يدري أيرجع أم يقيم؟ فبينا هو على ذلك إذ رمى بطرفه نحو فرعها، فإذا هو أشدُّ مما كان خضرة، وإذا الخضرة ساطعة في السماء، يَنظُرُ إليها تَغشى الظَلامَ، ثم لم تزل الخضرة تُنَوِّرُ وتَصْفَرُّ وتَبْيَضُّ حتى صارت نورًا ساطعًا عمودًا بين السماء والأرض، عليه مثل شعاع الشمس، تَكَلُّ دونه الأبصار، كلمّا نظر إليه يكاد يخطف بصره، فعند ذلك اشتدَّ خوفه وحزنه، فردَّ يده على عينيه، ولصق بالأرض، وسمع الحس والوجس، إلا أنه سمع حينئذ شيئًا لم يسمع السامعون بمثله عظمًا، فلمّا بلغ موسى الكرب واشتد عليه الهولُ نُودِي من الشجرة، فقيل: يا موسى. فأجاب سريعًا وما يدري مَن دعاه، وما كان سرعةُ إجابته إلا استئناسًا بالإنس، فقال: لبيك -مرارًا- إني لأسمع صوتك، وأُحِسُّ حسك، ولا أرى مكانك، فأين أنت؟ قال: أنا فوقك ومعك وخلفك، وأقربُ إليك من نفسك. فلما سمع هذا موسى علِم أنّه لا ينبغي هذا إلا لربه، فأيقن به، فقال: كذلك أنت، يا إلهي، فكلامَك أسمعُ أم رسولَك؟ قال: بل أنا الذي أُكَلِّمك، فادْنُ مِنِّي. فجمع موسى يديه في العصا، ثم تحامل حتى اسْتَقَلَّ قائمًا، فرعدتْ فَرائِصُه حتى اختلفت، واضطربت رجلاه، وانقطع لسانه، وانكسر قلبه، ولم يبق منه عَظْمٌ يحمل آخَرَ، فهو بمنزلة الميِّت، إلا أن روح الحياة تجري فيه، ثم زحف على ذلك وهو مرعوب، حتى وقف قريبًا مِن الشجرة التي نُودِي منها، فقال له الرب -تبارك وتعالى-: ما تلك بيمينك، يا موسى؟ قال: هي عصاي. قال: وما تصنع بها؟ -ولا أحد أعلم منه بذلك- قال موسى: أتوكأ عليها، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى قد علمتَها. وكان لموسى في العصا مآرب، كان لها شعبتان، ومِحْجَنٌ تحت الشعبتين، فإذا طال الغصنُ حَناه بالمحْجَنِ، وإذا أراد كسره لواه بالشعبتين، وكان يتوكَّأُ عليها، ويَهُشُّ بها، وكان إذا شاء ألقاها على عاتقه، فعلق بها قوسه وكِنانَته ومِرْجامه ومِخْلاتَه وثوبه وزادًا إن كان معه، وكان إذا أرْتع في البَرِّيِّة حيث لا ظل له رَكَزَها، ثم عرض بالوتد بين شعبتيها، وألقى فوقها كساءه، فاستظل بها ما كان مرتعًا، وكان إذا ورد ماءً يقصر عنه رِشاؤُه وصل بها، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه. قال له الرب: ألْقِها، يا موسى. فظنَّ موسى أنه يقول: ارفضها. فألقاها على وجه الرفض، ثم حانت منه نظرة، فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، يُرى، يلتمس كأنه يبتغي شيئًا يريد أخذه، يمرُّ بالصخرة مثل الخَلِفَةِ من الإبل فيلتقمها، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيَجْتَثُّها، عيناه توقدان نارًا، وقد عاد المحجن عرفًا فيه شعر مثل النيازك، وعاد الشعبتان فهما مثل القَلِيب[[القَلِيب: البِئْر التي لم تُطْوَ. النهاية (قلب).]] الواسع فيه أضراس وأنياب لها صريف، فلما عاين ذلك موسى ولّى مُدْبِرًا ولم يعقب، فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحيَّة، ثم ذكر ربَّه فوقف استحياء منه، ثم نودي: يا موسى، إلَيَّ ارجع حيث كنت. فرجع وهو شديد الخوف، فقال: خذها بيمينك، ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى. قال: وكان على موسى حينئذ مِدْرَعَة مِن صوف، قد خلها بخلال من عيدان، فلما أمره بأخذها أدْنى طرف المِدْرَعة على يده، فقال له ملَك: أرأيت -يا موسى- لو أذن الله بما تُحاذِر أكانت المدرعة تُغني عنك شيئًا؟ قال: لا، ولكني ضعيف، ومِن ضَعْفٍ خُلِقْتُ. فكشف عن يده، ثم وضعها على فم الحيَّة، حتى سمع حِسَّ الأضراس والأنياب، ثم قبض، فإذا هي عصاه التي عهدها، وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين. قال له ربه: ادْنُ. فلم يزل يُدْنِيه حتى أسنَدَ ظهرَه بجذع الشجرة، فاسْتَقَرَّ، وذهبت عنه الرّعْدَة، وجمع يديه في العصا، وخضع برأسه وعنقه، ثم قال له: إنِّي قد أقمتُك اليوم في مقام لا ينبغي لبشر بعدك أن يقوم مقامك؛ أدنيتك وقرَّبْتُك حتى سمعت كلامي، وكنتَ بأقرب الأمكنة مِنِّي، فانطلق برسالتي، فإنّك بعيني وسمعي، وإن معك يدي وبصري، وإنِّي قد ألْبَسْتُكَ جُبَّة من سلطاني؛ تستكمل بها القُوَّة في أمري، فأنت جندٌ عظيم من جنودي، بعثتك إلى خلق ضعيف مِن خلقي، بَطِرَ نعمتي، وأمِنَ مكْري، وغرَّته الدنيا حتى جحد حقي، وأنكر ربوبيتي، وعَبَدَ مَن دوني، وزعم أنه لا يعرفني، وإنِّي لَأُقْسِم بعِزَّتي: لولا العُذْر والحُجَّة التي وضعتُ بيني وبين خلقي لَبَطَشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض والجبال والبحار، فإن أمرت السماء حَصَبَته، وإن أمرتُ الأرضَ ابتَلَعَتْه، وإن أمرتُ البحار غَرَّقَتْهُ، وإن أمرت الجبال دمَّرته، ولكنه هان عَلَيَّ، وسقط من عيني، وسِعَهُ حلمي، واستغنيت بما عندي، وحق لي أني أنا الغني لا غَنِيَّ غيري، فبلِّغه رسالتي، وادعُه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاص اسمي، وذكِّره بأيامي، وحذِّره نقمتي وبأسي، وأخبِره أنّه لا يقوم شيءٌ لغضبي، وقل له فيما بين ذلك قولًا لَيِّنًا، لعله يتذكر أو يخشى، وأخبره أنِّي أنا العَفُوُّ، والمغفرة أسرعُ مِنِّي إلى الغضب والعقوبة، ولا يروعنك ما ألبستُه من لباس الدنيا؛ فإنّ ناصيته بيدي، ليس يَطْرِفُ ولا ينطق ولا يتنفس إلا بإذني، وقل له: أجِب ربك؛ فإنّه واسع المغفرة، فإنه قد أمهلك أربعمائة سنة، في كلها أنت مُبارِزُه بالمحاربة، تَتَشَبَّه وتَتَمَثَّل به، وتصدُّ عبادَه عن سبيله، وهو يُمْطِر عليك السماء، ويُنبِت لك الأرض، لم تسقم، ولم تهرم، ولم تفتقر، ولم تُغْلَب، ولو شاء أن يجعل لك ذلك أو يَسْلُبَكَهُ فعل، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم، وجاهِده بنفسك وأخيك وأنتما محتسبان بجهاده، فإنِّي لو شئت أن آتيه بجنود لا قِبَل له بها فعلتُ، ولكن لِيعلم هذا العبدُ الضعيفُ الذي قد أعْجَبَتْهُ نفسه وجموعُه أنّ الفئة القليلة -ولا قليل مِنِّي- تغلب الفئة الكبيرة بإذني، ولا يُعْجِبَنَّكما زِينته، ولا ما مُتِّع به، ولا تَمُدّا إلى ذلك أعينكما؛ فإنها زهرة الحياة الدنيا، وزينة المترفين، وإنِّي لو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أنّ مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلتُ، ولكني أرغب بكما عن ذلك، وأزْوِيه عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي، وقديمًا ما خرتُ لهم عن ذلك، فإنِّي لَأذُودُهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيقُ غنمَه عن مواقع الهَلَكَة، وإنِّي لَأُجَنِّبهم سلوها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبلَه عن مَبارِكِ العُرَّة[[العُرَّة: هي القَذَر. النهاية (عرر).]]، وما ذاك لهوانهم عَلَيَّ، ولكن ليستكملوا نصيبهم مِن كرامتي سالمًا مُوَفَّرًا لم تَكْلَمُه الدنيا، ولم يُطْغِه الهوى، واعلم أنه لم يتزين إلَيَّ العبادُ بزينةٍ هي أبلغُ فيما عندي مِن الزهد في الدنيا؛ فإنّه زينة المتقين، عليهم منه لباسٌ يعرفون به من السكينة والخشوع، سيماهم في وجوههم مِن أثر السجود، أولئك هم أوليائي حقًّا، فإذا لَقِيتَهم فاخفض لهم جناحك، وذلِّل لهم قلبك ولسانك، واعلم أنه مَن أهان لي ولِيًّا أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة وبادَأَنِي، وعرض لي نفسه ودعاني إليها، وأنا أسرع شيء إلى نُصرة أوليائي، فيظن الذي يحاربني أن يقوم لي؟! أو يظن الذي يحادني أو يعاديني أن يعجزني؟! أو يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني؟! وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة، لا أكِلُ نصرتهم إلى غيري؟! قال: فأقبل موسى إلى فرعون في مدينةٍ قد جعل حولها الأُسْدَ في غَيْضَةٍ[[الغَيْضَة: مَغِيضُ ماءٍ يَجْتَمِعُ فيَنبت فيه الشجر. اللسان (غيض).]] قد غرسها، والأُسد فيها مع ساسَتِها، إذا أرسلها على أحدٍ أكلتْه، وللمدينة أربعة أبواب في الغَيْضَة، فأقبل موسى من الطريق الأعظم الذي يراه فرعون، فلما رأته الأُسْدُ صاحت صياح الثعالب، فأنكر ذلك السّاسَة، وفرقوا من فرعون، فأقبل موسى حتى انتهى إلى الباب الذي فيه فرعون، فقرعه بعصاه، وعليه جُبَّةٌ مِن صوف وسراويل، فلمّا رآه البوّاب عجب مِن جراءته، فتَرَكه، ولم يأذن له، فقال: هل تدري بابَ مَن أنت تضرب؟! إنّما أنت تضرب بابَ سيِّدك. قال: أنت وأنا وفرعون عبيدٌ لربي، فأنا ناصِره. فأخبرَ البواب الذي يليه مِن البوابين، حتى بلغ ذلك أدناهم، ودونه سبعون حاجبًا، كل حاجب منهم تحت يده مِن الجنود ما شاء الله، حتى خلص الخبر إلى فرعون، فقال: أدخلوه عَلَيَّ. فأُدْخِل، فلمّا أتاه قال له فرعون: أعرفُك؟ قال: نعم. قال: ألم نُرَبِّك فينا وليدًا؟ قال: فردَّ إليه موسى الذي ردَّ، قال فرعون: خذوه. فبادَرَ موسى فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، فحملت على الناس، فانهزموا منها، فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا، قَتَل بعضهم بعضًا، وقام فرعون مُنْهَزِمًا حتى دخل البيت، فقال لموسى: اجعل بيننا وبينك أجلًا ننظر فيه. قال: موسى: لم أُومَر بذلك، إنّما أُمِرْتُ بمُناجَزَتِك، وإن أنت لم تخرج إلَيَّ دَخَلْتُ عليك. فأوحى الله إلى موسى: أن اجعل بينك وبينه أجلًا، وقل له: أن يجعله هو. قال فرعون: اجعله إلى أربعين يومًا. ففعل. قال: وكان فرعونُ لا يأتي خلاء إلا في كل أربعين يومًا مرة، فاختلفَ ذلك اليوم أربعين مرة. قال: وخرج موسى مِن المدينة، فلمّا مر بالأُسْد خضعت له بأذنابها، وسارت مع موسى تشِّيعه ولا تَهِيجه، ولا أحدًا من بني إسرائيل[[أخرجه أحمد في الزهد ص٦١-٦٦، وابن أبي حاتم ٩/٢٨٤٣، ٢٨٤٤، ٢٨٤٧-٢٨٤٩، ٢٨٥٢. وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.]]. (١٠/١٦٣-١٧٠)
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.