الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ٤ - ٧ ] ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في كَبَدٍ﴾ ﴿أيَحْسَبُ أنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحَدٌ﴾ [البلد: ٥] ﴿يَقُولُ أهْلَكْتُ مالا لُبَدًا﴾ [البلد: ٦] ﴿أيَحْسَبُ أنْ لَمْ يَرَهُ أحَدٌ﴾ [البلد: ٧] ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في كَبَدٍ﴾ أيْ: في شِدَّةٍ، يُكابِدُ الأُمُورَ يُعالِجُها في أطْوارِهِ كُلِّها، مِن حَمْلِهِ إلى أنْ يَسْتَقِرَّ بِهِ القَرارُ: إمّا في الجَنَّةِ وإمّا في النّارِ. (p-٦١٦١)قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (الكَبَدُ) أصْلُهُ مِن قَوْلِكَ: (كَبَدَ الرَّجُلُ كَبَدًا)، فَهو أكْبَدُ، إذا وجِعَتْ كَبِدُهُ وانْتَفَخَتْ، فاتَّسَعَ فِيهِ حَتّى اسْتُعْمِلَ في كُلِّ تَعَبٍ ومَشَقَّةٍ، ومِنهُ اشْتُقَّتِ المُكابَدَةُ. كَما قِيلَ: (كَبَتَهُ) بِمَعْنى أهْلَكَهُ. وأصْلُهُ كَبِدَهُ إذا أصابَ كَبِدَهُ. قالَ لَبِيدٌ: ؎يا عَيْنُ هَلّا بَكَيْتِ أرْبَدَ إذْ قُمْنا وقامَ الخُصُومُ في كَبَدِ أيْ: في شِدَّةِ الأمْرِ وصُعُوبَةِ الخَطْبِ. انْتَهى. وفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، مِمّا يُكابِدُهُ مِن قُرَيْشٍ، مِن جِهَةِ أنَّ الإنْسانَ لَمْ يُخْلَقْ لِلرّاحَةِ في الدُّنْيا، وأنَّ كُلَّ مَن كانَ أعْظَمَ فَهو أشَدُّ نَصَبًا. هَذا خُلاصَةُ ما قالُوهُ. وقالَ القاشانِيُّ: "فِي كَبَدٍ" أيْ: مُكابَدَةٍ ومَشَقَّةٍ مِن نَفْسِهِ وهَواهُ، أوْ مَرَضٍ باطِنٍ وفَسادِ قَلْبٍ وغِلَظِ حِجابٍ؛ إذِ الكَبِدُ في اللُّغَةِ غِلَظُ الكَبِدِ الَّذِي هو مَبْدَأُ القُوَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ وفَسادُهُ وحِجابُ القَلْبِ وفَسادُهُ مِن هَذِهِ القُوَّةِ؛ فاسْتُعِيرَ غِلَظُ الكَبِدِ لِغِلَظِ حِجابِ القَلْبِ ومَرَضِ الجَهْلِ. ﴿أيَحْسَبُ﴾ [البلد: ٥] أيْ: لِغِلَظِ حِجابِهِ ومَرَضِ قَلْبِهِ لِاحْتِجابِهِ بِالطَّبِيعَةِ ﴿أنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحَدٌ﴾ [البلد: ٥] أيْ: أنْ لَنْ تَقُومَ قِيامَةٌ، ولَنْ يَقْدِرَ عَلى مُجازاتِهِ وقَهْرِهِ وغَلَبَتِهِ، مَعَ أنَّ ما هو فِيهِ مِنَ المُكابَدَةِ يَكْفِي لِإيقاظِهِ مِن غَفْلَتِهِ واعْتِرافِهِ بِعَجْزِهِ. ﴿يَقُولُ أهْلَكْتُ مالا لُبَدًا﴾ [البلد: ٦] أيْ: كَثِيرًا، مِن: (تَلَبَّدَ الشَّيْءُ)، إذا اجْتَمَعَ. والمُرادُ ما أنْفَقَهُ لِلِافْتِخارِ والمُباهاةِ والرِّياءِ. كَقَوْلِهِمْ: (خَسِرْتُ عَلَيْهِ كَذا وكَذا)، إذا أنْفَقَ عَلَيْهِ، يَتَفَضَّلُ عَلى النّاسِ بِالتَّبْذِيرِ والإسْرافِ، ويَحْسَبُهُ فَضِيلَةً لِاحْتِجابِهِ عَنِ الفَضِيلَةِ وجَهْلِهِ. ولِهَذا قالَ: ﴿أيَحْسَبُ أنْ لَمْ يَرَهُ أحَدٌ﴾ [البلد: ٧] أيْ: أيَحْسَبُ أنْ لَمْ يَطَّلِعِ اللَّهُ تَعالى عَلى باطِنِهِ ونِيَّتِهِ، حِينَ يُنْفِقُ مالَهُ في السُّمْعَةِ والرِّياءِ والمُباهاةِ، لا عَلى ما يَنْبَغِي في مَراضِي اللَّهِ، وهي رَذِيلَةٌ عَلى رَذِيلَةٍ فَكَيْفَ تَكُونُ فَضِيلَةً؟ (p-٦١٦٢)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب