الباحث القرآني

(p-٣٠٦٠)سُورَةُ التَّوْبَةِ هِيَ مَدَنِيَّةٌ بِإجْماعِهِمْ. قِيلَ: سِوى آيَتَيْنِ في آخِرِها ﴿لَقَدْ جاءَكم رَسُولٌ مِن أنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨] فَإنَّهُما نَزَلَتا بِمَكَّةَ. وفِيهِ نَظَرٌ. فَقَدْ رَوى البُخارِيُّ عَنِ البَراءِ أنَّها آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، واسْتَثْنى بَعْضُهم ما كانَ لِلنَّبِيِّ. . - لِما ورَدَ أنَّها نَزَلَتْ في قَوْلِهِ ﷺلِأبِي طالِبٍ: «لَأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» . وهِيَ مِائَةٌ وتِسْعٌ وعِشْرُونَ آيَةً ولِهَذِهِ السُّورَةِ عَشَرَةُ أسْماءَ: ١- بَراءَةُ: سُمِّيَتْ بِها لِافْتِتاحِها بِها، ومَرْجِعِ أكْثَرِ ما ذُكِرَ فِيها إلَيْها. ٢- التَّوْبَةُ: لِتَكْرارِها فِيها، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ تُبْتُمْ فَهو خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [التوبة: ٣] ﴿فَإنْ تابُوا وأقامُوا الصَّلاةَ﴾ [التوبة: ١١] وقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلى مَن يَشاءُ﴾ [التوبة: ٢٧] وقَوْلِهِ: ﴿فَإنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [التوبة: ٧٤] وقَوْلِهِ: ﴿عَسى اللَّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٠٢] وقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ﴾ [التوبة: ١١٧] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ هو يَقْبَلُ التَّوْبَةَ﴾ [التوبة: ١٠٤] وقَوْلِهِ: ﴿التّائِبُونَ العابِدُونَ﴾ [التوبة: ١١٢] وهُما أشْهَرُ أسْمائِها. ٣- الفاضِحَةُ: أخْرَجَ البُخارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبّاسٍ: سُورَةُ (p-٣٠٦١)التَّوْبَةِ، قالَ: التَّوْبَةُ هي الفاضِحَةُ، ما زالَتْ تَنْزِلُ: ومِنهم ومِنهم، حَتّى ظَنُّوا أنَّها لَمْ تُبْقِ أحَدًا مِنهم إلّا ذُكِرَ فِيها. سُورَةُ العَذابِ: رَواهُ الحاكِمُ عَنْ حُذَيْفَةَ، وذَلِكَ لِتَكَرُّرِهِ فِيها. ٥- المُقَشْقَشَةُ: رَواهُ أبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، والقَشْقَشَةُ مَعْناها التَّبْرِئَةُ، وهي مُبَرِّئَةٌ مِنَ النِّفاقِ. ٦- المُنَقِّرَةُ: أخْرَجَهُ أبُو الشَّيْخِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ لِأنَّها نَقَرَتْ عَمّا في قُلُوبِ المُشْرِكِينَ. أيْ بَحَثَتْ. ٧- البَحُوثُ: بِفَتْحِ الباءِ، صِيغَةُ مُبالَغَةٍ، رَواهُ الحاكِمُ عَنِ المِقْدادِ. ٨- الحافِرَةُ: ذَكَرَهُ ابْنُ الغَرْسِ، لِأنَّها حَفَرَتْ عَنْ قُلُوبِ المُنافِقِينَ، أيْ بَحَثَتْ عَنْها، مَجازًا. ٩- المُثِيرَةُ: رَواهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ لِأنَّها أثارَتْ مَثالِبَهم وعَوْراتِهم أيْ أخْرَجَتْها مِنَ الخَفاءِ إلى الظُّهُورِ. ١٠- المُبَعْثِرَةُ: لِأنَّها بَعْثَرَتْ أسْرارَهم أيْ أظْهَرَتْها. ١١- المُدَمْدِمَةُ: أيِ المَهْلَكَةُ لَهم. ١٢- المُخْزِيَةُ. ١٣- المُنَكِّلَةُ: أيِ المُعاقِبَةُ لَهم. ١٤- المُشَرِّدَةُ: أيِ الطّارِدَةُ لَهم والمُفَرِّقَةُ جَمْعَهم. ولَيْسَ في السُّوَرِ أكْثَرُ أسْماءٍ مِنها ومِنَ الفاتِحَةِ. تَنْبِيهٌ: لِلسَّلَفِ في وجْهِ تَرْكِ كِتابَةِ البَسْمَلَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ والتَّلَفُّظِ بِها أقْوالٌ: ١- رَوى الحاكِمُ في (المُسْتَدْرَكِ) عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: سَألْتُ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ: لِمَ لَمْ تُكْتَبْ في (بَراءَةَ) البَسْمَلَةُ؟ قالَ: لِأنَّها أمانٌ. وبَراءَةُ نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ. أيْ فَنُزُولُها لِرَفْعِ (p-٣٠٦٢)الأمانِ الَّذِي يَأْبى مَقامُهُ التَّصْدِيرَ بِما يُشْعِرُ بِبَقائِهِ مِن ذِكْرِ اسْمِهِ تَعالى، مَشْفُوعًا بِوَصْفِ الرَّحْمَةِ. ولِذا قالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: اسْمُ اللَّهِ سَلامٌ وأمانٌ، فَلا يُكْتَبُ في النَّبْذِ والمُحارَبَةِ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَقُولُوا لِمَن ألْقى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: ٩٤] قِيلَ لَهُ: فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ كَتَبَ إلى أهْلِ الحَرْبِ البَسْمَلَةَ. قالَ: إنَّما ذَلِكَ ابْتِداءٌ مِنهُ يَدْعُوهم، ولَمْ يَنْبِذْ إلَيْهِمْ. ألا تَراهُ يَقُولُ: سَلامٌ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى؟ فَمَن دُعِيَ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فَأجابَ، ودُعِيَ إلى الجِزْيَةِ فَأجابَ، فَقَدِ اتَّبَعَ الهُدى، فَظَهَرَ الفَرْقُ. وكَذا قالَ المُبَرِّدُ: إنَّ التَّسْمِيَةَ افْتِتاحٌ لِلْخَيْرِ، وأوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ وعِيدٌ ونَقْضُ عُهُودٍ، فَلِذَلِكَ لَمْ تُفْتَتَحْ بِالتَّسْمِيَةِ. ٢- عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «قُلْتُ لِعُثْمانَ: ما حَمَلَكم عَلى أنْ عَمَدْتُمْ إلى الأنْفالِ، وهي مِنَ المَثانِي، وإلى بَراءَةَ وهي مِنَ المِئِينَ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُما، ولَمْ تَكْتُبُوا سَطْرَ البَسْمَلَةِ، ووَضَعْتُمُوها في السَّبْعِ الطِّوالِ، ما حَمَلَكم عَلى ذَلِكَ؟ قالَ عُثْمانُ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَثِيرًا ما يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمانُ وهو يَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَواتُ العَدَدِ، وكانَ إذا نَزَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ دَعا بَعْضَ مَن كانَ يَكْتُبُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَؤُلاءِ الآياتِ في السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيها كَذا وكَذا، وإذا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ يَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ الآيَةَ في السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيها كَذا وكَذا، وكانَتِ (الأنْفالُ) مِن أوائِلِ ما نَزَلَ بِالمَدِينَةِ، وكانَتْ (بَراءَةُ) مِن آخِرِ القُرْآنِ نُزُولًا، وكانَتْ قِصَّتُها شَبِيهَةً بِقِصَّتِها، وظَنَنْتُ أنَّها مِنها. وقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولَمْ يُبَيِّنْ لَنا أنَّها مِنها أوْ مِن غَيْرِها، مِن أجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُما، ولَمْ أكْتُبِ البَسْمَلَةَ، ووَضَعْتُها في السَّبْعِ الطِّوالِ» . أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وقالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ ورَواهُ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائِيُّ وابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ. (p-٣٠٦٣)قالَ الزَّجّاجُ: والشَّبَهُ الَّذِي بَيْنَهُما أنَّ في (الأنْفالِ) ذِكْرَ العُهُودِ، وفي (بَراءَةَ) نَقْضَها. ٣- أخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ أبِي رَوْقٍ قالَ: (الأنْفالُ) و(بَراءَةُ) سُورَةٌ واحِدَةٌ. ونُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ مُجاهِدٍ، وأخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سُفْيانَ. وقالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: يَقُولُونَ إنَّ (بَراءَةَ) مِنَ (الأنْفالِ)، ولِذَلِكَ لَمْ تُكْتَبِ البَسْمَلَةُ في (بَراءَةَ)، وشَبَّهْتُهُمُ اشْتِباهَ الطَّرَفَيْنِ، وعَدَمَ البَسْمَلَةِ. ويَرُدُّهُ تَسْمِيَةُ النَّبِيِّ ﷺ كُلًّا مِنهُما. وقالَ الحاكِمُ: اسْتَفاضَ النَّقْلُ أنَّهُما سُورَتانِ. وقالَ أبُو السُّعُودِ: اشْتِهارُها بِهَذِهِ الأسْماءِ- يَعْنِي الأرْبَعَةَ عَشَرَ اسْمًا المُتَقَدِّمَةَ- يَقْضِي بِأنَّها سُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، ولَيْسَتْ بَعْضًا مِن سُورَةِ الأنْفالِ، وادِّعاءُ اخْتِصاصِ الِاشْتِهارِ بِالقائِلِينَ بِاسْتِقْلالِها خِلافُ الظّاهِرِ، انْتَهى. ونَقَلَ صاحِبُ ( الإقْناعِ) أنَّ البَسْمَلَةَ ثابِتَةٌ لِـ ( بَراءَةَ) في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: ولا يُؤْخَذُ بِها. وعَنْ مالِكٍ أنَّ أوَّلَها لَمّا سَقَطَ سَقَطَتْ مَعَهُ البَسْمَلَةُ، فَقَدْ ثَبَتَ أنَّها كانَتْ تَعْدِلُ البَقَرَةَ لِطُولِها، كَذا في ( الإتْقانِ) . ثُمَّ اعْلَمْ عَلى أنَّ القُرّاءَ أجْمَعُوا عَلى تَرْكِ البَسْمَلَةِ في آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ اتِّباعًا لِسُقُوطِها في الرَّسْمِ مِن مُصْحَفِ الإمامِ، إلّا ابْنَ مِنادِرَ فَإنَّهُ يُسَمِّي في أوَّلِها، كَما في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وقالَ السَّخاوِيُّ في ( جَمالِ القُرّاءِ): إنَّهُ اشْتُهِرَ تَرْكُها فى أوَّلِ بَراءَةَ. ورُوِيَ عَنْ عاصِمٍ التَّسْمِيَةَ فى أوَّلِها، وهو القِياسُ. لِأنَّ إسْقاطَها، إمّا لِأنَّها نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ أوْ لِأنَّهم لَمْ يَقْطَعُوا بِأنَّها سُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، بَلْ مِنَ الأنْفالِ. ولا يَتِمُّ الأوَّلُ، لِأنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَن نَزَلَتْ فِيهِ، ونَحْنُ إنَّما نُسَمِّي لِلتَّبَرُّكِ وأمّا الِابْتِداءُ بِما بَعْدَ أوَّلِ بَراءَهَ، فَلا نَصَّ لِلْمُتَقَدِّمِينَ مِن أئِمَّةِ القُرّاءِ فِيهِ، وظاهِرُ إطْلاقِ كَثِيرٍ التَّخْيِيرُ فِيها، واخْتارَ السَّخاوِيُّ (p-٣٠٦٤)الجَوازَ، وقالَ: ألا تَرى أنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ خِلافٍ أنْ يَقُولَ: ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ وإلى مَنعِها ذَهَبَ الجَعْبَرِيُّ، وتَعَقَّبَهُ السَّخاوِيُّ فَقالَ: إنْ كانَ نَقْلًا فَمُسَلَّمٌ، وإلّا فَرُدَّ عَلَيْهِ، لِأنَّهُ تَفْرِيغٌ عَلى غَيْرِ أصْلٍ. وقالَ ابْنُ الجَزَرِيِّ في (النَّشْرِ): مَنِ اعْتَبَرَ بَقاءَ أثَرِ العِلَّةِ الَّتِي مِن أجْلِها حُذِفَتِ البَسْمَلَةُ أوَّلَها، وهي نُزُولُها بِالسَّيْفِ، لَمْ يُبَسْمِلْ. ومَن لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ، أوْ لَمْ يَرَها، بَسْمَلَ بِلا نَظَرٍ واللَّهُ أعْلَمُ. وقَوْلُهُ تَعالى: القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١ ] ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ، وتَنْوِينُهُ لِلتَّفْخِيمِ، أيْ: هَذِهِ بَراءَةٌ، أوْ مُبْتَدَأٌ مُخَصَّصٌ بِصِفَةٍ، وخَبَرُهُ: (إلى الَّذِينَ) . و(البَراءَةُ) في اللُّغَةِ انْقِطاعُ العِصْمَةِ، يُقالُ: بَرِئْتُ مِن فُلانٍ بَراءَةً، أيِ: انْقَطَعَتْ بَيْنَنا العِصْمَةُ، ولَمْ يَبْقَ بَيْنَنا عُلْقَةٌ. فَإنْ قِيلَ: حَقُّ البَراءَةِ أنْ تُنْسَبَ إلى المُعاهِدِ، فَلِمَ لَمْ تُنْسَبْ إلَيْهِمْ، ونُسِبَتْ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ ؟ أُجِيبُ: أنَّ (عاهَدْتُمْ) إخْبارٌ عَنْ سابِقٍ صَدَرَ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ والجَماعَةِ، فَنُسِبَ إلى الكُلِّ، كَما هو الواقِعُ، وإنْ كانَ بِإذْنِ اللَّهِ أيْضًا. وأمّا البَراءَةُ فَهي إخْبارٌ عَنْ مُتَجَدِّدٍ، فَكَيْفَ يُنْسَبُ إلَيْهِمْ، وهم لَمْ يُحْدِثُوهُ بَعْدُ، وإنَّما يُسْنَدُ إلى مَن أحْدَثَهُ ؟ وقالَ النّاصِرُ: إنَّ سِرَّ ذَلِكَ أنَّ نِسْبَةَ العَهْدِ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ ﷺ في مَقامٍ نُسِبَ فِيهِ النَّبْذُ إلى المُشْرِكِينَ، لا يَحْسُنُ أدَبًا، ألا تَرى إلى وصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (p-٣٠٦٥)لِأُمَراءِ السَّرايا حَيْثُ يَقُولُ لَهم: ««إذا نَزَلْتَ بِحِصْنٍ فَطَلَبُوا النُّزُولَ عَلى حُكْمِ اللَّهِ، فَأنْزِلْهم عَلى حُكْمِكَ، فَإنَّكَ لا تَدْرِي أصادَفْتَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أوْ لا ! وإنْ طَلَبُوا ذِمَّةَ اللَّهِ، فَأنْزِلْهم عَلى ذِمَّتِكَ، فَلَأنْ تَخْفِرَ ذِمَّتَكَ، خَيْرٌ مِن أنْ تَخْفِرَ ذِمَّةَ اللَّهِ»» ! فانْظُرْ إلى أمْرِهِ ﷺ بِتَوْقِيرِ ذِمَّةِ اللَّهِ، مَخافَةَ أنْ تَخْفِرَ، وإنْ كانَ لَمْ يَحْصُلْ بَعْدَ ذَلِكَ الأمْرُ المُتَوَقَّعُ، فَتَوْقِيرُ عَهْدِ اللَّهِ، وقَدْ تَحَقَّقَ مِنَ المُشْرِكِينَ النَّكْثُ، وقَدْ تَبَرَّأ مِنهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ بِألّا يُنْسَبَ العَهْدُ المَنبُوذُ إلى اللَّهِ أحْرى وأجْدَرُ. فَلِذَلِكَ نُسِبَ العَهْدُ إلى المُسْلِمِينَ دُونَ البَراءَةِ مِنهُ. وقالَ الشِّهابُ: ولَكَ أنْ تَقُولَ: إنَّما أضافَ العَهْدَ إلى المُسْلِمِينَ، لِأنَّ اللَّهَ عَلِمَ أنْ لا عَهْدَ لَهم، فَلِذا لَمْ يُضِفِ العَهْدَ إلَيْهِ، لِبَراءَتِهِ مِنهم، ومِن عَهْدِهِمْ في الأزَلِ. وهَذا نُكْتَةُ الإتْيانِ بِالجُمْلَةِ اسْمِيَّةً خَبَرِيَّةً، وإنْ قِيلَ: إنَّها إنْشائِيَّةٌ لِلْبَراءَةِ مِنهم، ولِذا دَلَّتْ عَلى التَّجَدُّدِ. انْتَهى. قالَ ابْنُ إسْحاقَ: نَزَلَتْ بَراءَةُ في نَقْضِ ما بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وبَيْنَ المُشْرِكِينَ مِنَ العَهْدِ الَّذِي كانُوا عَلَيْهِ فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَهم، ألّا يَصُدَّ عَنِ البَيْتِ أحَدٌ جاءَهُ، ولا يَخافُ أحَدٌ في الشَّهْرِ الحَرامِ. وكانَ ذَلِكَ عَهْدًا عامًا بَيْنَهُ وبَيْنَ النّاسِ مِن أهْلِ الشِّرْكِ. وكانَتْ بَيْنَ ذَلِكَ عُهُودٌ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وبَيْنَ قَبائِلَ مِنَ العَرَبِ خَصائِصُ إلى آجالٍ مُسَمّاةٍ، فَنَزَلَتْ فِيهِ وفِيمَن تَخَلَّفَ مِنَ المُنافِقِينَ عَنْهُ في (تَبُوكَ)، وفي قَوْلِ مَن قالَ مِنهم، فَكَشَفَ اللَّهُ سَرائِرَ أقْوامٍ كانُوا يَسْتَخِفُّونَ بِغَيْرِ ما يُظْهِرُونَ. (p-٣٠٦٦)وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وأوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَمّا رَجَعَ مِن غَزْوَةِ (تَبُوكَ)، وهم بِالحَجِّ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ المُشْرِكِينَ يَحْضُرُونَ عامَهم هَذا المَوْسِمَ عَلى عادَتِهِمْ في ذَلِكَ، وأنَّهم يَطُوفُونَ بِالبَيْتِ عُراةً فَكَرِهَ مُخالَطَتَهم، وبَعَثَ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أمِيرًا عَلى الحَجِّ تِلْكَ السَّنَةَ، لِيُقِيمَ لِلنّاسِ مَناسِكَهم، ويُعْلِمَ المُشْرِكُونَ ألّا يَحُجُّوا بَعْدَ عامِهِمْ هَذا، وأنْ يُنادِيَ بِالنّاسِ: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ فَلَمّا قَفَلَ، وأتْبَعَهُ بِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، لِكَوْنِهِ مُبَلِّغًا عَنْهُ ﷺ، ولِكَوْنِهِ عَصَبَةً لَهُ، كَما سَيَأْتِي. وقَوْلُهُ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب