الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١١٩ ] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ﴾ . ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ﴾ أيْ: في إيمانِهِمْ ومُعاهِدَتِهِمْ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ عَلى الطّاعَةِ، مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٢٣] أوْ هُمُ الثَّلاثَةُ، أيْ: كُونُوا مِثْلَهم في صِدْقِهِمْ وخُلُوصِ نِيَّتِهِمْ. تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ: رَوى الإمامُ أحْمَدُ والشَّيْخانِ حَدِيثَ كَعْبٍ وصاحِبَيْهِ مَبْسُوطًا بِما يُوَضِّحُ هَذِهِ الآيَةَ: قالَ الزُّهْرِيُّ: أخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ عَنْ أبِيهِ - وكانَ قائِدَ كَعْبٍ مِن بَنِيهِ، حِينَ عَمِيَ - قالَ: سَمِعْتُ كَعْبًا يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (p-٣٢٨٩)فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. «قالَ كَعْبٌ: لَمْ أتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في غَزاةٍ غَزاها قَطُّ، إلّا في غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ في غَزاةِ بَدْرٍ، ولَمْ يُعاتَبْ أحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْها، وإنَّما خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتّى جَمَعُ اللَّهُ بَيْنَهم وبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلى غَيْرِ مِيعادٍ. ولَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ العَقَبَةِ، حِينَ تَوافَقْنا عَلى الإسْلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لِي بِها مَشْهَدَ بَدْرٍ، وإنْ كانَتْ بَدْرٌ أذْكَرَ في النّاسِ مِنها وأشْهَرَ. وكانَ مِن خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، أنِّي لَمْ أكُنْ قَطُّ أقْوى ولا أيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ في تِلْكَ الغَزاةِ، واللَّهِ ما جَمَعْتُ قَبْلَها راحِلَتَيْنِ قَطُّ، حَتّى جَمَعْتُهُما في تِلْكَ الغَزاةِ. وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَلَّما يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوها، إلّا ورّى بِغَيْرِها، حَتّى كانَتْ تِلْكَ الغَزْوَةُ، فَغَزاها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في حَرٍّ شَدِيدٍ، واسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا ومَفاوِزَ، واسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلّى لِلْمُسْلِمِينَ أمْرَهم، لِيَتَأهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، فَأخْبَرَهم وجْهَهُ الَّذِي يُرِيدُ، والمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَثِيرٌ، لا يَجْمَعُهم كِتابٌ حافِظٌ - يُرِيدُ الدِّيوانَ ـ. قالَ كَعْبٌ: فَقَلَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أنْ يَتَغَيَّبَ إلّا ظَنَّ أنَّ ذَلِكَ سَيَخْفى عَلَيْهِ، ما لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وحْيٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. وغَزا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تِلْكَ الغَزاةَ، حِينَ طابَتِ الثِّمارُ والظِّلالُ وأنا إلَيْها أصْعَرُ - أيْ: أمِيلُ - فَتَجَهَّزَ إلَيْها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ والمُؤْمِنُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ أغْدُو لِكَيْ أتَجَهَّزَ مَعَهم، فَأرْجِعَ ولَمْ أقْضِ مِن جِهازِي شَيْئًا، فَأقُولُ لِنَفْسِي: أنا قادِرٌ عَلى ذَلِكَ إذا أرَدْتُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمادى بِي حَتّى اسْتَمَرَّ بِالنّاسِ الجِدُّ، فَأصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ غادِيًا، والمُسْلِمُونَ مَعَهُ، ولَمْ أقْضِ مِن جِهازِي شَيْئًا، وقُلْتُ: أتَجَهَّزُ بَعْدَ يَوْمٍ أوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ ألْحَقُهُ، فَغَدَوْتُ بَعْدُ لِأتَجَهَّزَ، فَرَجَعْتُ ولَمْ أقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمادى بِي حَتّى أسْرَعُوا وتَفارَطَ الغَزْوُ، فَهَمَمْتُ أنْ أرْتَحِلَ فَألْحَقَهم - ولَيْتَنِي فَعَلْتُ - ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ لِي. فَكُنْتُ إذا خَرَجْتُ في النّاسِ، بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، يُحْزِنُنِي أنِّي لا أرى إلّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ في النِّفاقِ، أوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ. ولَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتّى بَلَغَ تَبُوكَ. فَقالَ وهو جالِسٌ في القَوْمِ بِتَبُوكَ: «ما فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مالِكٍ ؟» فَقالَ رَجُلٌ مِن بَنِي سَلِمَةَ: حَبَسَهُ يا رَسُولَ اللَّهِ بُرْداهُ، والنَّظَرُ في عِطْفَيْهِ ! فَقالَ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَما قُلْتَ. واللَّهِ ! يا رَسُولَ اللَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ إلّا خَيْرًا ! فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ . (p-٣٢٩٠)قالَ كَعْبُ بْنُ مالِكٍ: فَلَمّا بَلَغَنِي أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ تَوَجَّهَ قافِلًا مِن تَبُوكَ، حَضَرَنِي بَثِّي أتَذَكَّرُ الكَذِبَ، وأقُولُ: بِمَ أخْرُجُ مِن سَخْطَتِهِ غَدًا ؟ وأسْتَعِينُ عَلى ذَلِكَ بِكَ ذِي رَأْيٍ مِن أهْلِي. فَلَمّا قِيلَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ أظَلَّ قادِمًا، زاحَ عَنِ الباطِلِ، وعَرَفْتُ أنِّي لَمْ أنْجُ مِنهُ بِشَيْءٍ أبَدًا، فَأجْمَعْتُ صِدْقَهُ، فَأصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ - وكانَ إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ بَدَأ بِالمَسْجِدِ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنّاسِ - فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ، جاءَهُ المُتَخَلِّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ، ويَحْلِفُونَ لَهُ، وكانُوا بِضْعَةً وثَمانِينَ رَجُلًا، فَيَقْبَلُ مِنهم رَسُولُ اللَّهِ عَلانِيَتَهم، ويَسْتَغْفِرُ لَهم، ويَكِلُ سَرائِرَهم إلى اللَّهِ تَعالى، حَتّى جِئْتُ، فَلَمّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ، ثُمَّ قالَ لِي: «تَعالَ !» فَجِئْتُ أمْشِي حَتّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقالَ لِي: «ما خَلَّفَكَ ؟ ألَمْ تَكُنْ قَدِ اشْتَرَيْتَ ظَهْرًا ؟» فَقُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ ! إنِّي لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِن أهْلِ الدُّنْيا لَرَأيْتُ أنْ أخْرُجَ مِن سَخَطِهِ بِعُذْرٍ. لَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، ولَكِنِّي، واللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ، لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليَوْمَ بِحَدِيثِ كَذِبٍ تَرْضى بِهِ عَنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أنْ يُسْخِطُكَ عَلَيَّ، ولَئِنْ حَدَّثْتُكَ بِصِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إنِّي لَأرْجُو عُقْبى ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. واللَّهِ ما كانَ لِي عُذْرٌ، واللَّهِ ! ما كُنْتُ قَطُّ أفْزَعَ ولا أيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. قالَ: فَقالَ يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: «أمّا هَذا فَقَدَ صَدَقَ، فَقُمْ حَتّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ !» فَقُمْتُ، وقامَ إلَيَّ رِجالٌ مِن بَنِي سَلِمَةَ، واتَّبَعُونِي، فَقالُوا لِي: واللَّهِ ! ما عَلِمْناكَ كُنْتَ أذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذا، ولَقَدْ عَجَزْتُ ألّا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِما اعْتَذَرَ بِهِ المُتَخَلِّفُونَ، فَقَدْ كانَ كافِيَكَ مِن ذَنْبِكَ اسْتِغْفارُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَكَ. قالَ: فَواللَّهِ ! ما زالُوا حَتّى أرَدْتُ أنْ أرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي. قالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهم: هَلْ لَقِيَ مَعِي هَذا أحَدٌ ؟ قالُوا: نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلانِ قالا مِثْلَ ما قُلْتَ، وقِيلَ لَهُما مِثْلُ ما قِيلَ لَكَ. قُلْتُ: فَمَن هُما ؟ قالُوا: مُرارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ العامِرِيُّ، وهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ الواقِفِيُّ، فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صالِحَيْنِ قَدْ شَهِدا بَدْرًا، لِي فِيهِما أُسْوَةٌ. (p-٣٢٩١)قالَ: فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُما لِي. فَقالَ: ونَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ كَلامِنا، أيُّها الثَّلاثَةُ، مِن بَيْنِ مَن تَخَلَّفَ. فاجْتَنَبَنا النّاسُ، وتَغَيَّرُوا لَنا، حَتّى تَنَكَّرَتْ لِي في نَفْسِي الأرْضُ، فَما هي بِالأرْضِ الَّتِي كُنْتُ أعْرِفُ، فَلَبِثْنا عَلى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً. فَأمّا صاحِبايَ فاسْتَكانا وقَعَدا في بُيُوتِهِما يَبْكِيانِ، وأمّا أنا فَكُنْتُ أشَدَّ القَوْمِ وأجْلَدَهم، فَكُنْتُ أشْهَدُ الصَّلاةَ مَعَ المُسْلِمِينَ، وأطُوفُ بِالأسْواقِ، فَلا يُكَلِّمُنِي أحَدٌ، وآتِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وهو في مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَأُسَلِّمُ وأقُولُ في نَفْسِي: أحَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلامِ عَلَيَّ أمْ لا ؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنهُ وأُسارِقُهُ النَّظَرَ، فَإذا أقْبَلْتُ عَلى صَلاتِي نَظَرَ إلَيَّ، فَإذا التَفَتُّ نَحْوَهُ أعْرَضَ عَنِّي. حَتّى إذا طالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِن هَجْرِ المُسْلِمِينَ، مَشَيْتُ حَتّى تَسَوَّرْتُ حائِطَ أبِي قَتادَةَ، وهو ابْنُ عَمِّي، وأحَبُّ النّاسِ إلَيَّ، فَإذا التَفَتُّ نَحْوَهُ أعْرَضَ عَنِّي، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَواللَّهِ ! ما رَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ. فَقُلْتُ لَهُ: يا أبا قَتادَةَ ! أنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُ أنِّي أُحِبُّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ؟ قالَ فَسَكَتَ. قالَ: فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَقالَ: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ. قالَ فَفاضَتْ عَيْنايَ، وتَوَلَّيْتُ حَتّى تَسَوَّرْتُ الجِدارَ. فَبَيْنَما أنا أمْشِي بِسُوقِ المَدِينَةِ، إذا أنا بِنَبَطِيٍّ مِن أنْباطِ الشّامِ، مِمَّنْ قَدِمَ بِطَعامِهِ يَبِيعُهُ بِالمَدِينَةِ، يَقُولُ: مَن يَدُلُّ عَلى كَعْبِ بْنِ مالِكٍ ؟ قالَ فَطَفِقَ النّاسُ يُشِيرُونَ إلَيَّ، حَتّى جاءَ فَدَفَعَ إلَيَّ كِتابًا مِن مَلِكِ غَسّانَ، وكُنْتُ كاتِبًا، فَإذا فِيهِ: أمّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنا أنَّ صاحِبَكَ قَدْ جَفاكَ، وإنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْكَ بِدارِ هَوانٍ ولا مَضْيَعَةٍ، فالحَقْ بِنا نُواسِكَ. قالَ - فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهُ -: وهَذا أيْضًا مِنَ البَلاءِ. قالَ: فَتَيَمَّمْتُ بِهِ التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهِ. حَتّى إذا مَضَتْ أرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الخَمْسِينَ، إذا بِرَسُولِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَأْتِينِي يَقُولُ: (p-٣٢٩٢)يَأْمُرُكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ تَعْتَزِلَ امْرَأتَكَ. قالَ: فَقُلْتُ: أُطَلِّقُها أمْ ماذا أفْعَلُ ؟ فَقالَ: بَلِ اعْتَزِلْها ولا تَقْرَبْها. قالَ: وأرْسَلَ إلى صاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ. قالَ: فَقُلْتُ لِامْرَأتِي: الحَقِي بِأهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهم حَتّى يَقْضِيَ اللَّهُ في هَذا الأمْرِ ما يَشاءُ ! قالَ: فَجاءَتِ امْرَأةُ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ ! إنَّ هِلالًا شَيْخٌ ضَعِيفٌ، لَيْسَ لَهُ خادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أنْ أخْدُمَهُ ؟ قالَ: لا، ولَكِنْ لا يَقْرَبْكِ ! قالَتْ: وإنَّهُ واللَّهِ ! ما بِهِ مِن حَرَكَةٍ إلى شَيْءٍ، وإنَّهُ واللَّهِ مازالَ يَبْكِي مُنْذُ كانَ مِن أمْرِهِ ما كانَ إلى يَوْمِهِ هَذا. قالَ: فَقالَ لِي بَعْضُ أهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في امْرَأتِكَ، فَقَدْ أذِنَ لِامْرَأةِ هِلالٍ أنْ تَخْدُمَهُ. قالَ: فَقُلْتُ: واللَّهِ لا أسْتَأْذِنُ فِيها رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وما أدْرِي ما يَقُولُهُ فِيها إذا اسْتَأْذَنْتُهُ، وأنا رَجُلٌ شابٌّ. قالَ: فَلَبَثْنا عَشْرَ لَيالٍ، فَكَمُلَ لَنا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِن حِينِ انْتَهى عَنْ كَلامِنا. قالَ: ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاةَ الصُّبْحِ، صَباحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلى ظَهْرِ بَيْتٍ مِن بُيُوتِنا، فَبَيْنَما أنا جالِسٌ عَلى الحالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى مِنّا، قَدْ ضاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وضاقَتْ عَلَيَّ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صارِخًا أوْفى عَلى جَبَلِ سَلْعٍ، يَقُولُ بِأعْلى صَوْتِهِ: أبْشِرْ يا كَعْبُ بْنَ مالِكٍ ! قالَ: فَخَرَرْتُ ساجِدًا، وعَرَفْتُ أنْ قَدْ جاءَ الفَرَجُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْنا، فَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنا حِينَ صَلّى الفَجْرَ، فَذَهَبَ النّاسُ يُبَشِّرُونَنا، وذَهَبَ قِبَلَ صاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، ورَكَضَ إلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا، وسَعى ساعٍ مِن أسْلَمَ وأوْفى عَلى الجَبَلِ، فَكانَ الصَّوْتُ أسْرَعَ مِنَ الفَرَسِ، فَلَمّا جاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُ إيّاهُما بِبُشْراهُ. واللَّهِ - ما أمْلِكُ يَوْمَئِذٍ غَيْرَهُما - واسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُما، وانْطَلَقْتُ أؤُمُّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وتَلَقّانِي النّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونَنِي بِتَوْبَةِ اللَّهِ، يَقُولُونَ: لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ ! حَتّى دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَإذا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جالِسٌ في المَسْجِدِ، والنّاسُ حَوْلَهُ، فَقامَ إلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ، حَتّى صافَحَنِي وهَنَّأنِي - واللَّهِ ! ما قامَ إلَيَّ رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرِينَ غَيْرُهُ - قالَ: (p-٣٢٩٣)فَكانَ كَعْبٌ لا يَنْساها لِطَلْحَةَ. قالَ كَعْبٌ: فَلَمّا سَلَّمْتُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ - وهو يَبْرُقُ وجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ ـ: «أبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ ولَدَتْكَ أُمُّكَ !» قالَ، قُلْتُ: أمِن عِنْدِكَ يا رَسُولَ اللَّهِ أمْ مِن عِنْدِ اللَّهِ ؟ قالَ: «لا، بَلْ مِن عِنْدِ اللَّهِ» . قالَ، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ إذا سُرَّ اسْتَنارَ وجْهُهُ، حَتّى كَأنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، حَتّى يُعْرَفَ ذَلِكَ مِنهُ، فَلَمّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ! إنَّ مِن تَوْبَتِي أنْ أنْخَلِعَ مِن مالِي، صَدَقَةً إلى اللَّهِ وإلى رَسُولِهِ. قالَ: «امْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مالِكَ، فَهو خَيْرٌ لَكَ» . قالَ، فَقُلْتُ: فَإنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ. وقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّما نَجّانِي اللَّهُ بِالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبَتِي ألّا أُحَدِّثَ إلّا صِدْقًا ما بَقِيتُ. قالَ، فَواللَّهِ ! ما أعْلَمُ أحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ أبْلاهُ اللَّهُ مِنَ الصِّدْقِ في الحَدِيثِ، مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أحْسَنَ مِمّا أبْلانِي اللَّهُ تَعالى. واللَّهِ ! ما تَعَمَّدْتُ كِذْبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى يَوْمِي هَذا، وإنِّي لَأرْجُو أنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فِيما بَقِيَ. قالَ، وأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ﴾ [التوبة: ١١٧] إلى آخِرِ الآياتِ. قالَ كَعْبٌ: فَواللَّهِ ! ما أنْعَمَ عَلَيَّ مِن نِعْمَةٍ قَطُّ، بَعْدَ أنْ هَدانِي لِلْإسْلامِ، أعْظَمَ في نَفْسِي مِن صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ ألّا أكُونَ كَذَبْتُهُ فَأهَلَكَ كَما هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوهُ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ لِلَّذِينِ كَذَبُوهُ حِينَ أنْزَلَ الوَحْيَ، شَرَّ ما قالَ لِأحَدٍ. فَقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكم إذا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهم فَأعْرِضُوا عَنْهم إنَّهم رِجْسٌ ومَأْواهم جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [التوبة: ٩٥] ﴿يَحْلِفُونَ لَكم لِتَرْضَوْا عَنْهم فَإنْ تَرْضَوْا عَنْهم فَإنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ [التوبة: ٩٦] قالَ: وكُنّا أيُّها الثَّلاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفْنا عَنْ أمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ خُلِّفُوا، فَبايَعَهم واسْتَغْفَرَ لَهم، وأرْجَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أمْرَنا حَتّى قَضى اللَّهُ فِيهِ، فَبِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿وعَلى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ [التوبة: ١١٨] ولَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ مِمّا خَلَّفَنا عَنِ الغَزْوِ، وإنَّما هو تَخْلِيفُهُ إيّانا، وإرْجاؤُهُ أمْرَنا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ، واعْتَذَرَ إلَيْهِ، فَقَبَلَ مِنهُ». (p-٣٢٩٤)وفِي رِوايَةٍ: «ونَهى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ كَلامِي، وكَلامِ صاحِبَيَّ، ولَمْ يَنْهَ عَنْ كَلامِ أحَدٍ مِنَ المُتَخَلِّفِينَ غَيْرَنا، فاجْتَنَبَ النّاسُ كَلامَنا، فَلَبِثَ كَذَلِكَ حَتّى طالَ عَلَيَّ الأمْرُ، فَما مِن شَيْءٍ أهَمُّ إلَيَّ مِن أنْ أمُوتَ، فَلا يُصَلِّي عَلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ، أوْ يَمُوتُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأكُونُ بِتِلْكَ المَنزِلَةِ، فَلا يُكَلِّمُنِي أحَدٌ مِنهم، ولا يُصَلِّي عَلَيَّ، ولا يُسَلِّمُ عَلَيَّ. قالَ: وأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ تَوْبَتَنا عَلى نَبِيِّهِ ﷺ حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الأخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ، ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ، وكانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُحْسِنَةً في شَأْنِي، مُعْتَنِيَةً بِأمْرِي. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يا أُمَّ سَلَمَةَ تِيبَ عَلى كَعْبِ بْنِ مالِكٍ» . قالَتْ: أفَلا أُرْسِلُ إلَيْهِ فَأُبَشِّرُهُ ؟ قالَ: «إذًا فَيَحْطِمَكُمُ النّاسُ فَيَمْنَعُونَكُمُ النَّوْمَ سائِرَ اللَّيْلِ» . حَتّى إذا صَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلاةَ الفَجْرِ، آذَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنا» - أخْرَجَهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ - . قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثابِتٌ مُتَّفَقٌ عَلى صِحَّتِهِ، وقَدْ تَضَمَّنَ تَفْسِيرَ الآيَةِ بِأحْسَنِ الوُجُوهِ وأبْسَطِها. الثّانِي: قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى الشِّدَّةِ عَلى مَن فَعَلَ الخَطِيئَةَ وعَلى قَطْعِ ما يُلْهِي عَنِ الطّاعَةِ. الثّالِثُ: في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى التَّحْرِيضِ عَلى الصِّدْقِ. قالَ القاشانِيُّ: في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ أيْ: في جَمِيعِ الرَّذائِلِ بالِاجْتِنابِ عَنْها، خاصَّةً رَذِيلَةَ الكَذِبِ، وذَلِكَ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ﴾ فَإنَّ الكَذِبَ أسُوءُ الرَّذائِلِ وأقْبَحُها، لِكَوْنِهِ يُنافِي المُرُوءَةَ، وقَدْ قِيلَ: لا مُرُوءَةَ لِكَذُوبٍ، إذِ المُرادُ مِنَ الكَلامِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ الإنْسانُ عَنْ سائِرِ الحَيَوانِ إخْبارُ الغَيْرِ عَمّا لا يَعْلَمُ، فَإذا كانَ الخَبَرُ غَيْرَ مُطابِقٍ ولَمْ تَحْصُلْ فائِدَةُ النُّطْقِ، وحَصَلَ مِنهُ اعْتِقادٌ غَيْرُ مُطابِقٍ، وذَلِكَ مِن خَواصِّ الشَّيْطَنَةِ فالكَذّابُ شَيْطانٌ. وكَما أنَّ الكَذِبَ أقْبَحُ الرَّذائِلِ، فالصِّدْقُ أحْسَنُ الفَضائِلِ، وأصْلُ كُلِّ حَسَنَةٍ، ومادَّةُ كُلِّ خَصْلَةٍ مَحْمُودَةٍ، ومِلاكُ كُلِّ خَيْرٍ وسَعادَةٍ، وبِهِ يَحْصُلُ كُلُّ كَمالٍ، (p-٣٢٩٥)وأصْلُهُ الصِّدْقُ في عَهْدِ اللَّهِ تَعالى الَّذِي هو نَتِيجَةُ الوَفاءِ بِمِيثاقِ الفِطْرَةِ أوْ نَفْسِهِ، كَما قالَ: ﴿رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٢٣] في عَقْدِ العَزِيمَةِ، ووَعْدِ الخَلِيقَةِ. كَما قالَ في إسْماعِيلَ: ﴿إنَّهُ كانَ صادِقَ الوَعْدِ﴾ [مريم: ٥٤] وإذا رُوعِيَ في المَواطِنِ كُلِّها، حَتّى الخاطِرِ والفِكْرِ والنِّيَّةِ والقَوْلِ والعَمَلِ، صَدَقَتِ المَناماتُ والوارِداتُ، والأحْوالُ والمَقاماتُ والمَواهِبُ والمُشاهَداتُ، كَأنَّهُ أصْلُ شَجَرَةِ الكَمالِ، وبَذْرَةُ ثَمَرَةِ الأحْوالِ. انْتَهى. ولَمّا أوْجَبَ تَعالى الكَوْنَ مَعَ الصّادِقِينَ، أشارَ تَعالى إلى أنَّ النَّفْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ واجِبُ كِفايَةٍ، فَلا يَجُوزُ تَخَلُّفُ الجَمِيعِ، ولا يَلْزَمُ النَّفْرُ لِلنّاسِ كافَّةً، فَقالَ سُبْحانَهُ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب