الباحث القرآني

(p-٦١٨٠)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الضُّحى مَكِّيَّةٌ وآيُها إحْدى عَشْرَةَ. لَطِيفَةٌ: قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: «رُوِّينا مِن طَرِيقِ أبِي الحَسَنِ أحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَزَّةَ المُقْرِئِ قالَ: قَرَأْتُ عَلى عِكْرِمَةَ بْنِ سُلَيْمانَ، وأخْبَرَنِي أنَّهُ قَرَأ عَلى إسْماعِيلَ بْنِ قُسْطَنْطِينَ وشِبْلِ بْنِ عَبّادٍ. فَلَمّا بَلَغْتُ (والضُّحى) قالَ لِي: كَبِّرْ حَتّى تَخْتِمَ مَعَ خاتِمَةِ كُلِّ سُورَةٍ. فَإنّا قَرَأْنا عَلى ابْنِ كَثِيرٍ فَأمَرَنا بِذَلِكَ. وأخْبَرَنا أنَّهُ قَرَأ عَلى مُجاهِدٍ فَأمَرَهُ بِذَلِكَ، وأخْبَرَهُ مُجاهِدٌ أنَّهُ قَرَأ عَلى ابْنِ عَبّاسٍ فَأمَرَهُ بِذَلِكَ. وأخْبَرَهُ ابْنُ عَبّاسٍ أنَّهُ قَرَأ عَلى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَأمَرَهُ بِذَلِكَ، وأخْبَرَهُ أُبَيٌّ أنَّهُ قَرَأ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأمَرَهُ بِذَلِكَ». فَهَذِهِ سُنَّةٌ تَفَرَّدَ بِها أبُو الحَسَنِ أحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البَزِّيُّ، مِن ولَدِ القاسِمِ بْنِ أبِي بَزَّةَ. وكانَ إمامًا في القِراءاتِ. وأمّا في الحَدِيثِ فَقَدْ ضَعَّفَهُ أبُو حاتِمٍ الرّازِيُّ وقالَ: لا أُحَدِّثُ عَنْهُ. وكَذَلِكَ أبُو جَعْفَرٍ العُقَيْلِيُّ، قالَ: هو مُنْكَرُ الحَدِيثِ. لَكِنْ حَكى الشَّيْخُ شِهابُ الدِّينِ أبُو شامَةَ في (شَرْحِ الشّاطِبِيَّةِ) عَنِ الشّافِعِيِّ أنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُكَبِّرُ هَذا التَّكْبِيرَ في الصَّلاةِ، فَقالَ: أحْسَنْتَ وأصَبْتَ السُّنَّةَ. وهَذا يَقْتَضِي صِحَّةَ هَذا الحَدِيثِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ القُرّاءُ في مَوْضِعِ هَذا التَّكْبِيرِ وكَيْفِيَّتِهِ. فَقالَ بَعْضُهُمْ: يُكَبِّرُ مِن آخِرِ ﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى﴾ [الليل: ١] وقالَ آخَرُونَ: مِن آخِرِ ﴿والضُّحى﴾ وكَيْفِيَّةُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أنْ يَقُولَ (اللَّهُ أكْبَرُ) ويَقْتَصِرُ، ومِنهم مَن يَقُولُ (اللَّهُ أكْبَرُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ واللَّهُ أكْبَرُ) وذَكَرَ القُرّاءُ في مُناسَبَةِ التَّكْبِيرِ مِن أوَّلِ سُورَةِ الضُّحى، «أنَّهُ لَمّا تَأخَّرَ الوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وفَتَرَ تِلْكَ المُدَّةَ، ثُمَّ جاءَ المَلَكُ فَأوْحى إلَيْهِ "والضُّحى واللَّيْلِ إذا سَجى" السُّورَةَ بِتَمامِها، كَبَّرَ فَرَحًا وسُرُورًا،» ولَمْ يُرْوَ ذَلِكَ بِإسْنادٍ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِصِحَّةٍ ولا ضَعْفٍ. فاللَّهُ أعْلَمُ. (p-٦١٨١)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١- ٥ ] ﴿والضُّحى﴾ ﴿واللَّيْلِ إذا سَجى﴾ [الضحى: ٢] ﴿ما ودَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلى﴾ [الضحى: ٣] ﴿ولَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى﴾ [الضحى: ٤] ﴿ولَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾ [الضحى: ٥] ﴿والضُّحى﴾ تَقَدَّمَ في سُورَةِ ﴿والشَّمْسِ وضُحاها﴾ [الشمس: ١] تَفْسِيرُ الضُّحى بِالضَّوْءِ وارْتِفاعِ النَّهارِ ارْتِفاعًا عالِيًا. ﴿واللَّيْلِ إذا سَجى﴾ [الضحى: ٢] أيِ: اشْتَدَّ ظَلامُهُ. وأصْلُهُ مِنَ التَّسْجِيَةِ وهي التَّغْطِيَةُ، لِسَتْرِهِ بِظُلْمَتِهِ. كَما في آيَةِ ﴿وجَعَلْنا اللَّيْلَ لِباسًا﴾ [النبإ: ١٠] ﴿ما ودَّعَكَ رَبُّكَ﴾ [الضحى: ٣] جَوابُ القَسَمِ، أيْ: ما تَرَكَكَ وما قَطَعَكَ قَطْعَ المُوَدِّعِ. قالَ الشِّهابُ في (العِنايَةِ): فالتَّوْدِيعُ مُسْتَعارٌ اسْتِعارَةً تَبَعِيَّةً لِلتَّرْكِ هُنا، وفِيهِ مِنَ اللُّطْفِ والتَّعْظِيمِ ما لا يَخْفى؛ فَإنَّ الوَداعَ إنَّما يَكُونُ بَيْنَ الأحْبابِ ومَن تَعِزُّ مُفارَقَتُهُ، كَما قالَ المُتَنَبِّي: ؎حَشاشَةُ نَفْسٍ ودَّعَتْ يَوْمَ ودَّعُوا فَلَمْ أدْرِ أيَّ الظّاعِنَيْنِ أُشَيِّعُ وقالَ في (شَرْحِ الشِّفاءِ): الوَداعُ لَهُ مَعْنَيانِ في اللُّغَةِ: التَّرْكُ وتَشْيِيعُ المُسافِرِ، فَإنْ فُسِّرَ بِالثّانِي هُنا عَلى طَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ يَكُونُ فِيهِ إيماءٌ إلى أنَّ اللَّهَ لَمْ يَتْرُكْهُ أصْلًا، فَإنَّهُ مَعَهُ أيْنَما كانَ. وإنَّما التَّرْكُ لَوْ تَصَوَّرَ في جانِبِهِ، ظاهِرٌ مَعَ دَلالَتِهِ بِهَذا المَعْنى عَلى الرُّجُوعِ؛ فالتَّوْدِيعُ إنَّما يَكُونُ لِمَن يُحِبُّ ويَرْجى عَوْدَهُ، وإلَيْهِ أشارَ الأُرْجانِيُّ بِقَوْلِهِ:(p-٦١٨٢) ؎إذا رَأيْتَ الوَداعَ فاصْبِرْ ∗∗∗ ولا يُهِمُّنَّكَ البِعادُ ؎وانْتَظِرِ العَوْدَ عَنْ قَرِيبٍ ∗∗∗ فَإنَّ قَلْبَ الوَداعِ عادُوا فَقَوْلُهُ: ﴿وما قَلى﴾ [الضحى: ٣] مُؤَكِّدٌ لَهُ. (قالَ): وهَذا لَمْ أرَ مَن ذَكَرَهُ مَعَ غايَةِ لُطْفِهِ، وكُلُّهم فَسَّرُوهُ بِالمَعْنى الأوَّلِ. ولَمّا رَأوْا صِيغَةَ الفِعْلِ تُفِيدُ زِيادَةَ المَعْنى والمُبالَغَةَ فِيهِ، فَيَقْتَضِي الِانْقِطاعَ التّامَّ، قالُوا: إنَّ المُبالَغَةَ في النَّفْيِ لا في المَنفِيِّ فَتَرَكَهُ لِحُكْمٍ عَلَيْهِ، لا لِضَرَرِهِ بِهَجْرِهِ، أوْ لِنَفْيِ القَيْدِ والمُقَيَّدِ. وقُرِئَ: ﴿ما ودَّعَكَ﴾ [الضحى: ٣] بِالتَّخْفِيفِ. ووَرَدَ في الحَدِيثِ ««شَرُّ النّاسِ مَن ودَّعَهُ النّاسُ اتِّقاءَ فُحْشِهِ»» . ووَرَدَ في الشِّعْرِ، كَقَوْلِهِ: ؎فَكانَ ما قَدَّمُوا لِأنْفُسِهِمْ ∗∗∗ أعْظَمَ نَفْعًا مِنَ الَّذِي ودَّعُوا ولِهَذا قالَ في (المِصْباحِ) بِهَذا: اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهم في عِلْمِ التَّصْرِيفِ: أماتُوا ماضِي يَدَعُ ويَذَرُ خَطَأٌ، وجَعْلَهُ اسْتِعارَةً مِنَ الوَدِيعَةِ تَعَسُّفٌ. انْتَهى. وكَذا قالَ في (المُسْتَوْفِي): إنَّهُ كُلَّهُ ورَدَ في كَلامِ العَرَبِ، ولا عِبْرَةَ بِكَلامِ النُّحاةِ فِيهِ، وإذا جاءَ نَهْرُ اللَّهِ بَطَلَ نَهْرُ مَعْقِلٍ، وإنْ كانَ نادِرًا. انْتَهى. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما قَلى﴾ [الضحى: ٣] أيْ: وما أبْغَضَكَ. والقالِي: المُبْغِضُ. يَعْنِي ما هَجَرَكَ عَنْ بُغْضٍ. قالَ الشِّهابُ: وحَذْفُ مَفْعُولِ "قَلى" اخْتِصارًا لِلْعِلْمِ بِهِ، ولِيَجْرِيَ عَلى نَهْجِ الفَواصِلِ الَّتِي بَعْدَهُ، أوْ لِئَلّا يُخاطِبَهُ بِما يَدُلُّ عَلى البُغْضِ. تَنْبِيهٌ: رَوى ابْنُ جَرِيرٍ: عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ««أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا نَزَلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ أبْطَأ عَنْهُ جِبْرِيلُ أيّامًا» (p-٦١٨٣)فَعُيِّرَ بِذَلِكَ؛ فَقالَ المُشْرِكُونَ: ودَّعَهُ رَبُّهُ وقَلاهُ؛ فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ، وفي رِوايَةٍ: أنَّ قائِلَ ذَلِكَ امْرَأةُ أبِي لَهَبٍ، وفي أُخْرى أنَّها خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها». ولا تُنافِي، لِاحْتِمالِ صُدُورِهِ مِنَ الجَمِيعِ، إلّا أنَّ قَوْلَ المُشْرِكِينَ وقَوْلَ خَدِيجَةَ -إنْ صَحَّ -تَوَجُّعٌ وتَحَزُّنٌ- وفي رِوايَةِ إسْماعِيلَ مَوْلى آلِ الزُّبَيْرِ قالَ: «فَتَرَ الوَحْيُ حَتّى شَقَّ ذَلِكَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ وأحْزَنَهُ. فَقالَ: «لَقَدْ خَشِيتُ أنْ يَكُونَ صاحِبِي قَلانِي» فَجاءَ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ "والضُّحى"». ﴿ولَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى﴾ [الضحى: ٤] قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أيْ: ولَلدّارُ الآخِرَةُ وما أعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيها، خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدّارِ الدُّنْيا وما فِيها. يَقُولُ: فَلا تَحْزَنْ عَلى ما فاتَكَ مِنها، فَإنَّ الَّذِي لَكَ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لَكَ مِنها. وقالَ القاضِي: أوْ: لَنِهايَةُ أمْرِكَ خَيْرٌ مِن بِدايَتِهِ. فَإنَّهُ ﷺ لا يَزالُ يَتَصاعَدُ في الرِّفْعَةِ والكَمالِ. ﴿ولَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾ [الضحى: ٥] أيْ: يُعْطِيكَ مِن فَواضِلِ نِعَمِهِ في العُقْبى حَتّى تَرْضى، وهَذِهِ عِدَةٌ كَرِيمَةٌ شامِلَةٌ لِما أعْطاهُ اللَّهُ تَعالى في الدُّنْيا مِن كَمالِ النَّفْسِ وعُلُومِ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ، وظُهُورِ الأمْرِ وإعْلاءِ الدِّينِ، بِالفُتُوحِ الواقِعَةِ في عَصْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفي أيّامِ خُلَفائِهِ الرّاشِدِينَ وغَيْرِهِمْ مِن مُلُوكِ الإسْلامِ، وفُشُوِّ دَعْوَتِهِ في مَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها، ولِما ادَّخَرَ لَهُ مِنَ الكَراماتِ الَّتِي لا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ تَعالى. وبِالجُمْلَةِ فَهَذِهِ الآيَةُ جامِعَةٌ لِوُجُوهِ الكَرامَةِ وأنْواعِ السَّعادَةِ وشَتاتِ الإنْعامِ في الدّارَيْنِ، حَيْثُ أجْمَلَهُ ووَكَّلَهُ إلى رِضاهُ وهَذا غايَةُ الإحْسانِ والإكْرامِ. تَنْبِيهٌ: قالَ في (المَواهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ): وأمّا ما يَغْتَرُّ بِهِ الجُهّالُ مِن أنَّهُ لا يَرْضى واحِدًا مِن أُمَّتِهِ في النّارِ أوْ لا يَرْضى أنْ يَدْخُلَ أحَدٌ مِن أُمَّتِهِ النّارَ، فَهو مِن غُرُورِ الشَّيْطانِ لَهُمْ، ولَعِبِهِ بِهِمْ؛ فَإنَّهُ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وسَلامُهُ يَرْضى بِما يَرْضى بِهِ رَبُّهُ تَبارَكَ وتَعالى، وهو سُبْحانَهُ وتَعالى يُدْخِلُ النّارَ مَن يَسْتَحِقُّها مِنَ الكُفّارِ والعُصاةِ، وقَدْ ولِعَ الحَشْوِيَّةُ بِتَقْوِيَةِ أمْثالِ هَذِهِ الآثارِ المُفْتَراةِ تَغْرِيرًا لِلْجُهّالِ وتَزْيِينًا لِمَوارِدِ الضَّلالِ. ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: (p-٦١٨٤)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب