الباحث القرآني
﴿لَّقَدۡ كَانَ فِی یُوسُفَ وَإِخۡوَتِهِۦۤ ءَایَـٰتࣱ لِّلسَّاۤىِٕلِینَ ٧﴾ - تفسير
٣٦٧٦٦- عن الضَّحّاك بن مُزاحِم، في قوله: ﴿لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين﴾، قال: مَن كان سائلًا عن يوسف وإخوته، فهذا نبؤهم[[عزاه السيوطي إلى أبي الشيخ.]]. (٨/١٨٦)
٣٦٧٦٧- عن الحسن البصري -من طريق عثمان بن سعد- في قوله: ﴿لقد كان في يوسف وإخوته آيات﴾، قال: عِبْرَة[[أخرجه ابن أبي حاتم ٧/٢١٠٤، وفيه: عِبَر.]]. (٨/١٨٥)
٣٦٧٦٨- عن قتادة بن دعامة -من طريق سعيد بن أبي عروبة- في قوله: ﴿لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين﴾، يقول: مَن سأل عن ذلك فهو هكذا؛ ما قصَّ الله عليكم، وأنبأكم به[[أخرجه ابن أبي حاتم ٧/٢١٠٤.]]. (٨/١٨٥)
٣٦٧٦٩- قال مقاتل بن سليمان: ﴿لقد كان في يوسف وإخوته آيات﴾ يعني: علامات ﴿للسائلين﴾، وذلك أنّ اليهود لَمّا سمِعُوا ذكر يوسف ﵇ مِن النبي ﷺ؛ منهم: كعب بن الأشرف، وحُيَيّ وجُدَيّ ابنا أخطب، والنُّعْمان بن أوْفى، وعمرو، وبَحِيرا، وغزال بن السَّمَوْأَل، ومالك بن الضَّيْف، فلم يُؤْمِن بالنبيِّ ﷺ منهم غيرُ جبرٍ غلامِ ابنِ الحَضْرَمِيِّ، ويسارٍ أبو فُكَيْهة، وعدّاس، فكان ما سمِعوا من النبي ﷺ مِن ذكر يوسف وأمره ﴿آيات للسائلين﴾، وذلك أنّ اليهود سألوا النبيَّ ﷺ عن أمر يوسف، فكان ما سَمِعوا علامةً لهم، وهُمُ السّائِلون عن أمر يوسف ﵇، وكان يوسفُ قد فضل في زمانه بحُسْنِه على الناس كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب[[تفسير مقاتل بن سليمان ٢/٣١٩.]]. (ز)
٣٦٧٧٠- عن محمد بن إسحاق -من طريق سلمة- قال: إنّما قَصَّ اللهُ على محمد ﷺ خبر يوسف، وبَغْيَ إخوتِه عليه، وحَسَدَهُم إيّاه حين ذكَر رُؤْياه؛ لَمّا رأى رسولُ الله ﷺ مِن بَغْيِ قومه عليه، وحَسَدِهم إيّاه حين أكرَمه الله بِنُبُوَّته؛ لِيَتَأَسّى به[[أخرجه ابن جرير ١٣/١٧.]]. (٨/١٨٦)
﴿لَّقَدۡ كَانَ فِی یُوسُفَ وَإِخۡوَتِهِۦۤ ءَایَـٰتࣱ لِّلسَّاۤىِٕلِینَ ٧﴾ - سياق قصة يوسف بتمامها
٣٦٧٧١- عن إسماعيل السدي -من طريق أسباط- قال: كان يعقوبُ نازلًا بالشام، وكان ليس له هَمٌّ إلا يوسف وأخوه بنيامين، فحَسَدَه إخوتُه مِمّا رأَوْا مِن حُبِّ أبيه له، ورأى يوسفُ في النوم رُؤْيا أنّ ﴿أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر﴾ ساجدين له، فحدَّث أباه بها، فقال له يعقوب: ﴿يا بنُى لا تَقصُص رءياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا﴾. فبلغ إخوةَ يوسف الرُّؤْيا، فحسدوه، فقالوا: ﴿ليوسف وأخوه﴾ بنيامين ﴿أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة﴾ كانوا عشرة، ﴿إن أبانا لفي ضلال مبين﴾. قالوا: في ضلالٍ مِن أمرِنا. ﴿اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا يخلُ لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قومًا صالحين﴾. يقول: تتوبون مِمّا صنعتم. ﴿قال قائل منهم﴾ وهو يهوذا: ﴿لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين﴾. فلمّا أجمعوا أمرَهم على ذلك أتَوْا أباهم، فقالوا: ﴿يا أبانا ما لك لا تَأمَنّا على يوسف﴾. قال: لن أُرْسِلَه معكم إني ﴿أخاف أن يأكُلَه الذئب وأنتم عنه غافلون*قالوا لئن أكله الذئب ونحن عُصْبَةٌ إنا إذا لخاسرون﴾. فأَرسَلَه معهم، فأخرَجوه وبه عليه كرامة، فلمّا بَرَزوا به إلى البَرِّيَّةِ أظهَروا له العداوة، فجعَل يضرِبُه أحدُهم، فيستغيث بالآخَر فيضربه، فجعل لا يرى منهم رحيمًا، فضربوه حتى كادوا يقتُلونه، فجعل يصيح ويقول: يا أبتاه، يا يعقوب، لو تعلم ما صنَع بابنك بنو الإماء. فلما كادوا يقتلونه قال يهوذا: أليس قد أعْطَيْتُمُوني مَوْثِقًا ألّا تقتلوه؟! فانطَلَقُوا به إلى الجُبِّ لِيَطرَحوه فيه، فجعلوا يُدْلُونه في البئر، فيَتَعَلَّق بشَفِير البئر، فربطوا يديه، ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، رُدُّوا عليَّ قميصي أتَوارى به في الجُبِّ. فقالوا له: ادْعُ الأحدَ عشرَ كوكبًا والشمس والقمر يُؤْنِسوك. قال: فإنِّي لم أرَ شيئًا. فدَلَّوْهُ في البئر، حتى إذا بلغ نصفها ألْقَوْه إرادةَ أن يموت، فكان في البئر ماءٌ، فسَقَط فيه، فلم يَضُرَّه، ثم أوى إلى صخرةٍ في البئر، فقام عليها، فجعل يبكى، فناداه إخوتُه، فظَنَّ أنّها رِقَّةٌ أدركتْهم، فأجابهم، فأرادوا أن يَرْضَخوه بصخرةٍ فيقتلوه، فقام يهوذا فمنعهم، وقال: قد أعْطيتُموني مَوثِقًا ألّا تقتلوه. فكان يهوذا يأتيه بالطعام. ثم إنّهم رجعوا إلى أبيهم، فأخذوا جَدْيًا مِن الغنم، فذبحوه، ونضَحوا دمَه على القميص، ثم أقْبَلوا إلى أبيهم عشًاء يبكون، فلمّا سمع أصواتهم فزِعَ، وقال: يا بَنِيَّ، ما لكم؟ هل أصابكم في غنمِكم شيء؟ قالوا: لا. قال: فما فعل يوسف؟ ﴿قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نَسْتَبِقُ وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمنِ لنا﴾ يعني: بمُصَدِّق لنا ﴿ولو كنا صادقين﴾. فبكى الشيخ، وصاح بأعلى صوته، ثم قال: أين القميص؟ ثم جاءوا بقميصه وعليه دَمٌ كَذِب، فأخذ القميصَ، وطرَحه على وجهه، ثم بكى حتى خُضِّبَ وجهُه مِن دمِ القميص، ثم قال: إنّ هذا الذِّئْب يا بَنِيَّ لَرحيم، فكيف أكل لحمه ولم يُخَرِّق قميصه؟! ﴿وجاءت سيارة فأرسلوا وارِدَهُم فأدلى دلوه﴾، فتعلَّق يوسف بالحبل، فخرج، فلمّا رآه صاحبُ الدَّلْوِ دعا رجلًا مِن أصحابه يُقال له: بُشْرى، فقال: ‹يا بُشْرايَ هَذا غُلامٌ›. فسَمِع به إخوةُ يوسف، فجاءوا، فقالوا: هذا عبدٌ لنا آبِقٌ، ورَطَنوا[[رَطَنوا: تكلّموا بلُغَتِهم. اللسان (رطن).]] له بلسانهم، فقالوا: لَئِن أنكرت أنّك عبدٌ لنا لَنَقْتُلنَّكَ، أتُرانا نَرْجِعُ بك إلى يعقوب وقد أخبَرناه أنّ الذئب قد أكلك؟! قال: يا إخوتاه، ارجِعوا بي إلى أبي يعقوب، فأنا أضمن لكم رضاه، ولا أذكر لكم هذا أبدًا. فأَبَوْا، فقال الغلام: أنا عبدٌ لهم. فلمّا اشتراه الرجلان فَرِقا مِن الرُّفْقةِ أن يقولا: اشترَيْناه. فيسألونهما الشرَّكِةَ فيه، فقالا: نقول إن سألونا: ما هذا؟ نقول: هذا بضاعةٌ استَبْضَعْناها أهلَ البئر. فذلك قوله: ﴿وأَسَرُّوهُ بِضاعَة﴾، ﴿وشَروه بثمن بخس دراهم معدودة﴾ كانت عشرين درهمًا، وكانوا في يوسف من الزاهدين. فانطلقوا به إلى مصر، فاشتراه العزيز مَلِك مصر، فانطلق به إلى بيته، فقال لامرأته: ﴿أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا﴾. فأَحَبَّتْهُ امرأتُه، فقالت له: يا يوسف، ما أحْسَنَ شَعرَك! قال: هو أول ما يتناثر مِن جسدي. قالت: يا يوسف، ما أحسن عينيك! قال: هما أول ما يسيلان إلى الأرض مِن جسدي. قالت: يا يوسف، ما أحسن وجهَك! قال: هو للتراب يأكله. قالت: ﴿هيت لك﴾: هلم لك -وهي بالقِبْطِيَّة-. ﴿قال معاذ الله إنه ربى﴾ قال: سيدي ﴿أحسن مثواى﴾؛ فلا أخونه في أهله. فلم تزل به حتى أطْمَعَها، فهمَّت به وهَمَّ بها، فدخلا البيت، ﴿وغلقت الأبواب﴾، فذهب لِيَحُلَّ سراويلَه، فإذا هو بصورة يعقوب قائمًا في البيت قد عَضَّ على أصبُعه، يقول: يا يوسف، لا تُواقِعْها، فإنّما مَثَلُك مَثَلُ الطَّيْر في جَوِّ السماء لا يُطاق، ومَثَلُك إذا وقَعْتَ عليها مَثَلُه إذا مات فوقع على الأرض؛ لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ومَثَلُك ما لم تُواقِعْها مَثَلُ الثَّوْر الصَّعْب الذي لم يُعمَل عليه، ومَثَلُك إذا واقَعْتَها مَثَلُه إذا مات فدخل النملُ في أصل قَرْنَيْه، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه. فربط سراويله، وذهب ليخرج، فأَدْرَكَتْه، فأخذت بمُؤَخَّر قميصه مِن خلفه، فخرقته حتى أخرجته منه، وسَقَط، وطرحه يوسف، واشْتَدَّ نحوَ الباب، وألفيا سيدها جالسًا عند الباب هو وابنُ عمِّ المرأة، فلمّا رأته قالت: ﴿ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا إلا أن يسجن أو عذاب أليم﴾، إنّه راودني عن نفسي، فدفعته عَنِّي، فشَقَقْتُ قميصَه. فقال يوسف: لا، بل هي راودتني عن نفسي، فأَبَيْتُ وفَرَرْتُ منها، فأَدْرَكَتْنِي، فأَخَذَتْ بقميصي، فشَقَّتْهُ عَلَيَّ. فقال ابنُ عمِّها: في القميص تبيان الأمر؛ انظروا إن كان القميصُ قُدَّ مِن قبُل فصَدَقت وهو من الكاذبين، وإن كان قُدَّ من دُبُرٍ فكذبت وهو من الصادقين. فلما أُتِي بالقميص وجَده قد قُدَّ مِن دُبُر، فقال: ﴿إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم*يوسف أعرض عن هذا واستغفرى لذنبك﴾. يقول: لا تعودي لذنبك. ﴿وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبًا﴾. والشَّغاف: جِلْدَةٌ على القلب، يُقال لها: لِسان القلب. يقول: دَخَلَ الحُبُّ الجِلْدَ حتى أصاب القلب. ﴿فلما سمعت بمكرهن﴾ يقول: بِقَوْلِهِنَّ ﴿أرسلت إليهن وأَعتَدَت لهن متكئًا﴾ يَتَّكِئْن عليه، ﴿وآتت كل واحدة منهن سكينًا﴾ وأُتْرُجًّا[[الأُتْرُجّ: شجر يعلو، ناعم الأغصان والورق والثمر، وثمره كالليمون الكبار، وهو ذهبي اللون، ذكي الرائحة، حامض الماء، وهو كثير ببلاد العرب، ولا يكون برِّيًّا. الوسيط (أترجّ).]] يَأْكُلْنَه، وقالت ليوسف: ﴿اخرج عليهن﴾. فلمّا خرج ورأى النسوةُ يوسفَ أعْظَمْنَه، وجعلن يَحزُزْن أيديَهن وهُم يحسبن أنّهُنَّ يُقَطِّعن الأُتْرُجَّ، ويقلن: ﴿حاش لله ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم﴾. قالت: ﴿فذلكن الذى لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم﴾ بعدما كان حَلَّ سراويله، ثم لا أدري ما بدا له. قال يوسف: ﴿رب السجن أحب إلى مما يدعوننى إليه﴾. يقول: الحبسُ أحَبُّ إلَيَّ مِمّا يدعونني إليه مِن الزِّنا. ثُمَّ إنّ المرأة قالت لزوجها: إنّ هذا العبد العبرانيَّ قد فَضَحَنِي في الناس، إنّه يعتذر إليهم ويُخبِرُهم أنِّي راودته عن نفِسه، ولستُ أُطيق أن أعتذر بعذري، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر كما يعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني. فذلك قوله: ﴿ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات﴾ وهو شَقُّ القميص، وقطع الأيدي ﴿ليسجننه حتى حين﴾. ﴿ودخل معه السجن فتيان﴾، غَضِب الملِكُ على خبّازِه؛ بلغه أنّه يريد أن يَسُمَّه، فحبسه، وحبس الساقي، وظَنَّ أنّه مالأه على السُّمِّ، فلمّا دخل يوسفُ السجنَ قال: إنِّي أُعَبِّر الأحلام. فقال أحد الفَتَيَيْن لصاحبه: هَلُمَّ، فلْنُجرِّب قولَ هذا العبد العبراني. فتراءيا مِن غير أن يكونا رأيا شيئًا، ولكنهما خَرَصا، فعبَّر لهما يوسفُ خَرْصَهما، فقال الساقي: رأيتُني أعصِر خمرًا. وقال الخبّاز: رأيتني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير منه. قال يوسف: ﴿لا يأتيكما طعام تُرْزَقانِهِ﴾ في النوم ﴿إلا نبأتكما بتأويله﴾ في اليَقَظَة. ثم قال: ﴿يا صاحبى السجن أما أحَدُكُما فيسقى ربه خمرًا﴾؛ فيُعادُ على مكانه، ﴿وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه﴾. ففزِعا، وقالا: واللهِ، ما رأينا شيئًا. قال يوسف: ﴿قضى الأمر الذى فيه تستفتيان﴾، إنّ هذا كائِنٌ لا بُدَّ منه. وقال يوسف ﵇ للساقي: ﴿اذكرنى عند ربك﴾. ثم إنّ الله أرى الملكَ رؤيا في منامه هالَتْهُ، فرأى سبع بقرات سِمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر يأكلهن سبعٌ يابسات، فجمع السَّحَرَة والكهنة والعافة -وهم القافَة[[القافة: جمع قائف، وهو الذى يعرف الأنساب والآثار بفراسته. التاج (قيف).]]- والحازَة -وهم الذين يزجُرون الطير-، فقصَّها عليهم، فقالوا: ﴿أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين﴾. ﴿وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون﴾. قال ابن عباس: لم يكن السجنُ في المدينة، فانطلق الساقي إلى يوسف، فقال: ﴿أفتنا في سبع بقرات﴾ إلى قوله: ﴿لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون﴾ تأويلها. قال: ﴿تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله﴾. قال: هو أبقى له، ﴿إلا قليلًا مما تأكلون*ثم يأتى من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلًا مما تحصنون﴾ قال: مِمّا ترفعون، ﴿ثم يأتى من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس وفيه يعصرون﴾ قال: العِنَب. فلمّا أتى المَلِكَ الرسولُ وأخبره قال: ﴿ائتونى به فلما جاءه الرسول﴾ فأمره أن يخرج إلى المَلِك أبى يوسف، وقال: ﴿ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتى قطعن أيديَهُن﴾. قال السدي: قال ابن عباس: لو خرج يوسفُ يومئذ قبل أن يعلم المَلِك بشأنه ما زالت في نفس العزيز منه حاجة؛ يقول: هذا الذي راود امرأته. قال الملك: ائتوني بِهِنَّ. قال: ﴿ما خطبُكُنَّ إذ راوَدتُّنَّ يوسف عن نفسه قلن: حاش لله ما علمنا عليه من سوء﴾، ولكن امرأة العزيز أخْبَرَتْنا أنّها راودته عن نفسه، ودخل معها البيت، وحلَّ سراويله، ثُمَّ شَدَّه بعد ذلك، ولا تدري ما بدا له. فقالت امرأة العزيز: ﴿الآن حصحص الحق﴾ قال: تَبَيَّنَ، ﴿أنا راودته عن نفسه﴾. قال يوسف وقد جيء به: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ﴾ العزيزُ ﴿أنى لم أخنه بالغيب﴾ في أهله، ﴿وأن الله لا يهدى كيد الخائنين﴾. فقالت امرأة العزيز: يا يوسف، ولا حين حللتَ السراويل؟! قال يوسف: ﴿وما أُبَرِئُ نفسى﴾. فلمّا وجد الملِك له عُذرًا قال: ﴿ائتونى به أستخلصه لنفسى﴾. فاستعمله على مصر، فكان صاحبَ أمرها؛ هو الذى يلي البيع والأمر، فأصاب الأرضَ الجوعُ، وأصاب بلادَ يعقوب التي كان فيها، فبعث بنيه إلى مصر، وأمسك بنيامين أخا يوسف، فلمّا دخلوا على يوسف ﴿فَعَرَفَهُم وهم له منكرون﴾. فلمّا نظر إليهم أخذهم، وأدخلهم الدار، وأدخل المَكُّوك[[المَكُّوك: اسم للمكيال، ويختلف مقداره باختلاف اصطلاح الناس عليه في البلاد. النهاية (مكك).]]، وقال لهم: أخبروني، ما أمرُكم، فإني أُنكِرُ شأنَكم؟ قالوا: نحن مِن أرض الشام. قال: فما جاء بكم؟ قالوا: نَمْتارُ طعامًا. قال: كذبتم، أنتم عيون، كم أنتم؟ قالوا: نحن عشرة. قال: أنتم عشرة آلاف؛ كل رجل منكم أميرُ ألف، فأخبروني خبركم. قالوا: إنّا أخوة، بنو رجل صدِّيقٍ، وإنّا كنا اثني عشر، فكان يحب أخًا لنا، وإنّه ذهب معنا إلى البَرِّيَّة فهلك مِنّا فيها، وكان أحبَّنا إلى أبينا. قال: فإلى مَن يسكن أبوكم بعده؟ قالوا: إلى أخٍ له أصغر منه. قال: كيف تحدثوني أنّ أباكم صِدِّيق وهو يُحِبُّ الصغير منكم دون الكبير؟ ائتونى بأخيكم هذا حتى أنظر إليه، ﴿فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندى ولا تقربون﴾. قالوا: ﴿سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون﴾. قال: فإني أخشى ألا تأتوني به، فضعوا بعضَكم رهينةً حتى ترجعوا. فارْتَهَن شمعون عنده، فقال لفتيته وهو يكيل لهم: ﴿اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون﴾ إلَيَّ. فلمّا رجع القوم إلى أبيهم كلَّموه فقالوا: يا أبانا، إنّ ملِك مصر أكرَمنا كرامة، لو كان رجلًا مِنّا مِن بني يعقوب ما أكرَمنا كرامته، وإنّه ارتهن شمعون، وقال: ائتوني بأخيكم هذا الذي عطف عليه أبوكم بعد أخيكم الذي هلك حتى أنظر إليه، فإن لم تأتوني به فلا تقربوا بلادي أبدًا. فقال لهم يعقوب: إذا أتيتم ملِك مصر فأقرِئوه مِنِّي السلام، وقولوا: إن أبانا يصلِّى عليك ويدعو لك بما أوليتنا. ﴿ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم رُدَّت إليهم﴾، أتَوا أباهم ﴿قالوا يا أبانا ما نبغى هذه بضاعتنا ردت إلينا﴾. فقال أبوهم حين رأى ذلك: ﴿لن أُرسِلَهُ معكم حتى تُؤْتُونِ مَوثِقًا من الله لَتَأْتُنَّنِى به إلا أن يحاط بكم﴾. فحلفوا له، ﴿فلما آتوه مَوْثِقَهُم﴾ قال يعقوب: ﴿الله على ما نقول وكيل﴾. ورَهِب عليهم أن تُصِيبَهم العين إن دخلوا مصر فيُقال: هؤلاء لرجل واحد. قال: ﴿يا بنى لا تدخلوا من باب واحد﴾. يقول: مِن طريق واحد. فلمّا دخلوا على يوسف عرف أخاه، فأنزلهم منزلًا، وأجرى عليهم الطعام والشراب، فلما كان الليل أتاهم بمُثُلٍ[[المُثُل: جمع مِثال، وهو الفراش. اللسان (مثل).]]، قال: لِيَنَم كلُّ أخوين منكم على مِثال. حتى بقي الغلامُ وحده، فقال يوسف: هذا ينام معي على فراشي. فبات مع يوسف، فجعل يَشُمُّ ريحَه، ويَضُمُّه إليه حتى أصبح، وجعل يقول روبيل: ما رأينا رجلًا مثل هذا إن نحن نجونا منه. ﴿فلما جَهَّزَهُم بِجَهازِهِم جعل السقاية في رحل أخيه﴾، والأخ لا يشعر، فلمّا ارتحلوا ﴿أذن مؤذن﴾ قبل أن يرتحل العير: ﴿أيتها العير إنكم لسارقون﴾. فانقطعت ظهورهم، ﴿وأقبلوا عليهم﴾ يقولون: ﴿ماذا تفقدون﴾ إلى قوله: ﴿قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين*قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه﴾ يقول: تأخذونه فهو لكم. ﴿فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه﴾، فلمّا بَقِي رَحْلُ الغلام قال: ما كان هذا الغلامُ لِيَأْخُذَها. قالوا: واللهِ، لا يُتْرَكُ حتى تنظر في رحله، ونذهب وقد طابت نفسُك. فأدخل يدُه في رحله، فاستخرَجها مِن رحل أخيه. يقول الله: ﴿كذلك كدنا ليوسف﴾ يقول: صنعنا ليوسف، ﴿ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك﴾ يقول: في حُكْم الملك ﴿إلا أن يشاء الله﴾، ولكن صنعنا لشأنِهم؛ قالوا: ﴿فهو جزاؤه﴾. قال: فلمّا استخرجها مِن رحل الغلام انقطعت ظهورهم، وهلكوا، وقالوا: ما يزال لنا منكم بلاءٌ يا بني راحيل، متى أخَذْتَ هذا الصُّواع؟! قال بنيامين: بل بنو راحيل الذين لا يزال لهم منكم بلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البَرِّيَّة، وما وضع هذا الصواع في رحلي إلا الذى وضع الدراهم في رِحالكم. قالوا: لا تَذْكُرِ الدراهم فنُؤْخَذ بها. فوقعوا فيه، وشتموه، فلمّا أدخلوهم على يوسف دعا بالصُّواع، ثُمَّ نَقَرَ فيه، ثُمَّ أدناه مِن أُذُنِه، ثُمَّ قال: إنّ صُواعي هذا لَيُخبِرني أنّكم كنتم اثني عشر أخًا، وأنّكم انطلقتم بأخٍ لكم فبعتموه. فلمّا سمعها بنيامين قام فسجد ليوسف، وقال: أيها الملك، سل صواعك هذا، أحَيٌّ أخي ذاك أم لا؟ فنقرها يوسف، ثم قال: نعم هو حيٌّ، وسوف تراه. قال: اصنع بي ما شئت، فإنّه إن عَلِم بي استنقذني. فدخل يوسف، فبكى، ثم توضأ، ثم خرج. فقال بنيامين: أيها الملِك، إني أراك تضرب بصواعك فيُخبِرُكَ بالحق، فسله مَن صاحبه؟ فنقر فيه، ثم قال: إنّ صواعي هذا غضبان، يقول: كيف تسألني مَن صاحبي وقد رأيتَ مَعَ مَن كنت؟ وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يُطاقُوا، فغَضِب روبيل، فقام، فقال: أيُّها الملك، واللهِ، لَتَتْرُكَنّا أو لَأَصِيحَنَّ صيحةً لا تَبْقى امرأةٌ حامِلٌ بمصر إلا طَرَحَتْ ما في بطنها. وقامت كلُّ شعرة مِن جسد روبيل، فخرجت من ثيابه، فقال يوسف لابنه: مُرَّ إلى جنب روبيل، فمَسَّهُ. وكان بنو يعقوب إذا غضِب أحدُهم فمَسَّه الآخَرُ ذَهَب غضبُه، فمَرَّ الغلام إلى جانبه، فمَسَّه، فذهب غضبُه، فقال روبيل: من هذا؟! إنَّ في هذه البِلاد لَبَزْرًا[[البَزْر: الأولاد. اللسان (بزر).]] مِن بَزْر يعقوب. قال يوسف: ومَن يعقوب؟ فغضب روبيل، فقال: أيُّها الملِك، لا تَذْكُرَنَّ يعقوب، فإنّه سَرِيُّ[[قال الشيخ شاكر في تحقيقه ١٦/٢٠١: «في التاريخ ١/٣٢٠: إسرائيل الله، وكأنّ الذي في التفسير هو الصواب، لأنّ»إيل«بمعنى: الله، و»إسرا«يضاف إليه، وكأن»إسرا«بمعنى: سرى، وهو بمعنى: المختار، كأنه: صفي الله الذي اصطفاه. وفي تفسير ذلك اختلاف كثير».]] الله، ابن ذبيح الله، ابن خليل الله. فقال يوسف: أنت إذن إن كنت صادقًا، فإذا أتيتم أباكم فاقرءوا عليه مِنِّي السلام، وقولوا له: إنّ مَلِك مصر يدعو لك ألّا تموت حتى ترى ابنك يوسف؛ حتى يعلم أبوكم أنّ في الأرض صِدِّيقين مثله. فلمّا أيِسُوا منه، وأخرَج لهم شمعون وقد كان ارْتَهَنَه؛ خلوا بينهم ﴿نجيًا﴾ يتناجون بينهم، قال كبيرهم -وهو روبيل، ولم يكن بأكبرهم سِنًّا، ولكن كان كبيرهم في العلم-: ﴿ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقًا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبى أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين﴾. فأقام روبيل بمصر، وأقبل التسعة إلى يعقوب، فأخبروه الخبر، فبكى، وقال: يا بَنِيَّ، ما تذهبون مِن مَرَّةِ إلا نقصتم واحدًا؟! ذهبتم فنقصتم يوسف، ثم ذهبتم الثانية فنقصتم شمعون، ثم ذهبتم الثالثة فنقصتم بنيامين وروبيل، ﴿فصبر جميل عسى الله أن يأتينى بهم جميعًا إنه هو العليم الحكيم*وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم﴾ من الغيظ، ﴿قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف﴾ قال: لا تزال تذكر يوسف ﴿حتى تكون حرضًا﴾: باليًا، ﴿أو تكون مِن الهالكين﴾: المَيِّتين. ﴿قال إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون﴾. قال: أتى جبريلُ يوسفَ وهو في السجن، فسَلَّم عليه، وجاءه في صورة رجل حسن الوجه، طيب الريح، نَقِيَّ الثياب، فقال له يوسف: أيها الملك الحسن الوجه، الكريم على ربه، الطيب ريحه، حدِّثني كيف يعقوب؟ قال: حَزِن عليك حُزنًا شديدًا. قال: فما بلغ مِن حُزْنِه؟ قال: حُزْنُ سبعين مُثْكَلَةً. قال: فما بلغ مِن أجره؟ قال: أجر سبعين شهيدًا. قال يوسف: فإلى مَن أوى بعدي؟ قال: إلى أخيك بنيامين. قال: فتُراني ألقاه؟ قال: نعم. فبكى يوسف لَمّا لقي أبوه بعده، ثم قال: ما أُبالي بما لقيت إنِ اللهُ أرانِيهِ. قال: فلمّا أخبروه بدعاء المَلِك أحَسَّت نفسُ يعقوب، وقال: ما يكون في الأرض صِدِّيقٌ إلا ابني. فطمِع، وقال: لعله يوسف. ثم قال: ﴿يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه﴾ بمصر، ﴿ولا تيأسوا من روح الله﴾. قال: مِن فرج الله أن يَرُدَّ يوسف. فلما رجعوا إليه قالوا: ﴿يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مُزجاة فأوف لنا الكيل﴾ بها كما كنت تعطينا بالدراهم الجيِّدة، ﴿وتصدق علينا﴾ بفضل ما بين الجياد والرَّديئة. قال لهم يوسف -ورَحِمَهم عند ذلك-: ﴿هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا: أءِنك لأنت يوسف قال: أنا يوسف وهذا أخى قد مَنَّ الله علينا﴾. فاعتذروا إليه، وقالوا: ﴿تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين﴾. قال: ﴿لا تثريب عليكم اليوم﴾: لا أذكر لكم ذنبكم، ﴿يغفر الله لكم﴾. ثم قال: ما فعل أبي بعدي؟ قالوا: عَمِي مِن الحُزن. فقال: ﴿اذهبوا بقميصى هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرًا وأتونى بأهلكم أجمعين﴾. فقال يهوذا: أنا ذهبتُ بالقميص إلى يعقوب وهو مُتَلَطِّخ بالدماء، وقلت: إنّ يوسف قد أكله الذئب، وأنا اليوم أذهب بالقميص وأُخْبِرُه أنّ يوسف حيٌّ، فأُفْرِحه كما أحزنته. فهو كان البشير. ﴿ولما فصلت العير﴾ من مصر مُنطَلِقَةً إلى الشام؛ وجد يعقوب ريح يوسف، فقال لبني بنيه: ﴿إنى لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون﴾. قال له بنو بنيه: ﴿تالله إنك لفي ضلالك القديم﴾ مِن شأن يوسف. ﴿فلما أن جاء البشير﴾ وهو يهوذا؛ ألقى القميص على وجهه ﴿فارتد بصيرًا﴾. قال يعقوب لبنيه: ﴿ألم أقل لكم إنى أعلم من الله ما لا تعلمون﴾؟!. ثُمَّ حملوا أهلهم وعيالهم، فلمّا بلغوا مصر كلَّم يوسفُ المَلِك الذي فوقه، فخرج معه هو والمَلِك يَتَلَقَّوْنَهم، فلمّا لقيهم قال: ﴿ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين﴾. فلمّا دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه؛ أباه وخالته، ورفعهما ﴿على العرش﴾ قال: السرير. فلما حضر يعقوب الموت أوصى إلى يوسف أن يدفنه عند إبراهيم وإسحاق، فمات، فنفخ فيه المُرَّ[[المرّ: دواء كالصبر؛ سُمِّي به لمرارته. النهاية (مرر).]]، ثم حمله إلى الشام، وقال يوسف ﵇: ﴿رب قد آتيتنى من الملك﴾ إلى قوله: ﴿توفنى مسلمًا وألحقنى بالصالحين﴾. قال ابن عباس: هذا أول نبيٍّ سأل الله الموت[[أخرجه ابن جرير مفرقًا في السورة ١٣/١٤، ١٨-٢٠، ٢٩، ٣٤، ٣٦، ٤٣، ٤٧، ٥٧، ٦٤، ٦٥، ٧٠، ٧٢، ٧٨-٨١، ١٠٢، ١٠٣، ١١٩، ١٢٩، ١٣١، ١٣٣، ١٤٢، ١٤٤، ١٤٩، ١٥٠، ١٥٢، ١٥٣، ١٥٩، ١٧٨، ١٨٣، ١٨٧، ١٨٨، ١٩٢، ١٩٤، ١٩٩، ٢٠٥، ٢٠٦، ٢١٤، ٢١٦، ٢٢١، ٢٢٣، ٢٢٤، ٢٢٨، ٢٢٩، ٢٤١، ٢٤٧، ٢٥٨، ٢٦٠، ٢٦٣، ٢٦٥، ٢٧٧، ٠٧٨، ٢٨٠، ٢٨٢، ٢٨٤، ٢٩٨، ٣٠٥، ٣١٢، ٣١٤، ٣٢٤، ٣٢٧، ٣٢٩، ٣٣١، ٣٣٢، ٣٤٢، ٣٤٥، ٣٥٠، ٣٥٢، ٣٥٣، ٣٦٥، ٣٦٩، وابن أبي حاتم مفرقًا في السورة ٧/٢١٠٢- ٢٢٠٥. وسيأتي كذلك حسب آياتها.]]. (٨/١٨٦-٢٠٠)
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.