(p-٦١٤٣)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الفَجْرِ
مَكِّيَّةٌ. وآيُها تِسْعَ عَشْرَةَ
رَوى النَّسائِيُّ عَنْ جابِرٍ قالَ: «صَلّى مُعاذٌ صَلاةً. فَجاءَ رَجُلٌ فَصَلّى مَعَهُ، فَطَوَّلَ. فَصَلّى في ناحِيَةِ المَسْجِدِ ثُمَّ انْصَرَفَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعاذًا، فَقالَ: مُنافِقٌ. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَألَ الفَتى فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ! حَيْثُ أُصَلِّي مَعَهُ يُطَوِّلُ عَلَيَّ. فانْصَرَفْتُ وصَلَّيْتُ في ناحِيَةِ المَسْجِدِ فَعَلَفْتُ ناقَةً، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أفَتّانًا يا مُعاذُ ؟ أيْنَ أنْتَ مِن (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى) (والشَّمْسِ وضُحاها) (والفَجْرِ) (واللَّيْلِ إذا يَغْشى)؟»
(p-٦١٤٤)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[ ١ - ٥ ] ﴿والفَجْرِ﴾ ﴿ولَيالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر: ٢] ﴿والشَّفْعِ والوَتْرِ﴾ [الفجر: ٣] ﴿واللَّيْلِ إذا يَسْرِ﴾ [الفجر: ٤] ﴿هَلْ في ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ [الفجر: ٥]
﴿والفَجْرِ﴾ أيِ: الصُّبْحِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والصُّبْحِ إذا تَنَفَّسَ﴾ [التكوير: ١٨] أقْسَمَ تَعالى بِآياتِهِ، لِما يَحْصُلُ بِهِ مِنِ انْقِضاءِ اللَّيْلِ وظُهُورِ الضَّوْءِ وانْتِشارِ النّاسِ وسائِرِ الحَيَواناتِ، لِطَلَبِ الأرْزاقِ؛ وذَلِكَ مُشاكِلٌ لِنُشُورِ المَوْتى مِن قُبُورِهِمْ. وفِيهِ عِبْرَةٌ لِمَن تَأمَّلَ.
﴿ولَيالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر: ٢] هي -عَلى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ - عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ؛ لِأنَّها أيّامُ الِاهْتِمامِ بِنُسُكِ الحَجِّ. وفي البُخارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَرْفُوعًا: ««ما مِن أيّامٍ العَمَلُ الصّالِحُ أحَبُّ إلى اللَّهِ فِيهِنَّ مِن هَذِهِ الأيّامِ»» يَعْنِي عَشْرَ ذِي الحِجَّةِ.
وحَكى ابْنُ جَرِيرٍ: أنَّهُ قِيلَ: عُنِيَ بِها عَشْرُ المُحَرَّمِ. والرّازِيُّ قَوْلًا أنَّها العَشْرُ الأواخِرُ مِن رَمَضانَ، لِما فِيهِ مِن لَيْلَةِ القَدْرِ، ولِما صَحَّ أنَّهُ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ««كانَ إذا دَخَلَ العَشْرُ الأخِيرُ (p-٦١٤٥)مِن رَمَضانَ شَدَّ مِئْزَرَهُ وأحْيى لَيْلَهُ وأيْقَظَ أهْلَهُ»» . وثَمَّةَ وجْهٌ آخَرُ في العَشْرِ. وهو أنَّها اللَّيالِي الَّتِي يَحْلَكُ فِيها اللَّيْلُ ويَشْتَدُّ ظَلامُهُ ويَغْشى الأُفُقَ سَوادُهُ، وتِلْكَ خَمْسٌ مِن أوائِلِهِ وخَمْسٌ مِن أواخِرِهِ. وإنَّ لَفْظَةَ "عَشْرٍ" بِمَثابَةِ قَوْلِهِ في السُّوَرِ الآتِيَةِ ﴿إذا يَغْشى﴾ [الليل: ١] ﴿إذا سَجى﴾ [الضحى: ٢] مِمّا يُبَيِّنُ وجْهَ العِبْرَةِ ويُجَلِّيها أتَمَّ الجَلاءِ، ولا بُعْدَ في هَذا المَعْنى، بَلْ فِيهِ تَوافُقٌ لِبَقِيَّةِ الآياتِ. وبِالجُمْلَةِ فَأوْضَحُ المُخَصَّصاتِ ما عَضَّدَهُ دَلِيلٌ أوْ أيَّدَتْهُ قَرِينَةٌ أوْ حاكى نَظائِرَهُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
﴿والشَّفْعِ والوَتْرِ﴾ [الفجر: ٣] يَعْنِي الخَلْقَ والخالِقَ. فالشَّفْعُ بِمَعْنى جَمِيعِ الخَلْقِ، لِلِازْدِواجِ فِيهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: ٤٩] قالَ مُجاهِدٌ: كُلُّ خَلْقِ اللَّهِ شَفْعٌ: السَّماءُ والأرْضُ، والبَرُّ والبَحْرُ، والجِنُّ والإنْسُ، والشَّمْسُ والقَمَرُ، والكُفْرُ والإيمانُ، والسَّعادَةُ والشَّقاوَةُ، والهُدى والضَّلالَةُ، واللَّيْلُ والنَّهارُ.
﴿والوَتْرِ﴾ [الفجر: ٣] هو اللَّهُ تَعالى لِأنَّهُ مِن أسْمائِهِ وهو بِمَعْنى الواحِدُ الأحَدُ. فَأقْسَمَ اللَّهُ بِذاتِهِ وخَلْقِهِ. وقِيلَ: المَعْنى بِالشَّفْعِ والوَتْرِ، جَمِيعُ المَوْجُوداتِ مِنَ الذَّواتِ والمَعانِي؛ لِأنَّها لا تَخْلُو مِن شَفْعٍ ووَتْرٍ.
قالَ القاضِي: ومَن فَسَّرَهُما بِالبُرُوجِ والسَّيّاراتِ أوْ شَفْعِ الصَّلَواتِ ووَتْرِها أوْ بِيَوْمَيِ النَّحْرِ وعَرَفَةَ، فَلَعَلَّهُ أفْرَدَ بِالذِّكْرِ مِن أنْواعِ المَدْلُولِ ما رَآهُ أظْهَرَ دَلالَةً عَلى التَّوْحِيدِ، أوْ مَدْخَلًا في الدِّينِ، أوْ مُناسَبَةً لِما قَبْلَهُما.
قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: والصَّوابُ مِنَ القَوْلِ في ذَلِكَ أنْ يُقالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى ذِكْرُهُ أقْسَمَ بِالشَّفْعِ والوَتْرِ، ولَمْ يُخَصِّصْ نَوْعًا مِنَ الشَّفْعِ ولا مِنَ الوَتْرِ، دُونَ نَوْعٍ، بِخَبَرٍ ولا عَقْلٍ، وكُلُّ شَفْعٍ ووَتْرٍ، فَهو مِمّا أقْسَمَ بِهِ. مِمّا قالَ أهْلُ التَّأْوِيلِ أنَّهُ داخِلٌ في قَسَمِهِ هَذا، لِعُمُومِ قَسَمِهِ بِذَلِكَ.
وقَدْ قُرِئَ: "الوَتْرِ" بِفَتْحِ الواوِ وكَسْرِها، وهُما لُغَتانِ.
(p-٦١٤٦)﴿واللَّيْلِ إذا يَسْرِ﴾ [الفجر: ٤] أيْ: إذا يَمْضِي، كَقَوْلِهِ: ﴿واللَّيْلِ إذْ أدْبَرَ﴾ [المدثر: ٣٣] والتَّقْيِيدُ بِذَلِكَ لِما في التَّعاقُبِ مِن قُوَّةِ الدَّلالَةِ عَلى كَمالِ القُدْرَةِ ووُفُورِ النِّعْمَةِ؛ فَفي اللَّيْلِ الرّاحَةُ الَّتِي هي مِن أعْظَمِ النِّعَمِ، وفي النَّهارِ المَكاسِبُ وغَيْرُها. وحَذْفُ الياءِ لِلتَّخْفِيفِ ولِتَتَوافَقَ رُؤُوسُ الآيِ. ومِنَ القُرّاءِ مَن حَذَفَها، أصْلًا ووَقْفًا. ومِنهم مَن خَصَّهُ بِأحَدِهِما، كَما فُصِّلَ في كُتُبِ الأداءِ.
﴿هَلْ في ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ [الفجر: ٥] قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أيْ: هَلْ فِيما أقْسَمْتُ بِهِ مِن هَذِهِ الأُمُورِ مُقْنِعٌ لِذِي حِجْرٍ، وإنَّما عُنِيَ بِذَلِكَ: أنَّ في هَذا القَسَمِ مُكْتَفًى لِمَن عَقِلَ عَنْ رَبِّهِ، مِمّا هو أغْلَظُ مِنهُ في الإقْسامِ.
وقالَ الرّازِيُّ: المُرادُ مِن الِاسْتِفْهامِ التَّأْكِيدُ، كَمَن ذَكَرَ حُجَّةً باهِرَةً ثُمَّ قالَ: هَلْ فِيما ذَكَرْتُهُ حُجَّةٌ؟ والمَعْنى أنَّ مَن كانَ ذا لُبٍّ عَلِمَ أنَّ ما أقْسَمَ اللَّهُ تَعالى بِهِ مِن هَذِهِ الأشْياءِ فِيهِ عَجائِبُ ودَلائِلُ عَلى التَّوْحِيدِ والرُّبُوبِيَّةِ. فَهو حَقِيقٌ بِأنْ يُقْسِمَ بِهِ لِدَلالَتِهِ عَلى خالِقِهِ، أيْ: عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٦] وإنَّما أُوثِرَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ هَضْمًا لِلْخَلْقِ، وإيذانًا بِظُهُورِ الأمْرِ. و(الحِجْرُ) العَقْلُ؛ لِأنَّهُ يَحْجُرُ صاحِبَهُ، أيْ: يَمْنَعُهُ مِنِ ارْتِكابِ ما لا يَنْبَغِي، والمُقْسَمُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ وهُوَ: (لَيُعَذَّبَنَّ) كَما يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى:
{"ayahs_start":1,"ayahs":["وَٱلۡفَجۡرِ","وَلَیَالٍ عَشۡرࣲ","وَٱلشَّفۡعِ وَٱلۡوَتۡرِ","وَٱلَّیۡلِ إِذَا یَسۡرِ","هَلۡ فِی ذَ ٰلِكَ قَسَمࣱ لِّذِی حِجۡرٍ"],"ayah":"وَٱلشَّفۡعِ وَٱلۡوَتۡرِ"}