الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[ ٣ - ٨ ] ﴿وقالَ الإنْسانُ ما لَها﴾ ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أخْبارَها﴾ [الزلزلة: ٤] ﴿بِأنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها﴾ [الزلزلة: ٥] (p-٦٢٣٣)﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أشْتاتًا لِيُرَوْا أعْمالَهُمْ﴾ [الزلزلة: ٦] ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧] ﴿ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٨]
﴿وقالَ الإنْسانُ ما لَها﴾ أيْ: قالَ مَن يَكُونُ مِنَ الإنْسانِ شاهِدًا لِهَذا الزِّلْزالِ الَّذِي فاجَأهُ ودَهَشَهُ ولَمْ يَعْهَدْ مِثْلَهُ: ما لِهَذِهِ الأرْضِ رَجَّتِ الرَّجَّةَ الهائِلَةَ، وبُعْثِرَ ما فِيها مِنَ الأثْقالِ المَدْفُونَةِ؟!
﴿يَوْمَئِذٍ﴾ [الزلزلة: ٤] بَدَلٌ مِن (إذا)، أيْ: في ذَلِكَ الوَقْتِ ﴿تُحَدِّثُ أخْبارَها﴾ [الزلزلة: ٤] أيْ: تَبِينُ الأرْضُ بِلِسانِ حالِها، ما لِأجْلِهِ زِلْزالُها وإخْراجُ أثْقالِها. فَتَدُلُّ دَلالَةً ظاهِرَةً عَلى ذَلِكَ، وهو الإيذانُ بِفَناءِ النَّشْأةِ الأُولى وظُهُورِ نَشْأةٍ أُخْرى. فالتَّحْدِيثُ اسْتِعارَةٌ أوْ مَجازٌ مُرْسَلٌ مُطْلَقُ الدَّلالَةِ.
قالَ أبُو مُسْلِمٍ: أيْ: يَوْمَئِذٍ يَتَبَيَّنُ لِكُلِّ أحَدٍ جَزاءُ عَمَلِهِ، فَكَأنَّها حَدَّثَتْ بِذَلِكَ كَقَوْلِكَ: (الدّارُ تُحَدِّثُنا بِأنَّها كانَتْ مَسْكُونَةً)، فَكَذا انْتِقاضُ الأرْضِ بِسَبَبِ الزَّلْزَلَةِ تُحَدِّثُ أنَّ الدُّنْيا قَدِ انْقَضَتْ، وأنَّ الآخِرَةَ قَدْ أقْبَلَتْ.
﴿بِأنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها﴾ [الزلزلة: ٥] الباءُ سَبَبِيَّةٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُحَدِّثُ" أيْ: تُحَدِّثُ بِسَبَبِ إيحاءِ رَبِّكَ لَها، وأمْرِهِ إيّاها بِالتَّحْدِيثِ. والإيحاءُ اسْتِعارَةٌ أوْ مَجازٌ مُرْسَلٌ لِإرادَةِ لازِمِهِ، وهو إحْداثُ ما تَدُلُّ بِهِ عَلى خَرابِها.
وقالَ القاشانِيُّ: أيْ: أشارَ إلَيْها وأمَرَها بِالِاضْطِرابِ والخَرابِ وإخْراجِ الأثْقالِ، يَعْنِي الأمْرَ التَّكْوِينِيَّ، وهو تَعَلُّقُ القُدْرَةِ الإلَهِيَّةِ بِما هو أثَرٌ لَها.
﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أشْتاتًا﴾ [الزلزلة: ٦] أيْ: يَنْصَرِفُونَ عَنْ مَراقِدِهِمْ إلى مَوْطِنِ حِسابِهِمْ وجَزائِهِمْ، مُتَفَرِّقِينَ سُعَداءَ وأشْقِياءَ ﴿لِيُرَوْا أعْمالَهُمْ﴾ [الزلزلة: ٦] أيْ: لِيُرِيَهُمُ اللَّهُ جَزاءَ أعْمالِهِمْ.
﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧] أيْ: فَمَن عَمِلَ في الدُّنْيا وزْنَ ذَرَّةٍ مِن خَيْرٍ يُرى ثَوابَهُ هُنالِكَ. والذَّرَّةُ النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ وهي مَثَلٌ في الصِّغَرِ. وقِيلَ: الذَّرُّ هو الهَباءُ الَّذِي يُرى في ضَوْءِ الشَّمْسِ إذا دَخَلَتْ مِن نافِذَةٍ.
﴿ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٨] أيْ: ومَن كانَ عَمِلَ في الدُّنْيا وزْنَ ذَرَّةٍ مِن شَرٍّ، يُرى جَزاءَهُ ثَمَّةَ.
(p-٦٢٣٤)تَنْبِيهاتٌ:
الأوَّلُ: دَلَّ لَفْظُ "مَن" عَلى شُمُولِ الجَزاءِ بِقِسْمَيْهِ لِلْمُؤْمِنِ وغَيْرِهِ.
قالَ الإمامُ: أيْ: ومَن يَعْمَلْ مِنَ الخَيْرِ أدْنى عَمَلٍ وأصْغَرَهُ، فَإنَّهُ يَراهُ ويَجِدُ جَزاءَهُ، لا فَرْقَ في ذَلِكَ بَيْنَ المُؤْمِنِ والكافِرِ. غايَةُ الأمْرِ أنَّ حَسَناتِ الكُفّارِ الجاحِدِينَ لا تَصِلُ بِهِمْ إلى أنْ تُخَلِّصَهم مِن عَذابِ الكُفْرِ، فَهم بِهِ خالِدُونَ في الشَّقاءِ. والآياتُ الَّتِي تَنْطِقُ بِحُبُوطِ أعْمالِ الكُفّارِ، وأنَّها لا تَنْفَعُهُمْ، مَعْناها هو ما ذَكَرْنا، أيْ: أنَّ عَمَلًا مِن أعْمالِهِمْ لا يُنْجِيهِمْ مِن عَذابِ الكُفْرِ، وإنْ خَفَّفَ عَنْهم بَعْضَ العَذابِ الَّذِي كانَ يَرْتَقِبُهُمْ، عَلى بَقِيَّةِ السَّيِّئاتِ الأُخْرى، أمّا عَذابُ الكُفْرِ نَفْسِهِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهم مِنهُ شَيْءٌ، كَيْفَ لا، واللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ يَقُولُ: ﴿ونَضَعُ المَوازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وإنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ أتَيْنا بِها وكَفى بِنا حاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٧]
فَقَوْلُهُ: ﴿فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ [الأنبياء: ٤٧] أصْرَحُ قَوْلٍ في أنَّ الكافِرَ والمُؤْمِنَ في ذَلِكَ سَواءٌ، وإنَّ كُلًّا يُوَفّى يَوْمَ القِيامَةِ جَزاءَهُ. وقَدْ ورَدَ أنَّ ««حاتِمًا يُخَفَّفُ عَنْهُ لِكَرَمِهِ»»، وأنَّ ««أبا لَهَبٍ يُخَفَّفُ عَنْهُ لِسُرُورِهِ بِوِلادَةِ النَّبِيِّ ﷺ»» وما نَقَلَهُ بَعْضُهم مِنَ الإجْماعِ عَلى أنَّ الكافِرَ لا تَنْفَعُهُ في الآخِرَةِ حَسَنَةٌ ولا يُخَفَّفُ عَنْهُ عَذابُ سَيِّئَةٍ ما، لا أصْلَ لَهُ. فَقَدْ قالَ بِما قُلْناهُ كَثِيرٌ مِن أئِمَّةِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. عَلى أنَّ كَلِمَةَ (الإجْماعِ)، كَثِيرًا ما يَتَّخِذُها الجُهَلاءُ السُّفَهاءُ آلَةً لِقَتْلِ رُوحِ الدِّينِ، وحَجَرًا يُلْقِمُونَهُ أفْواهَ المُتَكَلِّمِينَ. وهم لا يَعْرِفُونَ لِلْإجْماعِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الحُجَّةُ مَعْنًى، فَبِئْسَ ما يَصْنَعُونَ. انْتَهى.
وقَدْ سَبَقَهُ الشِّهابُ في (حَواشِيهِ) عَلى القاضِي، حَيْثُ ناقَشَ صاحِبُ (المَقاصِدِ) في دَعْواهُ الإجْماعَ عَلى إحْباطِ عَمَلِ الكَفَرَةِ. وعِبارَتُهُ: كَيْفَ يُدْعى الإجْماعُ عَلى الإحْباطِ بِالكُلِّيَّةِ، وهو مُخالِفٌ لِما صَرَّحَ بِهِ في الآيَةِ؟ والَّذِي يَلُوحُ لِلْخاطِرِ، بَعْدَ اسْتِكْشافِ سَرائِرِ الدَّفاتِرِ، أنَّ الكُفّارَ يُعَذَّبُونَ عَلى الكُفْرِ بِحَسَبِ مَراتِبِهِ. فَلَيْسَ عَذابُ أبِي طالِبٍ كَعَذابِ أبِي جَهْلٍ، ولا (p-٦٢٣٥)عَذابُ المُعَطِّلَةِ كَعَذابِ أهْلِ الكِتابِ، كَما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ والعَدْلُ الإلَهِيُّ. انْتَهى.
الثّانِي: قالَ في (الإكْلِيلِ): في هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ التَّرْغِيبُ في قَلِيلِ الخَيْرِ وكَثِيرِهِ، والتَّحْذِيرُ مِن قَلِيلِ الشَّرِّ وكَثِيرِهِ أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: هَذِهِ الآيَةُ أحْكَمُ آيَةٍ في القُرْآنِ. وفي لَفْظٍ: (أجْمَعُ).
«وسَمّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الآيَةَ «الجامِعَةَ الفاذَّةَ» حِينَ سُئِلَ عَنْ زَكاةِ الحَمِيرِ فَقالَ: «ما أنْزَلَ اللَّهُ فِيها شَيْئًا إلّا هَذِهِ الآيَةَ الجامِعَةَ الفاذَّةَ»»
﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧] ﴿ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٨] ورَوى الإمامُ أحْمَدُ «عَنْ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعاوِيَةَ عَمِّ الفَرَزْدَقِ، أنَّهُ أتى النَّبِيَّ ﷺ «فَقَرَأ عَلَيْهِ: ﴿ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٨]» إلَخْ. قالَ: حَسْبِي. لا أُبالِي أنْ لا أسْمَعَ غَيْرَها». ورَواهُ النَّسائِيُّ في تَفْسِيرِهِ.
{"ayahs_start":3,"ayahs":["وَقَالَ ٱلۡإِنسَـٰنُ مَا لَهَا","یَوۡمَىِٕذࣲ تُحَدِّثُ أَخۡبَارَهَا","بِأَنَّ رَبَّكَ أَوۡحَىٰ لَهَا","یَوۡمَىِٕذࣲ یَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتࣰا لِّیُرَوۡا۟ أَعۡمَـٰلَهُمۡ","فَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَیۡرࣰا یَرَهُۥ","وَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ شَرࣰّا یَرَهُۥ"],"ayah":"وَقَالَ ٱلۡإِنسَـٰنُ مَا لَهَا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق