قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾، إلى قوله ﴿(كُنتُمْ) بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾.
أي: يبعثون يوم يقوم.
ويجوز [أن يكون] بدلاً من ﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ على الموضع.
وقال الفراء: هو مبني على الفتح، ولا يحسن عند البصريين بناؤه مع إضافته إلى معرب، إنما يجوز بناؤه إذا أضيف إلى مبني. والمعنى: يوم يقوم الناس على أقدامهم لرب العالمين.
روي أن الناس يقومون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق، فيقومون مقدار أربعين عاماً.
وقيل: مقدار ثلاثمائة عام.
وروى ابن عمر [عن النبي ﷺ أَنَّهُ قال: "يَقْدُمُ أَحَدُكُمْ فِي رَشْحِهِ إلى أنْصَافِ أُذُنَيْهِ". وروى أبو هريرة] أن النبي ﷺ قال لبشير الغفاري: "كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ فِي يَوْمٍ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِ العَالَمِينَ مِقْدَارَ ثَلاَثَمائة سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا لاَ يَأْتِيهِمْ خَبَرٌ مِنَ السَّمَاءِ وَلاَ يَأْمُرُ فِيهِمْ بِأَمْرٍ؟ فَقَالَ بَشِيرٌ: اللهُ المُسْتَعَانُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ لَهُ النبي ﷺ: إِذَا أَوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ، فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ كَرْبِ (يَوْمِ) القِيَامَةِ وَسُوءِ الحِسَابِ
وعن ابن عمر أنه قال: "يقومون مائة سنة
وقال ابن مسعود: يمكثون أربعين عاماً رافعي رؤوسهم إلى السماء، لا يكلمهم أحد، قد ألجم العرق كل بر وفاجر. قال: [فينادي] مناد: أليس عدلاً من ربكم أنه خلقكم ثم صوركم (ثم رزقكم) ثم توليتم غيره أن يولي كل عبد منكم ما تولى في الدنيا؟! فيقولون: بلى"، ثم ذكر الحديث.
وقال كعب: يقومون قدر ثلاثمائة سنة.
وروى عقبة بن عامر عن النبي ﷺ قال: "تَدْنُو الشَّمْسُ يَومَ القيامةِ من الأَرضِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْرَقُ إلى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرَقُ إلى رُكْبَتَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَعْرَقُ إلى عَجْزِهِ، وَمنهم مَنْ يَعْرَقُ إلى خَاصِرَتِهِ، وَمِنْهم مَنْ يَعْرَقُ إلى مَنْكِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرَقُ إلى عُنُقِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرَقُ إلى نِصْفِ فَمِهِ مُلْحمَاً بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ [يَشْمَلُهُ] العَرَقُ. قال عمير [بن] هانئ: يحشر الناس يوم القيامة على أرض قد مدها [الله] تبارك وتعالى مد الأديم العُكَاظِي، فهم من ضيق مقامهم فيها كضيق سهام اجتمعت في كنانتها. قال: فالسعيد يومئذ من وجد لقدمه مقاماً. قال: وأكثر الأقدام يومئذ بعضها على بعض. قال: فهم فيها مجتمعون ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي. فبينما هم كذلك، إذ سمعوا زفرة من زفير جهنم، فلا يبقى ملك مقرب، ولا نبيٌ مرسل إلا خَرَّ لركبتيه، حتى إنَّ إبراهيم ﷺ ليقول: (نفسي)، (رب) نفسي، لا أسألك غيرها. فلا يبقى عند تلك الزفرة دمعة إلا جرت، ثم يسمعون زفرة أخرى فلا يبقى دم في عين إلا جرى، ثم يسمعون زفرة أخرى فلا يبقى قيح إلا سال يتبع بعضه بعضاً، ويمد بعضه بعضاً حتى يسيل إلى واد يقال (له سائل، فيفرغ في جهنم، فذلك قوله): ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ [المعارج: ١].
* * *
- ثم قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾.
من جعل ﴿كَلاَّ﴾ وقفا، كان تقديره: ليس الأمر كما يظن هؤلاء الكفار أنهم غير مبعوثين، إن كتابهم الذي كتبت فيه أعمالهم في الدنيا لفي سجين.
ومن لم يره وقفا، جعل ﴿كَلاَّ﴾ بمعنى "أَلاَ"، افتتاح كلام.
و ﴿سِجِّينٍ﴾: الأرض السفلى، فيه أعمال الكفار وأرواحهم.
وروي أن إبليس موثق بالحديد والسلاسل في الأرض السفلى. (وسأل ابن عباس كعباً عن ﴿سِجِّينٍ﴾، فقال : هي الأرض السابعة السفلى)، فيها أرواح الكفار تحت خد إبليس.
وروي أنه قال (له): إن أرواح الكفار يُصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ثم يُهبط بها إلى الأرض، فتأبى الأرض أن تقبلها، فيُهبط، فتدخل تحت سبع أرضين حتى يُنتهى بها إلى سجين، وهو خد إبليس، فيخرج [لها] من سجين من تحت خد إبليس [رق] فترقم وتختم وتوضع تحت خد إبليس.
وقال ابن جبير: ﴿لَفِي سِجِّينٍ﴾: "تحت خد إبليس".
وقال ابن أبي نجيح: ﴿سِجِّينٍ﴾ صخرة تحت الأرض السابعة، تقلب [فتجعل] تحتها.
وقال ابن عباس: "أعمالهم في كتاب في الأرض السفلى".
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: "الْفَلَقُ جُبٌّ في جَهَنَّمَ مُغَطَّى. وأما ﴿سِجِّينٍ﴾، فمفتوح". يعني أنه جب مفتوح.
وقيل: ﴿سِجِّينٍ﴾ من السِّجِلِّ، والنون مبدلة من اللام.
وقال أبو عبيد: ﴿لَفِي سِجِّينٍ﴾: لفي حبس. وهو فِعِّيلٌ من السجن.
وقيل: ﴿سِجِّينٍ﴾: هي الصخرة التي تحت الأرض السفلى وهو صفة، وليس باسم الصخرة، ولو كان اسماً لها لم تنصرف.
وروى البراء بن عازب أن النبي ﷺ قال: "إِنَّ العَبْدَ (الكَافِرَ - أَوْ) الفاجِرَ - إِذَا مَاتَ صَعِدُوا بِروحِهِ إلى السماءِ، فَيَقُولُ اللهُ - جَلَّ ذِكْرُهُ -: اكْتُبُوا كِتَابَه في سَجِّينٍ. وَهِيَ الأَرْضُ السُّفْلَى
وعن كعب (أيضاً) أنه قال: في التوراة أن سجينا شجرة سوداء تحت الأرضين السبع، مكتوب فيها اسم كل شيطان، تُلْقَى أنفس الكفار عندها.
* * *
- ثم قال تعالى: ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾.
أي: وأي شيء أدراك يا محمد ما سجين؟! على التعظيم لأمره. ثم بَيَّنَ فقال: ﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾. أي: مكتوب فيه عمل الكفار.
قال قتادة: مرقوم: مكتوب رُقِمَ لهم فيه بِشَرٍّ.
- ثم (قال تعالى: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾.
قد تقدم تفسيره في مواضع).
* * *
- ثم قال: ﴿ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ﴾.
أي: لا يؤمنون بالجزاء والبعث والنشور.
* * *
- ﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ﴾.
أي: بالبعث، ﴿إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ...﴾ أي: كل من تعدى حدود الله. ﴿أَثِيمٍ﴾ أي: مأثوم في فعله.
﴿إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا...﴾. أي: حججنا وأدلتنا.
﴿قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ...﴾. أي: قال: هذه أخبار الأولين وأحاديثهم وما كتب عنهم وَسُطِّرَ.
* * *
- ثم قال تعالى: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾.
﴿كَلاَّ﴾ عند أبي حاتم لا يوقف عليها. وهي بمعنى "أَلاَ" [و] بمعنى "حقاً".
ويوقف عليها عند غيره، على معنى: ليس الأَمْرُ على ما قال هؤلاء المكذبون بيوم الدين: إن آياتنا أساطير الأولين.
ثم ابتدأ فأخبر عَنْهُم ما نزل بهم حين كفروا بالبعث فقال: ﴿بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾، أي: (بل) ران على قلوبهم إِثْمُ ذُنُوبِهِمْ وكُفْرِهِمْ حتى غطاها، فلا يبصرون الصواب من الخطأ.
يقال: رانت الخمرُ على عقله: إذا غلبت (عليه). وغَانَتْ بمعناه.
وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "إِذَا أَذْنَبَ العَبْدُ نُكِتَ (فِي) قَلبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإن (تاب) صُقِلَ مِنْهَا، فإن عَادَ عَادَتْ حتى تَعْظُم فِي قَلْبِهِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾
وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يَعْمَى القلب فيموت.
قال مجاهد: القلب مثل الكف. فإذا أذنب انقبض - وقَبَضَ مجاهد أُصبُعاً - قال: فإذا أذنب انقبض - وقبض مجاهدٌ أصبعاً آخر - ثم كذلك حتى ينقبض كله - وقبض مجاهد أصابعه على الكف - قال: ثم يطبع عليه. فكانوا يرون أن ذلك هو الرين. قال قتادة: هو "الذنب على الذنب حتى يرين على القلب فَيَسْوَدُ".
قال ابن زيد: ﴿بَلْ رَانَ﴾، أي: غلبت على قلوبهم ذنوبُهم، فلا يَخْلُصُ إليها معها خير.
* * *
- ثم قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾.
"كلا" عند أبي حاتم بمعنى "ألا". ولا يوقف عليها.
ويوقف عليها عند غيره، على معنى: ليس الأمر كما يقول هؤلاء المكذبون بيوم الدين: إن لهم عند الله زلفة يوم القيامة لكنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، فلا يرونه ولا يرون شيئاً من كرامته.
وقول أبي حاتم أَبْيَنُ في [هذا الموضع] من "كلا"، لأن هذا التقدير ليس هو في ظاهر الكلام، ولا في الكلام ما يدل عليه. ففيه تعسف. [وَدَلَّ اللهُ المؤمنِينَ، بهذه الآية، أنهم لا يحجبون عن ربهم وعن النظر إليه.
قال مالك رحمه الله: في هذا دليل على أن ثم قوماً لا يحجبون عن الله وينظرون إليه .
وبه استدل الشافعي على النظر إلى الله عز وجل يوم القيامة. وقد قدره منكرو النظر إلى الله على معنى أنهم عن كرامة ربهم لمحجوبون.
وهذا لا يجوز عند أحد من النحويين، ولو جاز هذا لجاز: "جاءني زيد"، تريد غلام زيد أو كرامة زيد.
وفي جواز هذا نقض كلام العرب كله. ولا يجوز إخراج الكلام عن ظاهره إلا لضرورة تدعو إلى ذلك مع امتناع جوازه على ظاهره. فإذا امتنع جواز الكلام على ظاهره، جاز الإضمار الذي يسوغ معه جواز الكلام. ولا ضرورة تدعو إلى أضمارٍ هنا على مذهب أهل السنة.
قال الحسن: يكشف (الحجاب) فينظر إليه المؤمنون دون الكافرين، ثم يحجب الكافرون، وينظر إليه المؤمنون كل يوم غُدْوَةً وَعَشِيَةً.
* * *
- ثم قال تعالى: ﴿(ثُمَّ) إِنَّهُمْ لَصَالُواْ ٱلْجَحِيمِ﴾.
أي: لَوَارِدُوهُ مع [حجبهم] عن النظر إلى الله.
* * *
- ﴿ثُمَّ [يُقَالُ] هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾.
أي: يقال لهم: هذا العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا.
{"ayahs_start":6,"ayahs":["یَوۡمَ یَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","كَلَّاۤ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلۡفُجَّارِ لَفِی سِجِّینࣲ","وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا سِجِّینࣱ","كِتَـٰبࣱ مَّرۡقُومࣱ","وَیۡلࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُكَذِّبِینَ","ٱلَّذِینَ یُكَذِّبُونَ بِیَوۡمِ ٱلدِّینِ","وَمَا یُكَذِّبُ بِهِۦۤ إِلَّا كُلُّ مُعۡتَدٍ أَثِیمٍ","إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَیۡهِ ءَایَـٰتُنَا قَالَ أَسَـٰطِیرُ ٱلۡأَوَّلِینَ","كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا۟ یَكۡسِبُونَ","كَلَّاۤ إِنَّهُمۡ عَن رَّبِّهِمۡ یَوۡمَىِٕذࣲ لَّمَحۡجُوبُونَ","ثُمَّ إِنَّهُمۡ لَصَالُوا۟ ٱلۡجَحِیمِ","ثُمَّ یُقَالُ هَـٰذَا ٱلَّذِی كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ"],"ayah":"یَوۡمَ یَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"}