الباحث القرآني

(p-٦٢٢٤)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ البَيِّنَةِ ويُقالُ سُورَةُ القَيِّمَةِ. وسُورَةُ المُنْفَكِّينَ. وسُورَةُ البَرِيَّةِ. وعَدَدُ آياتِها ثَمانٍ وهي مَدَنِيَّةٌ عَلى الأصَحِّ. رَوى الإمامُ أحْمَدُ عنُ أنَسِ بْنِ مالِكٍ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إنَّ اللَّهَ أمَرَنِي أنْ أقْرَأ عَلَيْكَ ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قالَ: وسَمّانِي لَكَ، قالَ: نَعَمْ. فَبَكى». ورَواهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ. وفِي رِوايَةِ الإمامِ أحْمَدَ عَنْ أبِي حَبَّةَ البَدْرِيِّ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا قالَ جِبْرِيلُ: يا رَسُولَ اللَّهِ! إنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أنْ تُقْرِئَها أُبَيًّا. فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأُبَيٍّ: إنَّ جِبْرِيلَ أمَرَنِي أنْ أُقْرِئَكَ هَذِهِ السُّورَةَ. قالَ أُبَيٌّ: وقَدْ ذُكِرْتُ ثَمَّ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ: فَبَكى أُبَيٌّ». (p-٦٢٢٥)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١ - ٣ ] ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ﴾ ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ [البينة: ٢] ﴿فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: ٣] ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أيْ: جَحَدُوا نُبُوَّةَ النَّبِيِّ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِعِنادِهِمْ بَعْدَ ما تَبَيَّنُوا الحَقَّ مِنها ﴿مِن أهْلِ الكِتابِ﴾ أيِ: اليَهُودِ والنَّصارى الَّذِينَ عَرَفُوهُ وسَمِعُوا أدِلَّتَهُ وشاهَدُوا آياتِهِ، لَمْ يَكُونُوا هم ﴿والمُشْرِكِينَ﴾ أيْ: وثَنِيِّ العَرَبِ ﴿مُنْفَكِّينَ﴾ أيْ: عَنْ غَفْلَتِهِمْ وجَهْلِهِمْ بِالحَقِّ، ووُقُوفِهِمْ عِنْدَما قَلَّدُوا فِيهِ آباءَهُمْ، ولا يَعْرِفُونَ مِنَ الحَقِّ شَيْئًا ﴿حَتّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ﴾ أيِ: الحُجَّةُ القاطِعَةُ المُثْبَتَةُ لِلْمُدَّعِي، وهي هُنا النَّبِيُّ ﷺ، فَمَجِيئُهُ هو الَّذِي أحْدَثَ هَذِهِ الرَّجَّةَ فِيما رَسَخَ مِن عَقائِدِهِمْ وتَمَكَّنَ مِن عَوائِدِهِمْ، حَتّى أخَذُوا يَحْتَجُّونَ لِعِنادِهِمْ ومُناكَرَتِهِمْ، بِأنَّهُ كانَ شَيْئًا مَعْرُوفًا لَهُمْ، يَصِلُونَ إلَيْهِ بِما كانَ لَدَيْهِمْ، ولَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ أنْ يُتَّبَعَ؛ فَإنَّ ما هم فِيهِ أجْمَلُ وأبْدَعُ، ومُتابَعَةُ الآباءِ فِيهِ أشْهى إلى النُّفُوسِ وأمْتَعَ. تِلْكَ البَيِّنَةُ الَّتِي تُعَرِّفُهم وجْهَ الحَقِّ هِيَ: ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ﴾ [البينة: ٢] أيْ: مُحَمَّدٌ ﷺ ﴿يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ [البينة: ٢] وهي صُحُفُ القُرْآنِ المُطَهَّرَةُ مِنَ الخَلْطِ وحَشْوِ المُدِلِّينَ، فَلِهَذا تَنْبَعِثُ مِنها أشِعَّةُ الحَقِّ حَتّى يَعْرِفَهُ طالِبُوهُ ومُنْكِرُوهُ مَعًا. ﴿فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: ٣] أيْ: مُسْتَقِيمَةٌ لا عِوَجَ فِيها. واسْتِقامَةُ الكُتُبِ اشْتِمالُها عَلى الحَقِّ الَّذِي لا يَمِيلُ إلى باطِلٍ ﴿لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِن (p-٦٢٢٦)حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٢] والكُتُبُ الَّتِي في صُحُفِ القُرْآنِ ومَصاحِفِهِ، إمّا أنْ تَكُونَ هي ما صَحَّ مِن كُتُبِ الأوَّلِينَ كَمُوسى وعِيسى وغَيْرِهِما، مِمّا حَكاهُ اللَّهُ في كِتابِهِ عَنْهُمْ، فَإنَّهُ لَمْ يَأْتِ مِنها إلّا بِما هو قَوِيٌّ سَلِيمٌ. وقَدْ تَرَكَ حِكايَةَ ما لَبَّسَ في المُلَبِّسُونَ إلّا أنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ لِبَيانِ بُطْلانِهِ؛ ولِهَذا لَمْ يَجِدِ الجاحِدُونَ لِرِسالَتِهِ -عَلَيْهِ السَّلامُ- مِن أهْلِ الكِتابِ سَبِيلًا إلى إنْكارِ الحَقِّ، وإنَّما فَضَّلُوا عَلَيْهِ سِواهُ أنَّ هي سُوَرُ القُرْآنِ، فَإنَّ كُلَّ سُورَةٍ مِن سُوَرِهِ كِتابٌ قَوِيمٌ؛ فَصَحَّفَ القُرْآنَ أوْ صَحائِفَهُ وأوْراقَ مُصْحَفِهِ تَحْتَوِي عَلى سُوَرٍ مِنَ القُرْآنِ هي كُتُبٌ قَيِّمَةٌ. ولَمّا كانَ لِسائِلٍ أنْ يَسْألَ: إذا كانَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ، وقَدِ انْفَكُّوا عَنْ ذَلِكَ الظَّلامِ المُطْبِقِ، وبَدا لَهم مِنَ الحَقِّ ما عَرَفُوهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ، فَما بالُهم لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذا الحَقِّ الَّذِي جاءَهُمْ؟ أجابَ الحَقُّ تَعالى بِأنَّ أهْلَ الكِتابِ قَدْ جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ والحُجَّةُ القاطِعَةُ عَلى الحَقِّ الَّذِي لا يَخْتَلِفُ وجْهُهُ، بِما أوْحى اللَّهُ بِهِ إلى أنْبِيائِهِمْ، وكانَ مِن حَقِّهِمْ أنْ يَسْتَرْشِدُوا بِكُتُبِهِمْ في مَعْرِفَةِ سَبِيلِهِ حَتّى لا يَنْحَرِفُوا عَنْهُ، فَإذا عَرَضَ لِأحَدِهِمْ شُبْهَةٌ رَجَعَ في كَشْفِها إلى العارِفِ بِمَعانِي الكُتُبِ، ثُمَّ كانَ عَلَيْهِمْ أنْ يَحْرِصُوا عَلى تَعَلُّمِ مَعانِيها وفَهْمِ أسالِيبِها ويُحافِظُوا عَلَيْها حَتّى لا يُضَلِّلَهم فِيها مُضَلِّلٌ، لَكِنَّ هَذِهِ البَيِّنَةَ لَمْ تُفِدْهم شَيْئًا، فَإنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في التَّأْوِيلِ وتَفَرَّقُوا في المَذاهِبِ، حَتّى صارَ أهْلُ كُلِّ مَذْهَبٍ يُبْطِلُ ما عِنْدَ أهْلِ المَذْهَبِ الآخَرِ. وكانَ ذَلِكَ بَغْيًا مِنهُمْ، واسْتِمْرَرًا في المُرادِ وإصْرارًا عَلى ما قادَ إلَيْهِ الهَوى. وهَذا هو قَوْلُهُ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب