الباحث القرآني

(p-٦٢١٨)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ القَدْرِ قالَ السُّيُوطِيُّ: فِيها قَوْلانِ، والأكْثَرُ أنَّها مَكِّيَّةٌ، وآيُها خَمْسٌ. (p-٦٢١٩)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١ - ٥ ] ﴿إنّا أنْـزَلْناهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ﴾ ﴿وما أدْراكَ ما لَيْلَةُ القَدْرِ﴾ [القدر: ٢] ﴿لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِن ألْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: ٣] ﴿تَنَـزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ مِن كُلِّ أمْرٍ﴾ [القدر: ٤] ﴿سَلامٌ هي حَتّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾ [القدر: ٥] ﴿إنّا أنْـزَلْناهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ﴾ أيْ: أنْزَلْنا القُرْآنَ عَلى قَلْبِ خاتَمِ النَّبِيِّينَ، بِمَعْنى ابْتَدَأْنا إنْزالَهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ. وقَدْ وُصِفَتْ بِالمُبارَكَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا أنْـزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إنّا كُنّا مُنْذِرِينَ﴾ [الدخان: ٣] وكانَتْ في رَمَضانَ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِلنّاسِ وبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرْقانِ﴾ [البقرة: ١٨٥] قالَ الإمامُ: سُمِّيَتْ لَيْلَةَ القَدْرِ، إمّا بِمَعْنى لَيْلَةِ التَّقْدِيرِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى ابْتَدَأ فِيها تَقْدِيرَ دِينِهِ وتَحْدِيدَ الخُطَّةِ لِنَبِيِّهِ في دَعْوَةِ النّاسِ إلى ما يُنْقِذُهم مِمّا كانُوا فِيهِ، أوْ بِمَعْنى العَظَمَةِ والشَّرَفِ، مِن قَوْلِهِمْ: (فُلانٌ لَهُ قَدْرٌ)، أيْ: لَهُ شَرَفٌ وعَظَمَةٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ قَدْ أعْلى فِيها مَنزِلَةَ نَبِيِّهِ وشَرَّفَهُ وعَظَّمَهُ بِالرِّسالَةِ، وقَدْ جاءَ بِما فِيهِ الإشارَةُ، بَلِ التَّصْرِيحُ، بِأنَّها لَيْلَةٌ جَلِيلَةٌ؛ بِجَلالَةِ ما وقَعَ فِيها مِن إنْزالِ القُرْآنِ. فَقالَ: ﴿وما أدْراكَ ما لَيْلَةُ القَدْرِ﴾ [القدر: ٢] أيْ: وما الَّذِي يُعْلِمُكَ مَبْلَغَ شَأْنِها ونَباهَةَ أمْرِها. ﴿لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِن ألْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: ٣] فَكَرَّرَ ذِكْرَها ثَلاثَ مَرّاتٍ. ثُمَّ أتى بِالِاسْتِفْهامِ الدّالِّ (p-٦٢٢٠)عَلى أنَّ شَرَفَها لَيْسَ مِمّا تَسْهُلُ إحاطَةُ العِلْمِ بِهِ، ثُمَّ قالَ: (إنَّها خَيْرٌ مِن ألْفِ شَهْرٍ) لِأنَّهُ قَدْ مَضى عَلى الأُمَمِ آلافٌ مِنَ الشُّهُورِ وهم يَخْتَبِطُونَ في ظُلُماتِ الضَّلالِ؛ فَلَيْلَةٌ يَسْطَعُ فِيها نُورُ الهُدى خَيْرٌ مِن ألْفِ شَهْرٍ مِن شُهُورِهِمُ الأُولى. ولَكَ أنْ تَقِفَ في التَّفْضِيلِ عِنْدَ النَّصِّ، وتُفَوِّضُ الأمْرَ، في تَحْدِيدِ ما فُضِّلَتْ عَلَيْهِ اللَّيْلَةُ بِألْفِ شَهْرٍ، إلى اللَّهِ تَعالى؛ فَهو الَّذِي يَعْلَمُ سَبَبَ ذَلِكَ ولَمْ يُبَيِّنْهُ لَنا، ولَكَ أنْ تُجْرِيَ الكَلامُ عَلى عادَتِهِمْ في التَّخاطُبِ. وذَلِكَ في الكِتابِ كَثِيرٌ، ومِنهُ الِاسْتِفْهامُ الواقِعُ في هَذِهِ السُّوَرِ ﴿وما أدْراكَ ما لَيْلَةُ القَدْرِ﴾ [القدر: ٢] فَإنَّهُ جارٍ عَلى عادَتِهِمْ في الخِطابِ، وإلّا فالعَلِيمُ الخَبِيرُ لا يَقَعُ مِنهُ أنْ يَسْتَفْهِمَ عَنْ شَيْءٍ. فَيَكُونُ التَّحْدِيدُ بِالألِفِ لا مَفْهُومَ لَهُ، بَلِ الغَرَضُ مِنهُ التَّكْثِيرُ، وإنَّ أقَلَّ عَدَدٍ تَفْضُلُهُ هو ألْفُ شَهْرٍ. ثُمَّ إنَّ دَرَجاتِ فَضْلِها عَلى هَذا العَدَدِ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ. فَإذا قُلْتَ: إخْفاءُ الصَّدَقَةِ خَيْرٌ مِن إظْهارِها، لَمْ تُعَيِّنْ دَرَجَةَ الأفْضَلِيَّةِ، وهي دَرَجاتٌ فَوْقَ دَرَجاتٍ وقَدْ جاءَ في الكِتابِ في واقِعَةٍ واحِدَةٍ، هي واقِعَةُ بَدْرٍ أنَّ اللَّهَ أمَدَّ المُؤْمِنِينَ بِألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ، أوْ بِثَلاثَةِ آلافٍ، أوْ بِخَمْسَةِ آلافٍ، كَما تَراهُ في الأنْفالِ وآلِ عِمْرانَ؛ فالعَدَدُ هُناكَ لا مَفْهُومَ لَهُ، كَما هو ظاهِرٌ. فَهي لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدَّهْرِ إنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لِبَيانِ بَعْضِ مَزاياها فَقالَ: ﴿تَنَـزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيها﴾ [القدر: ٤] يُخْبِرُ جَلَّ شَأْنُهُ أنَّ أوَّلَ عَهْدٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ بِشُهُودِ المَلائِكَةِ كانَ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ، تَنَزَّلَتْ مِن عالَمِها الرُّوحانِيِّ الَّذِي لا يَحُدُّهُ حَدٌّ ولا يُحِيطُ بِهِ مِقْدارٌ، حَتّى تَمَثَّلَتْ لِبَصَرِهِ ﷺ، والرُّوحُ هو الَّذِي يَتَمَثَّلُ لَهُ مُبَلِّغًا لِلْوَحْيِ، وهو الَّذِي سُمِّيَ في القُرْآنِ بِجِبْرِيلَ. وإنَّما تَظْهَرُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ ﴿بِإذْنِ رَبِّهِمْ﴾ [القدر: ٤] أيْ: إنَّما تَتَجَلّى المَلائِكَةُ عَلى النَّفْسِ الكامِلَةِ، بَعْدَ أنْ هَيَّأها اللَّهُ لِقَبُولِ تَجَلِّيها. ولَيْسَتْ تَتَجَلّى المَلائِكَةُ لِجَمِيعِ النُّفُوسِ كَما هو مَعْلُومٌ، فَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يَخْتَصُّ بِهِ مَن يَشاءُ. واخْتِصاصُهُ هو إذْنُهُ ومَشِيئَتُهُ. ثُمَّ إنَّ هَذا الإذْنَ مَبْدَؤُهُ الأوامِرُ والأحْكامُ؛ لِأنَّ اللَّهَ يُجَلِّي المَلائِكَةَ عَلى النُّفُوسِ، لِإيحاءِ ما يُرِيدُهُ مِنها. ولِهَذا قالَ: ﴿مِن كُلِّ أمْرٍ﴾ [القدر: ٤] أيْ: أنَّ اللَّهَ يُظْهِرُ المَلائِكَةَ والرُّوحَ لِرُسُلِهِ عِنْدَ كُلِّ أمْرٍ يُرِيدُ إبْلاغَهُ إلى عِبادِهِ، فَيَكُونُ الإذْنُ مُبْتَدِئًا مِنَ الأمْرِ عَلى هَذا المَعْنى. (p-٦٢٢١)والأمْرُ ها هُنا هو الأمْرُ في قَوْلِهِ: ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: ٤] ﴿أمْرًا مِن عِنْدِنا إنّا كُنّا مُرْسِلِينَ﴾ [الدخان: ٥] فالكَلامُ في الرِّسالَةِ والأوامِرِ والأحْكامِ، لا في شَيْءٍ سِواها؛ ولِهَذا قالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ (مِن) ها هُنا بِمَعْنى الباءِ، أيْ: بِكُلِّ أمْرٍ. ولا حاجَةَ إلَيْهِ لِما قُلْنا. وإنَّما عَبَّرَ بِالمُضارِعِ في قَوْلِهِ: ﴿تَنَـزَّلُ المَلائِكَةُ﴾ [القدر: ٤] وقَوْلِهِ: ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: ٤] مَعَ أنَّ المَعْنى ماضٍ، لِأنَّ الحَدِيثَ عَنْ مَبْدَأِ نُزُولِ القُرْآنِ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: لِاسْتِحْضارِ الماضِي لِعَظَمَتِهِ عَلى نَحْوِ ما في قَوْلِهِ: ﴿وزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ [البقرة: ٢١٤] فَإنَّ المُضارِعَ بَعْدَ الماضِي يَزِيدُ الأمْرَ تَصْوِيرًا. والثّانِي: لِأنَّ مَبْدَأ النُّزُولِ كانَ فِيها، ولَكِنْ بَقِيَّةَ الكِتابِ وما فِيهِ مِن تَفْصِيلِ الأوامِرِ والأحْكامِ كانَ فِيما بَعْدُ، فَكَأنَّهُ يُشِيرُ إلى أنَّ ما ابْتَدَأ فِيها يَسْتَمِرُّ في مُسْتَقْبَلِ الزَّمانِ حَتّى يُكْمِلَ الدِّينَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَلامٌ هي حَتّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾ [القدر: ٥] أيْ: أنَّها كانَتْ لَيْلَةً سالِمَةً مِن كُلِّ شَرٍّ وأذًى. والإخْبارُ عَنْها بِالسَّلامِ نَفْسِهِ -وهُوَ الأمْنُ والسَّلامَةُ- لِلْمُبالَغَةِ في أنَّهُ لَمْ يَشُبْها كَدَرٌ، بَلْ فَرَّجَ اللَّهُ فِيها عَنْ نَبِيِّهِ كُلَّ كُرْبَةٍ وفَتَحَ لَهُ فِيها سُبُلَ الهِدايَةِ، فَأنالَهُ بِذَلِكَ ما كانَ يَتَطَلَّعُ إلَيْها الأيّامَ والشُّهُورَ الطِّوالَ. تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ: قَدَّمْنا أنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ الَّتِي ابْتَدَأ فِيها نُزُولُ القُرْآنِ كانَتْ في رَمَضانَ لِآيَةِ ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ القُرْآنُ﴾ [البقرة: ١٨٥] ولا إجْماعَ في تَعْيِينِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، بَلْ في صَحِيحِ البُخارِيِّ: «أنَّها «رُفِعَتْ»» أيْ: رُفِعَ العِلْمُ بِتَعْيِينِها. وفي رِوايَةٍ فِيهِ: ««نَسِيتُها أوْ أُنْسِيتُها»»، مِن قَوْلِهِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ. ولِذا رَغَّبَ في قِيامِ رَمَضانَ كُلَّهُ رَجاءَ مُوافَقَتِها في لَيْلَةٍ مِنهُ. نَعَمِ الأقْوى رِوايَةً أنَّها في ««العَشْرِ الأخِيرِ مِن رَمَضانَ»» لِما كانَ مِنِ اهْتِمامِهِ ﷺ بِالِاعْتِكافِ فِيهِ وإحْياءِ لَيْلِهِ وإيقاظِ أهْلِهِ. وقَدْ ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ والشَّعْبِيُّ والحَسَنُ وقَتادَةُ إلى أنَّها لَيْلَةُ أرْبَعٍ وعِشْرِينَ. (p-٦٢٢٢)قالَ ابْنُ حَجَرٍ: وحُجَّتُهم حَدِيثُ واثِلَةَ: «أنَّ القُرْآنَ نَزَلَ لِأرْبَعٍ وعِشْرِينَ مِن رَمَضانَ». وقَدِ اضْطَرَبَتْ أقْوالُ السَّلَفِ فِيها –صَحابَةً ومَن بَعْدَهُمْ- حَتّى أنافَتْ عَلى أرْبَعِينَ قَوْلًا. قالَ الإمامُ: ثُمَّ الأخْبارُ الصَّحِيحَةُ مُتَضافِرَةٌ عَلى أنَّهُ في شَهْرِ رَمَضانَ، ولا نُعَيِّنُها مِن بَيْنِ لَيالِيهِ. فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيها الرِّواياتُ اخْتِلافًا عَظِيمًا، وكِتابُ اللَّهِ لَمْ يُعَيِّنْها، وما ورَدَ في الأحادِيثِ مِن ذِكْرِها، إنَّما قُصِدَ بِهِ حَثُّ المُؤْمِنِينَ عَلى إحْيائِها بِالعِبادَةِ؛ شُكْرًا لِلَّهِ تَعالى عَلى ما هَداهم بِهَذا الدِّينِ الَّذِي ابْتَدَأ اللَّهُ إفاضَتَهُ فِيهِمْ، في أثْنائِها. ولَهم أنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فِيها أفْرادًا وجَماعاتٍ، فَمَن رَجَحَ عِنْدَهُ خَبَرٌ في لَيْلَةٍ أحْياها، ومَن أرادَ أنْ يُوافِقَها عَلى التَّحْقِيقِ، فَعَلَيْهِ أنْ يَشْكُرَ اللَّهَ بِالفَراغِ إلَيْهِ بِالعِباداتِ في الشَّهْرِ كُلِّهِ. وهَذا هو السِّرُّ في عَدَمِ تَعْيِينِها. وتُشِيرُ إلَيْهِ آيَةُ البَقَرَةِ فَإنَّها تَجْعَلُ الشَّهْرَ كُلَّهُ ظَرْفًا لِنُزُولِ القُرْآنِ، لِيَذْكُرَ المُؤْمِنُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيهِ؛ فَهي لَيْلَةُ عِبادَةٍ وخُشُوعٍ، وتَذَكُّرٍ لِنِعْمَةِ الحَقِّ والدِّينِ. فَلا تَكُونُ لَيْلَةَ زَهْوٍ ولَهْوٍ تُتَّخَذُ فِيها مَساجِدُ اللَّهِ مَضامِيرَ لِلرِّياءِ، يَتَسابَقُ إلَيْها المُنافِقُونَ ويُحَدِّثُ أنْفُسَهم بِالبُعْدِ عَنْها المُخْلِصُونَ، كَما جَرى عَلَيْهِ عَمَلُ المُسْلِمِينَ في هَذِهِ الأيّامِ، فَإنَّ كُلَّ ما حَفِظُوهُ مِن لَيْلَةِ القَدْرِ هو أنْ تَكُونَ لَهم فِيها ساعَةُ سَمَرٍ يَتَحَدَّثُونَ فِيها بِما لا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِ، ويَسْمَعُونَ شَيْئًا مِن كِتابِ اللَّهِ لا يَنْظُرُونَ فِيهِ ولا يَعْتَبِرُونَ بِمَعانِيهِ، بَلْ إنْ أصْغَوْا إلَيْهِ فَإنَّما يُصْغُونَ لِنَغَمَةِ تالِيهِ، ثُمَّ يَسْمَعُونَ مِنَ الأقْوالِ ما لَمْ يَصِحَّ خَبَرُهُ، ولَمْ يُحْمَدْ في الآخِرِينَ ولا الأوَّلِينَ أثَرُهُ، ولَهم خَيالاتٌ في لَيْلَةِ القَدْرِ لا تَلِيقُ بِعُقُولِ الأطْفالِ، فَضْلًا عَنِ الرّاشِدِينَ مِنَ الرِّجالِ. انْتَهى. وقالَ الطَّبَرِيُّ: إخْفاءُ لَيْلَةِ القَدْرِ دَلِيلٌ عَلى كَذِبِ مَن زَعَمَ أنَّهُ يَظْهَرُ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِلْعُيُونِ ما لا يَظْهَرُ في سائِرِ السَّنَةِ؛ إذْ لَوْ كانَ ذَلِكَ حَقًّا، لَمْ يُخْفَ عَلى كُلِّ مَن قامَ لَيالِيَ السَّنَةِ، فَضْلًا عَنْ لَيالِي رَمَضانَ. الثّانِي: حَكى الحافِظُ ابْنُ جَحَرٍ في (فَتْحِ البارِي) قَوْلًا عَنْ بَعْضِ العُلَماءِ، أنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ خاصَّةٌ بِسَنَةٍ واحِدَةٍ وقَعَتْ في زَمانِ النَّبِيِّ ﷺ، ولَعَلَّ مُسْتَنَدَهُ ما صَحَّ أنَّها «رُفِعَتْ» وقَدْ قَدَّمْنا مَعْناهُ؛ ولِذا ذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى خِلافِهِ. وعِنْدِي أنْ لا تَنافِيَ؛ لِأنَّ المُرادَ بِالأوَّلِ هو لَيْلَةُ نُزُولِ (p-٦٢٢٣)القُرْآنِ وما كانَ فِيها مِنَ التَّجَلِّي الخاصِّ الَّتِي انْفَرَدَتْ بِهِ، وبِالثّانِي أنَّ ما يُوافِقُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِن رَمَضانَ كُلَّ عامٍ، هي لَيْلَةٌ فِيها مَزِيَّةٌ عَلى غَيْرِها، بِفَضْلٍ اخْتَصَّتْ بِهِ دُونَ غَيْرِها. وهَذا هو السِّرُّ في قِيامِ رَمَضانَ والتِماسِها في العَشْرِ الأواخِرِ مِنهُ. أعْنِي إحْياءَ ما ماثَلَها مِنَ اللَّيالِي تَبَرُّكًا وتَيَمُّنًا وشُكْرًا لِلَّهِ تَعالى عَلى تِلْكَ النِّعْمَةِ والهِدايَةِ، فالقائِمُ في لَيالِي العَشْرِ الأخِيرِ، أوْ في رَمَضانَ، مُصادِفٌ البَتَّةَ لِما ماثَلَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ؛ لِأنَّها مِنهُ قَطْعًا. وقَدْ بايَنَ الإسْلامُ في تَفْضِيلِ بَعْضِ الأوْقاتِ بِتَشْرِيعِ اتِّخاذِها مَوْسِمًا لِلْعِبادَةِ ما ابْتَدَعَهُ رُؤَساءُ الأدْيانِ الأُخَرِ في تِذْكاراتِهِمْ وجَعَلَها أعْيادًا، تُصْرَفُ ساعاتُها لِلْبِطالَةِ والزِّينَةِ واللَّهْوِ، مِمّا يُنافِي حِكْمَةَ ذِكْراها؛ فَتَأمَّلِ الفَرْقَ واحْمَدِ اللَّهَ عَلى اتِّباعِ الحَقِّ. الثّالِثُ: قالَ الإمامُ: ما يَقُولُهُ الكَثِيرُ مِنَ النّاسِ مِن أنَّ اللَّيْلَةَ المُبارَكَةَ الَّتِي يُفْرَقُ فِيها كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ هي لَيْلَةُ النِّصْفِ مِن شَعْبانَ، وأنَّ الأُمُورَ الَّتِي تُفْرَقُ فِيها هي الأرْزاقُ والأعْمارُ، وكَذَلِكَ ما يَقُولُونَهُ مِن مِثْلِ ذَلِكَ في لَيْلَةِ القَدْرِ، فَهو مِنَ الجَراءَةِ عَلى الكَلامِ في الغَيْبِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ قاطِعَةٍ، ولَيْسَ مِنَ الجائِزِ لَنا أنْ نَعْتَقِدَ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ، ما لَمْ يَرِدْ بِهِ خَبَرٌ مُتَواتِرٌ عَنِ المَعْصُومِ ﷺ، ومِثْلُ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ؛ لِاضْطِرابِ الرِّواياتِ، وضَعْفِ أغْلَبِها، وكَذِبِ الكَثِيرِ مِنها. ومِثْلُها لا يَصِحُّ الأخْذُ بِهِ في بابِ العَقائِدِ. ومِثْلُ ذَلِكَ يُقالُ في بَيْتِ العِزَّةِ، ونُزُولِ القُرْآنِ فِيهِ جُمْلَةً واحِدَةً في تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَإنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَدْخُلَ في عَقائِدِ الدِّينِ، لِعَدَمِ تَواتُرِ خَبَرِهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، ولا يَجُوزُ لَنا الأخْذُ بِالظَّنِّ في عَقِيدَةِ مِثْلِ هَذِهِ، وإلّا كُنّا مِنَ الَّذِينَ "إنْ يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ" نَعُوذُ بِاللَّهِ. وقَدْ وقَعَ المُسْلِمُونَ في هَذِهِ المُصِيبَةِ، مُصِيبَةِ الخَلْطِ بَيْنَ ما يَصِحُّ الِاعْتِقادُ بِهِ مِن غَيْبِ اللَّهِ ويُعَدُّ مِن عَقائِدِ الدِّينِ، وبَيْنَ ما يُظَنُّ بِهِ لِلْعَمَلِ عَلى فَضِيلَةٍ مِنَ الفَضائِلِ، فاحْذَرْ أنْ تَقَعَ فِيها مِثْلَهُمُ، انْتَهى كَلامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب