الباحث القرآني

(p-٦١٨٧)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الشَّرْحِ مَكِّيَّةٌ. وقِيلَ: مَدَنِيَّةٌ، وهو الأقْوى عِنْدِي. فَإنَّ اسْتِقْرارَ هَذِهِ النِّعَمِ المَعْدُودَةِ فِيها، إنَّما كانَ بِالمَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، كَما لا يَخْفى. وآيُها ثَمانٍ. (p-٦١٨٨)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١ - ٤ ] ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ ﴿ووَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح: ٢] ﴿الَّذِي أنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ [الشرح: ٣] ﴿ورَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ٤] ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ أيْ: ألَمْ نُوَسِّعْهُ بِإلْقاءِ ما يَسُرُّهُ ويُقَوِّيهِ، وإظْهارِ ما خَفِيَ عَلَيْهِ مِنَ الحِكَمِ والأحْكامِ، وتَأْيِيدِهِ وعِصْمَتِهِ، حَتّى عَلِمَ ما لَمْ يَعْلَمْ، وصارَ مُسْتَقَرَّ الحِكْمَةِ ووِعاءَ حَقائِقِ الأنْباءِ. والهَمْزَةُ لِإنْكارِ النَّفْيِ، ونَفْيُ النَّفْيِ إثْباتٌ؛ ولِذا عَطَفَ المُثْبَتَ عَلَيْهِ. وأصْلُ الشَّرْحِ بَسْطُ اللَّحْمِ ونَحْوَهُ، مِمّا فِيهِ تَوْسِيعٌ مُسْتَلْزِمٌ لِإظْهارِ باطِنِهِ وما خَفِيَ مِنهُ. اسْتُعْمِلَ في القَلْبِ الشَّرْحُ والسِّعَةُ، لِأنَّهُ مَحَلُّ الإدْراكِ لِما يَسُرُّ وضِدِّهِ؛ فَجَعَلَ إدْراكَهُ لِما فِيهِ مَسَرَّةٌ يُزِيلُ ما يُحْزِنُهُ، شَرْحًا وتَوْسِيعًا؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ بِالإلْهامِ ونَحْوِهِ مِمّا يُنَفِّسُ كُرَبَهُ ويُزِيلُ هَمَّهُ، بِظُهُورِ ما كانَ غائِبًا عَنْهُ وخَفِيًّا عَلَيْهِ، مِمّا فِيهِ مَسَرَّتُهُ، كَما يُقالُ: (شَرَحَ الكِتابَ)، إذا وضَّحَهُ. ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في الصَّدْرِ الَّذِي هو مَحَلُّ القَلْبِ مُبالَغَةً فِيهِ؛ لِأنَّ اتِّساعَ الشَّيْءِ يَتْبَعُهُ اتِّساعُ ظَرْفِهِ؛ ولِذا تَسْمَعُ النّاسَ يُسَمُّونَ السُّرُورَ بَسْطًا، ثُمَّ سَمَّوْا ضِدَّهُ ضِيقًا وقَبْضًا، وهو مِنَ المَجازِ المُتَفَرِّعِ عَلى الكِنايَةِ بِوَسائِطَ، وبَعْدَ الشُّيُوعِ زالَ الخَفاءُ وارْتَفَعَتِ الوَسائِطُ، هَذا ما حَقَّقَهُ الشِّهابُ. ﴿ووَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح: ٢] ﴿الَّذِي أنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ [الشرح: ٣] قالَ الشِّهابُ: الوِزْرُ الحِمْلُ الثَّقِيلُ. ووَضْعُهُ: إزالَتُهُ عَنْهُ. لِأنَّهُ إذا تَعَدّى بِـ: (عَلى) كانَ بِمَعْنى التَّحْمِيلِ، وإذا تَعَدّى بِـ: (مِن) كانَ بِمَعْنى الإزالَةِ. والإنْقاضُ: حُصُولُ النَّقِيضِ وهو صَوْتُ فِقْراتِ الظَّهْرِ. وقِيلَ: صَوْتُ الجَمَلِ أوِ الرَّحْلِ (p-٦١٨٩)أوِ المَرْكُوبِ إذا ثَقُلَ عَلَيْهِ. فالإنْقاضُ التَّثْقِيلُ في الحِمْلِ حَتّى يُسْمَعَ لَهُ نَقِيضٌ، أوْ صَوْتٌ، كَما قالَهُ الأزْهَرِيُّ. وقالَ ابْنُ عَرَفَةَ: هو إثْقالٌ يَجْعَلُ ما حُمِلَ عَلَيْهِ نَقْضًا، أيْ: مَهْزُولًا ضَعِيفًا. وقَدْ مُثِّلَ بِذَلِكَ حالُهُ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِمّا كانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ ويَغُمُّهُ مِن قِلَّةِ المُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَتِهِ، وضَعْفِ مَن سَبَقَ إلى الإيمانِ بِهِ، وشُيُوعِ الشِّرْكِ والضَّلالِ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، وقُوَّةِ أهْلِها. ووَضْعُهُ عَنْهُ هو كَثْرَةُ مَن آمَنَ بَعْدُ، ودُخُولُهم في دِينِ اللَّهِ أفْواجًا، وقُوَّةُ أتْباعِهِ وانْمِحاءُ الشِّرْكِ والجاهِلِيَّةِ مِنَ الجَزِيرَةِ، وذُلُّ أهْلِها بَعْدَ العِزِّ، وانْقِيادُهم بَعْدَ شِدَّةِ الإباءِ. وقِيلَ: الآيَةُ كِنايَةٌ عَنْ عِصْمَتِهِ وتَطْهِيرِهِ مِن دَنَسِ الآثامِ كَقَوْلِهِ: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ﴾ [الفتح: ٢] والوَجْهُ الأوَّلُ أقْوى، وفي الآيَةِ -عَلى كُلٍّ- اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، والوَضْعُ تَرْشِيحٌ لَها. ﴿ورَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ٤] أيْ: بِالنُّبُوَّةِ وفَرْضِ الِاعْتِرافِ بِرِسالَتِهِ وجَعْلِهِ شَرْطًا في قَبُولِ الإيمانِ وصِحَّتِهِ. وقالَ قَتادَةُ: رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَلَيْسَ خَطِيبٌ ولا مُتَشَهِّدٌ ولا صاحِبُ صَلاةٍ إلّا يُنادِي بِها: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وعَنْ مُجاهِدٍ: أيْ: لا أُذْكَرُ إلّا ذُكِرْتَ مَعِي. قالَ الشِّهابُ وهَذا - أيِ: المَأْثُورُ عَنْ مُجاهِدٍ - إنْ أُخِذَ كُلِّيَّةً خالَفَ الواقِعَ؛ فَإنَّهُ كَمْ ذُكِرَ اللَّهُ وحْدَهُ! وكَمْ ذُكِرَ الرَّسُولُ ﷺ وحْدَهُ! وإنْ عُيِّنَ مَوْضِعًا فَهو تَرْجِيحٌ بِلا مُرَجِّحٍ، وإنْ جُعِلَتِ القَضِيَّةُ مُهْمَلَةً، فَلا يَخْفى ما في الإهْمالِ مِنَ الرَّكاكَةِ. قالَ: وقَدْ أمْعَنْتُ فِيهِ النَّظَرَ فَلَمْ أرَ ما يُثْلِجُ الصَّدْرَ، ويَرُدُّ السّائِلَ غَيْرَ صِفْرٍ، حَتّى لاحَ لِي أنَّ الجَوابَ الحَقَّ أنْ يُقالَ: الذِّكْرُ مَحْمُولٌ عَلى الذِّكْرِ في مَجامِعِ العِبادَةِ ومَشاهِدِها؛ فَإنَّ ذِكْرَهُ ﷺ مَقْرُونٌ بِذِكْرِهِ فِيها في الواقِعِ في الصَّلَواتِ والخُطَبِ، فَلا تَرى مَشْهَدًا مِن مَشاهِدِ الإسْلامِ (p-٦١٩٠)إلّا وهو كَذَلِكَ، فَلا يَنْفَكُّ ذِكْرُهُ ﷺ عَنْ ذِكْرِهِ تَعالى في يَوْمٍ مِنَ الأيّامِ، ولا لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيالِي بَلْ ولا في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ المُعْتَدِّ بِها، فَتَتَّجِهُ الكُلِّيَّةُ. فَإنْ قُلْتَ: مِن أيْنَ لَكَ هَذا التَّقْيِيدُ، فَهَلْ هو إلّا تَرْجِيحٌ مِن غَيْرِ مُرَجِّحٍ؟ قُلْتُ: المَقامُ ناطِقٌ بِهَذا القَيْدِ؛ فَإنَّ المُرادَ التَّنْوِيهُ بِذِكْرِهِ ﷺ وإشاعَةِ قَدْرِهِ الدّالِّ عَلى قُرْبِهِ ﷺ مِن رَبِّهِ، كَقُرْبِ اسْمِهِ مِنِ اسْمِهِ، وإنَّما يَكُونُ هَذا بِذِكْرِهِ في المَحافِلِ والمَشاهِدِ والجَوامِعِ والمَساجِدِ، وأيُّ إشاعَةٍ أقْوى مِنَ الأذانِ؟ لا في الأسْواقِ والطُّرُقِ الَّتِي يُطْرَحُ فِيها كُلُّ ذِكْرٍ. ثُمَّ قالَ: واعْلَمْ أنَّ تَحْقِيقَ هَذا المَقامِ ما قالَهُ الإمامُ الشّافِعِيُّ في أوَّلِ (رِسالَتِهِ الجَدِيدَةِ) وبَيَّنَهُ السُّبْكِيُّ في تَعْلِيقِهِ عَلى الرِّسالَةِ فَقالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: قالَ الإمامُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، عَنْ مُجاهِدٍ في تَفْسِيرِ الآيَةِ: لا أُذْكَرُ إلّا ذُكِرْتَ مَعِي: أشْهَدُ أنَّ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. قالَ الشّافِعِيُّ: يَعْنِي ذِكْرَهُ عِنْدَ الإيمانِ بِاللَّهِ والأذانِ، ويُحْتَمَلُ ذِكْرُهُ عِنْدَ تِلاوَةِ القُرْآنِ وعِنْدَ العَمَلِ بِالطّاعَةِ والوُقُوفِ عَنِ المَعْصِيَةِ. قالَ السُّبْكِيُّ: هَذا الِاحْتِمالُ مِنَ الشّافِعِيِّ جَيِّدٌ جِدًّا، وهو مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالذِّكْرِ، الذِّكْرُ بِالقَلْبِ، وهو صَحِيحٌ، فَعَلى هَذا يَعُمُّ؛ لِأنَّ الفاعِلَ لِلطّاعَةِ أوِ الكافَّ عَنِ المَعْصِيَةِ امْتِثالًا لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى بِهِ، ذاكِرٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ بِقَلْبِهِ؛ لِأنَّهُ المُبَلِّغُ لَها عَنِ اللَّهِ، هَذا أعَمُّ مِنَ الذِّكْرِ بِاللِّسانِ، فَإنَّهُ مَقْصُورٌ عَلى الإسْلامِ والأذانِ والتَّشَهُّدِ والخُطْبَةِ ونَحْوِها. قالَ الشّافِعِيُّ: فَلَمْ تُمْسِ بِنا نِعْمَةٌ ظَهَرَتْ ولا بَطَنَتْ، نِلْنا بِها حَظًّا في دِينٍ أوْ دُنْيا، أوْ رُفِعَ عَنّا بِها مَكْرُوهٌ فِيهِما أوْ في واحِدٍ مِنهُما، إلّا ومُحَمَّدٌ ﷺ سَبَبُها؛ فَعُلِمَ مِن هَذا أنَّهُ إنْ أبْقى العُمُومَ والحَصْرَ عَلى ظاهِرِهِ، حُمِلَ الذِّكْرُ عَلى الذِّكْرِ القَلْبِيِّ فَيَشْمَلُ كُلَّ مَوْطِنٍ مِن مَواطِنِ العِبادَةِ والطّاعَةِ، فَإنَّ العاقِلَ المُؤْمِنَ إذا ذَكَرَ اللَّهَ، تَذَكَّرَ مَن دَلَّ عَلى مَعْرِفَتِهِ وهَداهُ إلى طاعَتِهِ، وهو رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، كَما قِيلَ: ؎فَأنْتَ بابُ اللَّهِ أيُّ: امْرِئٍ أتاهُ مِن غَيْرِكَ لا يَدْخُلُ؟ (p-٦١٩١)ولَكَ أنْ تَقُولَ: المُرادُ بِرَفْعِ ذِكْرِهِ تَشْرِيفُهُ ﷺ بِمُقارَنَتِهِ لِذِكْرِهِ في شَعائِرِ الدِّينِ الظّاهِرَةِ، وأوَّلُها كَلِمَتا الشَّهادَةِ، وهُما أساسُ الدِّينِ ثُمَّ الأذانُ والصَّلاةُ والخُطَبُ، فالحَصْرُ إضافِيٌّ. انْتَهى كَلامُ الشِّهابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب