الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ٤ - ٨ ] ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ﴾ [التين: ٥] ﴿إلا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [التين: ٦] ﴿فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾ [التين: ٧] ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِأحْكَمِ الحاكِمِينَ﴾ [التين: ٨] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ أيْ: في أحْسَنِ تَعْدِيلٍ خَلْقًا وشَكْلًا، صُورَةً ومَعْنًى، قالَ الشِّهابُ: الظَّرْفُ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الإنْسانِ، والتَّقْوِيمُ فِعْلُ اللَّهِ، فَهو بِمَعْنى القَوّامِ أوِ المُقَوِّمِ، أوْ فِيهِ مُضافٌ مُقَدَّرٌ، أيْ: قَوامٌ أحْسَنُ تَقْوِيمٍ، أوْ "فِي" زائِدَةٌ والتَّقْدِيرُ: قَوَّمْناهُ أحْسَنَ تَقْوِيمٍ. ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ﴾ [التين: ٥] أيْ: جَعَلْناهُ أسْفَلَ مِن سُفْلٍ، وهم أصْحابُ النّارِ لِعَدَمِ جَرَيانِهِ (p-٦٢٠٢)عَلى مُوجَبِ ما خَلَقْناهُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفاتِ الَّتِي لَوْ عَمِلَ بِمُقْتَضاها لَكانَ في أعْلى عِلِّيِّينَ، فَـ: (رَدَّ) بِمَعْنى جَعَلَ الَّتِي تَنْصِبُ مَفْعُولَيْنِ. قالَ الشِّهابُ: و(السّافِلِينَ) العُصاةُ وغَيْرُهُمْ، وأسْفَلُ سافِلٍ لِلْمُتَعَدِّدِ والمُتَفاوِتِ. و"ثُمَّ" لِلتَّراخِي الزَّمانِيِّ أوْ هو رُتْبِيٌّ. وجُوِّزَ نَصْبُ "أسْفَلَ" بِنَزْعِ الخافِضِ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أيْ: إلى مَكانٍ أسْفَلَ سافِلِينَ، أيْ: مَحَلُّ النّارِ، أوِ النّارُ بِمَعْنى جَهَنَّمَ. وهَذا ما قالَهُ مُجاهِدٌ حَيْثُ قالَ: (فِي النّارِ)، وفي رِوايَةٍ: (إلى النّارِ)، والسّافِلِينَ عَلى هَذا الأمْكِنَةُ السّافِلَةُ، وهي دَرَكاتُها. وجَمْعُها لِلْعُقَلاءِ لِلْفاصِلَةِ، أوْ لِلتَّنْزِيلِ مَنزِلَةَ العُقَلاءِ. كَذا قالُوا. ولَوْ أُرِيدَ بِهِمْ أهْلُ النّارِ والدَّرَكاتِ، لِأنَّهم أسْفَلَ السُّفْلِ كالأوَّلِ، لَكانَ أوْلى. ﴿إلا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [التين: ٦] أيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ أوْ غَيْرُ مَنقُوصٍ أوْ غَيْرُ مَحْسُوبٍ أوْ غَيْرُ مَمْنُونٍ بِهِ عَلَيْهِمْ. والِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلٌ مِن ضَمِيرِ "رَدَدْناهُ" فَإنَّهُ في مَعْنى الجَمْعِ، لِأنَّ المَكْنِيَّ عَنْهُ وهو الإنْسانُ، في مَعْنى الجِنْسِ. هَذا وقَدِ اعْتَمَدَ ابْنُ جَرِيرٍ في تَأْوِيلِ الآيَةِ، ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن أنَّ المَعْنى: ثُمَّ رَدَدْناهُ عَلى أرْذَلِ العُمُرِ. وأنَّ مَن كانَ يَعْمَلُ بِطاعَةِ اللَّهِ في شَبِيبَتِهِ كُلِّها، ثُمَّ كَبُرَ حَتّى ذَهَبَ عَقْلُهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ عَمَلِهِ الصّالِحِ الَّذِي كانَ يَعْمَلُ في شَبِيبَتِهِ، ولَمْ يُؤاخَذْ بِشَيْءٍ مِمّا عَمِلَ في كِبَرِهِ وذَهابِ عَقْلِهِ، مِن أجْلِ أنَّهُ مُؤْمِنٌ وكانَ يُطِيعُ اللَّهَ في شَبِيبَتِهِ. وعِبارَةُ ابْنِ جَرِيرٍ: وأوْلى الأقْوالِ في ذَلِكَ عِنْدِي بِالصِّحَّةِ، وأشْبَهُها بِتَأْوِيلِ الآيَةِ، قَوْلُ مَن قالَ مَعْناهُ: "ثُمَّ رَدَدْناهُ" أيْ: إلى أرْذَلِ العُمُرِ إلى عُمُرِ الخَرْفى الَّذِينَ ذَهَبَتْ عُقُولُهم مِنَ الهَرَمِ والكِبَرِ، فَهو في أسْفَلَ مِن سُفْلٍ في إدْبارِ العُمُرِ، وذَهابِ العَقْلِ. ﴿إلا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [التين: ٦] في حالِ صِحَّتِهِمْ وشَبابِهِمْ، ﴿فَلَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [التين: ٦] بَعْدَ هَرَمِهِمْ، كَهَيْئَةِ ما كانَ لَهم مِن ذَلِكَ عَلى أعْمالِهِمْ، في حالِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وهم أقْوِياءُ عَلى العَمَلِ. (p-٦٢٠٣)قالَ: وإنَّما قُلْنا: هَذا القَوْلُ أوْلى بِالصَّوابِ في ذَلِكَ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى ذِكْرُهُ أخْبَرَ عَنْ خَلْقِهِ ابْنَ آدَمَ وتَصْرِيفِهِ في الأحْوالِ، احْتِجاجًا بِذَلِكَ عَلى مُنْكِرِي قُدْرَتِهِ عَلى البَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، ألا تَرى أنَّهُ يَقُولُ: ﴿فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾ [التين: ٧] يَعْنِي بَعْدَ هَذِهِ الحُجَجِ، ومُحالٌ أنْ يَحْتَجَّ عَلى قَوْمٍ كانُوا مُنْكِرِينَ مَعْنًى مِنَ المَعانِي بِما كانُوا لَهُ مُنْكِرِينَ، وإنَّما الحُجَّةُ عَلى كُلِّ قَوْمٍ بِما لا يَقْدِرُونَ عَلى دَفْعِهِ مِمّا يُعايِنُونَهُ ويُحِسُّونَهُ، أوْ يُقِرُّونَ بِهِ وإنْ لَمْ يَكُونُوا لَهُ مُحْسِّينَ. وإذْ كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وكانَ القَوْمُ لِلنّارِ الَّتِي كانَ اللَّهُ يَتَوَعَّدُهم بِها في الآخِرَةِ مُنْكِرِينَ، وكانُوا أهْلَ الهَرَمِ والخَرِفِ مِن بَعْدِ الشَّبابِ والجَلَدِ شاهِدِينَ، عَلِمَ أنَّهُ إنَّما احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِما كانُوا لَهُ مُعايِنِينَ مِن تَصْرِيفِهِ خَلْقَهُ ونَقْلَهُ إيّاهم مِن حالِ التَّقْوِيمِ الحَسَنِ، والشَّبابِ والجِلْدِ إلى الهَرَمِ والضَّعْفِ وفَناءِ العُمْرِ وحُدُوثِ الخَرِفِ. انْتَهى كَلامُهُ. وعَلَيْهِ فَيَكُونُ الِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعًا، اسْتِدْراكًا لِدَفْعِ ما يُتَوَهَّمُ مِن أنَّ التَّساوِيَ في أرْذَلِ العُمُرِ يَقْتَضِي التَّساوِيَ في غَيْرِهِ، ويَكُونُ الدِّينُ حِينَئِذٍ مُبْتَدَأً، والفاءُ داخِلَةٌ في خَبَرِهِ. وأمّا عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ، فالفاءُ لِلتَّفْرِيعِ، ومَدْخُولُها جُمْلَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهِ، ومُؤَكِّدَةٌ لَهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾ [التين: ٧] خِطابٌ لِلْإنْسانِ عَلى طَرِيقِ الِالتِفاتِ، لِتَشْدِيدِ التَّوْبِيخِ والتَّبْكِيتِ، أيْ: فَما يَحْمِلُكَ عَلى التَّكْذِيبِ بِالدِّينِ، أيِ الجَزاءُ بَعْدَ البَعْثِ، وإنْكارُهُ بَعْدَ هَذِهِ الدَّلائِلِ. والمَعْنى: أنَّ خَلْقَ الإنْسانِ مِن نُطْفَةٍ وتَقْوِيمَهُ بَشَرًا سَوِيًّا، وتَحْوِيلَهُ مِن حالٍ إلى حالٍ، كَمالًا ونُقْصانًا، مِن أوْضَحِ الدَّلائِلِ عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى البَعْثِ، والجَزاءِ فَأيُّ شَيْءٍ تَضْطَرُّكَ إلى التَّكْذِيبِ بِهِ؟ وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، ومَعْنى "يُكَذِّبُكَ" إمّا يَنْسُبُكَ إلى الكَذِبِ، (كَفَسَّقْتُهُ إذا قُلْتَ لَهُ: إنَّهُ فاسِقٌ)، والباءُ في "بِالدِّينِ" بِمَعْنى (فِي)، أيْ: يُكَذِّبُكَ في إخْبارِكَ بِهِ، أوْ سَبَبِيَّةٌ أيْ: بِسَبَبِ إخْبارِكَ بِهِ وإثْباتِهِ، أوِ المَعْنى ما يَجْعَلُكَ مُكَذِّبًا بِالدِّينِ، عَلى أنَّ الباءَ صِلَتُهُ. وهو مِن بابِ الإلْهابِ والتَّعْرِيضِ بِالمُكَذِّبِينَ، والمَعْنى: إنَّهُ لا يُكَذِّبُكَ شَيْءٌ ما بَعْدَ هَذا البَيانِ بِالدِّينِ، لا كَهَؤُلاءِ الَّذِينَ لا يُبالُونَ بِآياتِ اللَّهِ ولا يَرْفَعُونَ لَها رَأْسًا. والِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ والتَّعَجُّبِ. (p-٦٢٠٤)واسْتَصْوَبَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَوْلَ مَن قالَ: (ما) بِمَعْنى (مَن)، أيْ: فَمَن يُكَذِّبُكَ يا مُحَمَّدُ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِن هَذا البَيانِ مِنَ اللَّهِ بِالدِّينِ. قالَ الشِّهابُ: "فَما" اسْتِفْهامٌ عَمَّنْ يَعْقِلُ، وفِيهِ نَظَرٌ، لِأنَّهُ خِلافُ المَعْرُوفِ، فَلا يُرْتَكَبُ مَعَ صِحَّةِ بَقائِها عَلى أصْلِها، كَما بَيَّنّاهُ لَكَ. والدّاعِي لِارْتِكابِ هَذا أنَّ المَعْنى عَلَيْهِ أظْهَرُ إذا كانَ المُخاطَبُ النَّبِيَّ ﷺ؛ فَإنَّهُ إنْكارٌ تَوْبِيخِيٌّ لِلْمُكَذِّبِينَ لَهُ ﷺ بَعْدَ ما ظَهَرَ لَهم مِن دَلائِلِ صِدْقِهِ وصِحَّةِ مَدْعاهُ ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِأحْكَمِ الحاكِمِينَ﴾ [التين: ٨] أيْ: بِأحْكَمِ مَن حَكَمَ في أحْكامِهِ. قالَ أبُو السُّعُودِ: أيْ: ألَيْسَ الَّذِي فَعَلَ ما ذَكَرَ بِأحْكَمِ الحاكِمِينَ صُنْعًا وتَدْبِيرًا، حَتّى يُتَوَهَّمَ عَدَمُ الإعادَةِ والجَزاءِ، وحَيْثُ اسْتَحالَ عَدَمُ كَوْنِهِ أحْكَمَ الحاكِمِينَ، تَعَيَّنَ الإعادَةُ والجَزاءُ. فالجُمْلَةُ تَقْرِيرًا لِما قَبْلَها. وقِيلَ: الحُكْمُ بِمَعْنى القَضاءِ، فَهي وعِيدٌ لِلْكُفّارِ وأنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِما يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ العَذابِ. و(أحْكَمُ) مِنَ الحُكْمِ أوِ الحِكْمَةِ. قِيلَ: والثّانِي أظْهَرُ. «وكانَ النَّبِيُّ ﷺ إذا قَرَأها قالَ: «بَلى، وأنا عَلى ذَلِكَ مِنَ الشّاهِدِينَ»» أرْسَلَهُ قَتادَةُ، ورَفَعَهُ أبُو هُرَيْرَةَ إلى النَّبِيِّ ﷺ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب