الباحث القرآني

(p-٣٢٨٥)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١١٧ ] ﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ والمُهاجِرِينَ والأنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في ساعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنهم ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ . ﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ والمُهاجِرِينَ والأنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في ساعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنهم ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا بَيَّنَ فِيما تَقَدَّمَ مَراتِبَ النّاسِ في أيّامِ غَزْوَةِ تَبُوكَ، مُؤْمِنَهم ومُنافِقَهم، والمُنْفِقَ لَها طَوْعًا أوْ كَرْهًا، والمُرَغِّبَ فِيها أوْ عَنْها، والمُتَخَلِّفَ نِفاقًا أوْ كَسَلًا، وأنْبَأ عَمّا لَحِقَ كُلًّا مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ، ومَيَّزَ الصّادِقِينَ مِن غَيْرِهِمْ، خَتَمَ بِفِرْقَةِ مِنهم كانُوا تَخَلَّفُوا مَيْلًا لِلدَّعَةِ وهم صادِقُونَ في إيمانِهِمْ، ثُمَّ نَدِمُوا فَتابُوا وأنابُوا، وعَلِمَ اللَّهُ صِدْقَ تَوْبَتِهِمْ، فَقَبِلَها، ثُمَّ أنْزَلَ تَوْبَتَهم في هَذِهِ الآيَةِ، وصَدَّرَها بِتَوْبَتِهِ عَلى رَسُولِهِ، وكِبارِ صَحْبِهِ جَبْرًا لِقُلُوبِهِمْ، وتَنْوِيهًا لِشَأْنِهِمْ بِضَمِّهِمْ مَعَ المَقْطُوعِ بِالرِّضا عَنْهم وبَعْثًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلى التَّوْبَةِ، وأنَّهُ ما مِن مُؤْمِنٍ إلّا وهو مُحْتاجٌ إلى التَّوْبَةِ والِاسْتِغْفارِ، حَتّى النَّبِيِّ والمُهاجِرِينَ والأنْصارِ، كُلٌّ عَلى حَسَبِهِ، وإبانَةٌ لِفَضْلِ التَّوْبَةِ ومِقْدارِها عِنْدَ اللَّهِ، وأنَّها صِفَةُ التَّوّابِينَ الأوّابِينَ صِفَةُ الأنْبِياءِ، كَما وصَفَهم بِالصّالِحِينَ، لِيُظْهِرَ فَضِيلَةَ الصَّلاحِ والوَصْفُ لِلْمَدْحِ، كَما يَكُونُ لِمَدْحِ المَوْصُوفِ، يَكُونُ لِمَدْحِ الصِّفَةِ، وهَذا مِن لَطائِفِ البَلاغَةِ، وهو كَما قالَ حَسّانٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ؎ما إنْ مَدَحْتُ مُحَمَّدًا بِمَقالَتِي لَكِنْ مَدَحْتُ مَقالَتِي بِمُحَمَّدِ وفِي الآيَةِ بَيانُ فَضْلِ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ. (p-٣٢٨٦)قالَ الحاكِمُ: ودَلَّتْ عَلى فَضْلِ عُثْمانَ، لِأنَّهُ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ بِمالٍ لَمْ يَبْلُغْ غَيْرُهُ مَبْلَغَهُ، وقَدْ جَمَعَ تَعالى بَيْنَ ذِكْرَ نَبِيِّهِ وذِكْرِهِمْ، ووَصَفَهم بِاتِّباعِهِ، فَوَجَبَ القَطْعُ بِمُوالاتِهِمْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي ساعَةِ العُسْرَةِ﴾ أيْ: في وقْتِها، والسّاعَةُ تُسْتَعْمَلُ في مَعْنى الزَّمانِ المُطْلَقِ، كَما تُسْتَعْمَلُ الغَداةُ والعَشِيَّةُ واليَوْمُ، والعَسِرَةُ حالُهم في غَزْوَةِ تَبُوكَ، كانُوا في عُسْرَةٍ مِنَ الظَّهْرِ، يَعْتَقِبُ العَشَرَةُ عَلى بَعِيرٍ واحِدٍ، وفي عُسْرَةٍ مِنَ الزّادِ، حَتّى إنَّ الرَّجُلَيْنِ كانا يَشُقّانِ التَّمْرَةَ بَيْنَهُما، وكانَ النَّفَرُ يَتَدالُونَ التَّمْرَةَ بَيْنَهم، يَمُصُّها هَذا، ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْها، ثُمَّ يَمُصُّها الآخَرُ، ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْها: وفي عُسْرَةٍ مِن شِدَّةِ لَهَبانِ الحَرِّ ومِنَ الجَدْبِ، وفي عُسْرَةٍ مِنَ الماءِ، حَتّى بَلَغَ بِأحَدِهِمُ العَطَشُ أنْ نَحَرَ بَعِيرَهُ، فَعَصَرَ فَرْثَهُ فَشَرِبَهُ، وجَعَلَ ما بَقِيَ عَلى كَبِدِهِ. وقَدْ حَكى القالِيُّ في " أمالِيهِ " أنَّ العَرَبَ كانُوا إذا أرادُوا تَوَغُّلَ الفَلُوّاتِ الَّتِي لا ماءَ فِيها، سَقَوُا الإبِلَ عَلى أتَمِّ أظْمائِها ثُمَّ قَطَعُوا مَشافِرَها، أوْ خَزَمُوها لِئَلّا تَرْعى، فَإذا احْتاجُوا إلى الماءِ افْتَظُّوا كُرُوشَها، فَشَرِبُوا ثَمِيلَها، وهو كَثِيرٌ في الأشْعارِ. كَذا في (" العِنايَةِ ") . ونَقَلَ الرّازِيُّ عَنْ أبِي مُسْلِمٍ، أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِساعَةِ العُسْرَةِ، جَمِيعَ الأحْوالِ والأوْقاتِ الشَّدِيدَةِ عَلى الرَّسُولِ، وعَلى المُؤْمِنِينَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ غَزْوَةُ الخَنْدَقِ وغَيْرُها. وقَدْ ذَكَرَ تَعالى بَعْضَها في كِتابِهِ كَقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وإذْ زاغَتِ الأبْصارُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ﴾ [الأحزاب: ١٠] وقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهم بِإذْنِهِ حَتّى إذا فَشِلْتُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٢] والمَقْصُودُ مِنهُ وصْفُ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ بِأنَّهُمُ اتَّبَعُوا الرَّسُولَ ﷺ في الأوْقاتِ الشَّدِيدَةِ، والأحْوالِ الصَّعْبَةِ، وذَلِكَ يُفِيدُ نِهايَةَ المَدْحِ والتَّعْظِيمِ. انْتَهى. (p-٣٢٨٧)أقُولُ هَذا الِاحْتِمالَ، وإنْ كانَ مِمّا يَسَعُهُ اللَّفْظُ الكَرِيمُ، إلّا أنَّهُ يُبْعِدُهُ عَنْهُ سِياقُ الآيَةِ، وسِباقُها، القاصِرانِ عَلى غَزْوَةِ تَبُوكَ، ولَمْ يَتَّفِقْ في غَيْرِها عُسْرٌ في الخُرُوجِ، واتِّباعُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، بَلْ وقَعَ أحْيانًا في مَصافِّ القِتالِ. وقَدِ اتَّفَقَ عُلَماءُ الأثَرِ والسِّيَرِ عَلى تَسْمِيَتِها (غَزْوَةَ العُسْرَةِ)، ومَن خَرَجَ فِيها (جَيْشَ العُسْرَةِ) . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنهُمْ﴾ أيْ: عَنِ الحَقِّ، أوِ الثَّباتِ عَلى الإتْباعِ لِلَّذِي نالَهم مِنَ المَشَقَّةِ والشِّدَّةِ في سَفَرِهِمْ. وفِي تَكْرِيرِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ﴾ تَأْكِيدٌ ظاهِرٌ، واعْتِناءٌ بِشَأْنِها، هَذا إذا كانَ الضَّمِيرُ راجِعًا إلى مَن تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّوْبَةِ عَنْهم، وإنْ كانَ الضَّمِيرُ إلى الفَرِيقِ الثّانِي، فَلا تَكْرارَ. قالَ بَعْضُهم: ذِكْرُ التَّوْبَةِ أوَّلًا قَبْلَ ذِكْرِ الذَّنْبِ، تَفَضُّلًا مِنهُ، وتَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ الذَّنْبَ بَعْدَ ذَلِكَ، وأرْدَفَهُ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ مَرَّةً أُخْرى، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِمْ، ولِيَعْلَمُوا أنَّهُ تَعالى قَدْ قَبِلَ تَوْبَتَهم، وعَفا عَنْهم. ثُمَّ أتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ تَأْكِيدًا لِذَلِكَ. وقَوْلُهُ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب