الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[ ١٢ - ٢١ ] ﴿إنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى﴾ ﴿وإنَّ لَنا لَلآخِرَةَ والأُولى﴾ [الليل: ١٣] ﴿فَأنْذَرْتُكم نارًا تَلَظّى﴾ [الليل: ١٤] ﴿لا يَصْلاها إلا الأشْقى﴾ [الليل: ١٥] ﴿الَّذِي كَذَّبَ وتَوَلّى﴾ [الليل: ١٦] ﴿وسَيُجَنَّبُها الأتْقى﴾ [الليل: ١٧] ﴿الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكّى﴾ [الليل: ١٨] ﴿وما لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزى﴾ [الليل: ١٩] ﴿إلا ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِ الأعْلى﴾ [الليل: ٢٠] ﴿ولَسَوْفَ يَرْضى﴾ [الليل: ٢١]
(p-٦١٧٨)﴿إنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى﴾ اسْتِئْنافٌ مُقَرِّرٌ لِما قَبْلَهُ، أيْ: عَلَيْنا بِمُوجِبِ قَضائِنا المَبْنِيِّ عَلى الحِكَمِ البالِغَةِ، حَيْثُ خَلَقْنا الخَلْقَ لِلْإصْلاحِ في الأرْضِ، أنْ نُبَيِّنَ لَهم طَرِيقَ الهُدى لِيَجْتَنِبُوا مَواقِعَ الرَّدى. وقَدْ فَعَلَ سُبْحانَهُ ذَلِكَ بِإرْسالِ الرُّسُلِ، وإنْزالِ الكُتُبِ، والتَّمْكِينِ مِن الِاسْتِدْلالِ والِاسْتِبْصارِ، بِخَلْقِ العَقْلِ وهِبَةِ الِاخْتِيارِ.
﴿وإنَّ لَنا لَلآخِرَةَ والأُولى﴾ [الليل: ١٣] أيْ: مِلْكًا وخَلْقًا، فَلا يَضُرُّنا تَوَلِّيكم عَنِ الهُدى؛ وذَلِكَ لِغِناهُ تَعالى المُطْلَقِ، وتَفَرُّدِهِ بِمُلْكِ ما في الدّارَيْنِ، وكَوْنِهِ في قَبْضَةِ تَصَرُّفِهِ، لا يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ أحَدٌ، ولا يُحَصِّلُهُ أحَدٌ، حَتّى يَضُرَّ عَدَمُ اهْتِدائِهِ أوْ يَنْفَعَ اهْتِداؤُهُ. وفِيهِ إشارَةٌ عَلى تَناهِي عَظَمَتِهِ وتَكامُلِ قَهْرِهِ وجَبَرُوتِهِ. وإنَّ مَن كانَ كَذَلِكَ، فَجَدِيرٌ أنْ يُبادِرَ لِطاعَتِهِ ويُحَذِّرَ مِن مَعْصِيَتِهِ؛ ولِذا رَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿فَأنْذَرْتُكم نارًا تَلَظّى﴾ [الليل: ١٤] أيْ: تَتَلَظّى وتَتَوَهَّجُ، وهي نارُ الآخِرَةِ.
﴿لا يَصْلاها إلا الأشْقى﴾ [الليل: ١٥] ﴿الَّذِي كَذَّبَ﴾ [الليل: ١٦] أيْ: بِالحَقِّ الَّذِي جاءَهُ ﴿وتَوَلّى﴾ [الليل: ١٦] أيْ: عَنْ آياتِ رَبِّهِ وبَراهِينِها الَّتِي وضَّحَ أمْرَها وبَهَرَ نُورَها، عِنادًا وكُفْرًا.
﴿وسَيُجَنَّبُها الأتْقى﴾ [الليل: ١٧] ﴿الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكّى﴾ [الليل: ١٨] أيْ: يُنْفِقُ مالَهُ في سَبِيلِ الخَيْرِ، يَتَزَكّى عَنْ رِجْسِ البُخْلِ ودَنَسِ الإمْساكِ.
﴿وما لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزى﴾ [الليل: ١٩] أيْ: مِن يَدٍ يُكافِئُهُ عَلَيْها، أيْ: لا يُؤْتِيهِ لِلْمُكافَأةِ والمُعارَضَةِ.
﴿إلا ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِ الأعْلى﴾ [الليل: ٢٠] أيْ: لَكِنْ يُؤْتِيهِ ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِ وطَلَبَ مَرْضاتِهِ. لا لِغَرَضٍ آخَرَ مِن مُكافَأةٍ أوْ مَحْمَدَةٍ أوْ سُمْعَةٍ. وفي حَصْرِ "الأتْقى" بِالمُنْفِقِ، عَلى الشَّرِيطَةِ المَذْكُورَةِ، عِنايَةٌ عَظِيمَةٌ بِهِ، وتَرْغِيبٌ شَدِيدٌ في اللَّحاقِ بِهِ، كَيْفَ لا؟ وبِالمالِ قِوامُ الأعْمالِ، ورَفْعُ مَبانِي الرَّشادِ وهَدْمُ صُرُوحِ الفَسادِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَسَوْفَ يَرْضى﴾ [الليل: ٢١] قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أيْ: ولَسَوْفَ يَرْضى هَذا المُؤْتِي مالَهُ في حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، يَتَزَكّى بِما يُثِيبُهُ اللَّهُ في الآخِرَةِ عِوَضًا مِمّا أتى في الدُّنْيا في سَبِيلِهِ إذا لَقِيَ رَبَّهُ تَبارَكَ وتَعالى؛ فَفِيهِ وعْدٌ كَرِيمٌ بِنَيْلِ جَمِيعِ ما يَبْتَغِيهِ عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ وأجْمَلِها، إذْ بِهِ يَتَحَقَّقُ الرِّضا. وهَذا عَلى أنَّ ضَمِيرَ "يَرْضى" لِـ "الأتْقى" لا لِلرَّبِّ. قالَ الشِّهابُ: وهو الأنْسَبُ بِالسِّياقِ واتِّساقِ الضَّمائِرِ.
(p-٦١٧٩)وذَهَبَ بَعْضُهم إلى الثّانِي، ومِنهُمُ الإمامُ، قالَ: أيْ: ولَسَوْفَ يَرْضى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ الأتْقى الطّالِبِ بِصِفَةِ رِضاهُ، (ثُمَّ قالَ): والتَّعْبِيرُ بِـ (سَوْفَ)؛ لِإفادَةِ أنَّ الرِّضا يَحْتاجُ إلى بَذْلِ كَثِيرٍ، ولا يَكْفِي القَلِيلُ مِنَ المالِ، لِأنْ يَبْلُغَ العَبْدُ دَرَجَةَ الرِّضا الإلَهِيِّ.
تَنْبِيهٌ:
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ أنَّ هَذِهِ الآياتِ نَزَلَتْ في أبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتّى إنَّ بَعْضَهم حَكى الإجْماعَ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَلى ذَلِكَ. ولا شَكَّ أنَّهُ داخِلٌ فِيها وأوْلى الأُمَّةِ بِعُمُومِها؛ فَإنَّ اللَّفْظَ لَفْظُ العُمُومِ وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وسَيُجَنَّبُها الأتْقى﴾ [الليل: ١٧] ﴿الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكّى﴾ [الليل: ١٨] ﴿وما لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزى﴾ [الليل: ١٩]
ولَكِنَّهُ مُقَدَّمُ الأُمَّةِ وسابِقُهم في جَمِيعِ هَذِهِ الأوْصافِ وسائِرِ الأوْصافِ الحَمِيدَةِ، فَإنَّهُ كانَ صِدِّيقًا تَقِيًّا كَرِيمًا جَوّادًا بَذّالًا لِأمْوالِهِ في طاعَةِ مَوْلاهُ ونُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَمْ مِن دَراهِمَ ودَنانِيرَ بَذَلْتَها ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِ الكَرِيمِ. ولَمْ يَكُنْ لِأحَدٍ مِنَ النّاسِ عِنْدَهُ مِنَّةٌ يَحْتاجُ إلى أنْ يُكافِئَهُ بِها، ولَكِنْ كانَ فَضْلُهُ وإحْسانُهُ عَلى السّاداتِ والرُّؤَساءِ مِن سائِرِ القَبائِلِ. ولِهَذا قالَ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ -وهُوَ سَيِّدُ ثَقِيفٍ- يَوْمَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ: أما واللَّهِ! لَوْلا يَدٌ لَكَ عِنْدِي لَمْ أجْزِكَ بِها، لَأجَبْتُكَ. وكانَ الصِّدِّيقُ قَدْ أغْلَظَ لَهُ في المَقالَةِ. فَإذا كانَ هَذا حالُهُ مَعَ ساداتِ العَرَبِ ورُؤَساءِ القَبائِلِ، فَكَيْفَ بِمَن عَداهُمْ؟ وفي الصَّحِيحَيْنِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««مَن أنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبِيلِ اللَّهِ دَعَتْهُ خَزَنَةُ الجَنَّةِ: يا عَبْدَ اللَّهِ هَذا خَيْرٌ» . فَقالَ أبُو بَكْرٍ: يا رَسُولَ اللَّهِ! ما عَلى مَن يُدْعى مِنها ضَرُورَةٌ، فَهَلْ يُدْعى مِنها كُلِّها أحَدٌ؟ قالَ: «نَعَمْ، وأرْجُو أنْ تَكُونَ مِنهُمُ»» . انْتَهى.
{"ayahs_start":12,"ayahs":["إِنَّ عَلَیۡنَا لَلۡهُدَىٰ","وَإِنَّ لَنَا لَلۡـَٔاخِرَةَ وَٱلۡأُولَىٰ","فَأَنذَرۡتُكُمۡ نَارࣰا تَلَظَّىٰ","لَا یَصۡلَىٰهَاۤ إِلَّا ٱلۡأَشۡقَى","ٱلَّذِی كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ","وَسَیُجَنَّبُهَا ٱلۡأَتۡقَى","ٱلَّذِی یُؤۡتِی مَالَهُۥ یَتَزَكَّىٰ","وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعۡمَةࣲ تُجۡزَىٰۤ","إِلَّا ٱبۡتِغَاۤءَ وَجۡهِ رَبِّهِ ٱلۡأَعۡلَىٰ","وَلَسَوۡفَ یَرۡضَىٰ"],"ayah":"فَأَنذَرۡتُكُمۡ نَارࣰا تَلَظَّىٰ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق