الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ٢١ - ٢٦ ] ﴿كَلا إذا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ ﴿وجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: ٢٢] ﴿وجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ وأنّى لَهُ الذِّكْرى﴾ [الفجر: ٢٣] ﴿يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي﴾ [الفجر: ٢٤] ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أحَدٌ﴾ [الفجر: ٢٥] ﴿ولا يُوثِقُ وثاقَهُ أحَدٌ﴾ [الفجر: ٢٦] ﴿كَلا﴾ رَدْعٌ لَهم عَنْ ذَلِكَ، وإنْكارٌ لِفِعْلِهِمْ، وما بَعْدَهُ وعِيدٌ عَلَيْهِ بِالإخْبارِ عَنْ نَدَمِهِمْ وتَحَسُّرِهِمْ حِينَ لا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ، ﴿إذا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ أيْ: دَكًّا بَعْدَ دَكٍّ حَتّى عادَتْ هَباءً مَنثُورًا. قالَ الشِّهابُ: لَيْسَ الثّانِي تَأْكِيدًا، بَلِ التَّكْرِيرُ لِلدَّلالَةِ عَلى الِاسْتِيعابِ، كَقَرَأْتُ النَّحْوَ بابًا بابًا، وجاءَ القَوْمُ رَجُلًا رَجُلًا. (والدَّكُّ) قَرِيبٌ مِنَ الدَّقِّ، لَفْظًا ومَعْنًى. ﴿وجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: ٢٢] قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أيْ: وجاءَ الرَّبُّ، تَبارَكَ وتَعالى، لِفَصْلِ القَضاءِ، كَما يَشاءُ والمَلائِكَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ صُفُوفًا صُفُوفًا.. وسَبَقَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَلى ذَلِكَ وعَضَّدَهُ بِآثارٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وأبِي هُرَيْرَةَ (p-٦١٥٥)والضَّحّاكِ ««في نُزُولِهِ تَعالى مِنَ السَّماءِ يَوْمَئِذٍ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ، والمَلائِكَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وإشْراقِ الأرْضِ بِنُورِ رَبِّها»» . ومَذْهَبُ الخَلَفِ في ذَلِكَ مَعْرُوفٌ، مَن جَعَلَ الكَلامَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، لِلتَّهْوِيلِ، أيْ: جاءَ أمْرُهُ وقَضاؤُهُ. أوِ اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لِظُهُورِ آياتِ اقْتِدارِهِ وتَبَيُّنِ آثارِ قَهْرِهِ وسُلْطانِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُثِّلَتْ حالُهُ في ذَلِكَ، بِحالِ المَلِكِ إذا حَضَرَ بِنَفْسِهِ، ظَهَرَ بِحُضُورِهِ مِن آثارِ الهَيْبَةِ والسِّياسَةِ ما لا يَظْهَرُ بِحُضُورِ عَساكِرِهِ كُلِّها ووُزَرائِهِ وخَواصِّهِ عَنْ بَكْرَةِ أبِيهِمُ. انْتَهى. وكَأنَّ الخِلافَ بَيْنَ المَذْهَبَيْنِ لَفْظِيٌّ، إذْ مَبْنى مَذْهَبِ الخَلَفِ عَلى أنَّ الظّاهِرَ غَيْرُ مُرادٍ. ويَعْنُونَ بِالظّاهِرِ ما لِلْخَلْقِ مِمّا يَسْتَحِيلُ عَلى الخالِقِ، فَوَجَبَ تَأْوِيلُهُ. وأمّا السَّلَفُ فَيُنْكِرُونَ أنَّ مَعْنى الظّاهِرِ مِنها ما لِلْخَلْقِ، بَلْ هو ما يَتَبادَرُ إلى فَهْمِ المُؤْمِنِ الَّذِي يَعْلَمُ أنَّ ذاتَهُ تَعالى، كَما أنَّها لا تُشْبِهُ الذَّواتِ، فَكَذَلِكَ صِفاتٌ لا تُشْبِهُ الصِّفاتِ؛ لِأنَّها لا تُكَيَّفُ ولا تُعْلَمُ بِوَجْهٍ ما، فَهي حَقِيقَةُ النِّسْبَةِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ عَلى ما يَلِيقُ بِهِ، كالعِلْمِ والقُدْرَةِ، لا تَمْثِيلَ ولا تَعْطِيلَ. قالَ الإمامُ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: واعْلَمْ أنَّ مِنَ المُتَأخِّرِينَ مَن يَقُولُ: إنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ إقْرارُها عَلى ما جاءَتْ بِهِ، مَعَ اعْتِقادِ أنَّ (ظاهِرَها غَيْرُ مُرادٍ). وهَذا لَفْظٌ مُجْمَلٌ؛ فَإنَّ قَوْلَهُ ظاهِرُها غَيْرُ مُرادٍ، يَحْتَمِلُ أنَّهُ أرادَ بِالظّاهِرِ نُعُوتَ المَخْلُوقِينَ وصِفاتِ المُحْدَثِينَ، مِثْلَ أنْ يُرادَ بِكَوْنِ اللَّهِ قِبَلَ وجْهِ المُصَلِّي، أنَّهُ مُسْتَقِرٌّ في الحائِطِ الَّذِي يُصَلِّي إلَيْهِ، و: (إنَّ اللَّهَ مَعَنا)، ظاهِرُهُ أنَّهُ إلى جانِبِنا، ونَحْوَ ذَلِكَ. فَلا شَكَّ أنَّ هَذا غَيْرُ مُرادٍ، ومَن قالَ: إنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أنَّ هَذا غَيْرُ مُرادٍ، فَقَدْ أصابَ في المَعْنى، لَكِنْ أخْطَأ في إطْلاقِ القَوْلِ بِأنَّ هَذا ظاهِرُ الآياتِ والأحادِيثِ؛ فَإنَّ هَذا المَجالَ لَيْسَ هو الظّاهِرَ عَلى ما قَدْ بَيَّنّاهُ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، اللَّهُمَّ إلّا أنْ يَكُونَ هَذا المَعْنى المُمْتَنِعُ صارَ يَظْهَرُ لِبَعْضِ النّاسِ فَيَكُونُ القائِلُ لِذَلِكَ مُصِيبًا بِهَذا الِاعْتِبارِ، مَعْذُورًا في هَذا الإطْلاقِ، فَإنَّ الظُّهُورَ والبُطُونَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ أحْوالِ النّاسِ، وهو مِنَ الأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ. انْتَهى. (p-٦١٥٦)وقَدْ بَسَطَ رَحِمَهُ اللَّهُ الكَلامَ عَلى ذَلِكَ في (الرِّسالَةِ المَدَنِيَّةِ) وأوْضَحَ أنَّ الكَلامَ في الصِّفاتِ فَرْعٌ عَنِ الكَلامِ في الذّاتِ، يَحْتَذِي حَذْوَهُ ويَتْبَعُ فِيهِ مِثالَهُ. فَإذا كانَ إثْباتُ الذّاتِ إثْباتَ وُجُودٍ لا إثْباتَ كَيْفِيَّةٍ، فَكَذَلِكَ إثْباتُ الصِّفاتِ إثْباتُ وُجُودٍ لا إثْباتُ كَيْفِيَّةٍ. وقالَ رَحِمَهُ اللَّهُ في بَعْضِ فَتاوِيهِ: نَحْنُ نَقُولُ بِالمَجازِ الَّذِي قامَ دَلِيلُهُ، وبِالتَّأْوِيلِ الجارِي عَلى نَهْجِ السَّبِيلِ، ولَمْ يُوجَدْ في شَيْءٍ مِن كَلامِنا وكَلامِ أحَدٍ مِنّا، أنّا لا نَقُولُ بِالمَجازِ والتَّأْوِيلِ، واللَّهُ عِنْدَ لِسانِ كُلِّ قائِلٍ، ولَكِنْ نُنْكِرُ مِن ذَلِكَ ما خالَفَ الحَقَّ والصَّوابَ، وما فَتَحَ بِهِ البابَ، إلى هَدْمِ السُّنَّةِ والكِتابِ واللَّحاقِ بِمُحَرِّفَةِ أهْلِ الكِتابِ، والمَنصُوصُ عَنِ الإمامِ أحْمَدَ وجُمْهُورِ أصْحابِهِ، أنَّ القُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلى المَجازِ. ولَمْ يُعْرَفْ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الأئِمَّةِ نَصٌّ في هَذِهِ المَسْألَةِ. وقَدْ ذَهَبَ طائِفَةٌ مِنَ العُلَماءِ مِن أصْحابِهِ وغَيْرِهِمْ، كَأبِي بَكْرِ بْنِ أبِي داوُدَ، وأبِي الحَسَنِ الخَرْزِيِّ، وأبِي الفَضْلِ التَّمِيمِيِّ، وابْنِ حامِدٍ، فِيما أظُنُّ، وغَيْرِهِمْ، إلى إنْكارِ أنْ يَكُونَ في القُرْآنِ مَجازٌ؛ وإنَّما دَعاهم إلى ذَلِكَ ما رَأوْهُ مِن تَحْرِيفِ المُحَرِّفِينَ لِلْقُرْآنِ بِدَعْوى المَجازِ؛ فَقابَلُوا الضَّلالَ والفَسادَ، بِحَسْمِ المَوادِّ. وخِيارُ الأُمُورِ التَّوَسُّطُ والِاقْتِصادُ. انْتَهى. ﴿وجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ [الفجر: ٢٣] أيْ: أُظْهِرَتْ حَتّى رَآها الخَلْقُ وعَلِمَ الكافِرُ أنَّ مَصِيرَهُ إلَيْها. فَمَجِيئُها مُتَجَوِّزٌ بِهِ عَنْ إظْهارِها، كَما صَرَّحَ بِهِ آيَةُ ﴿وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِمَن يَرى﴾ [النازعات: ٣٦] ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ﴾ [الفجر: ٢٣] تَفْرِيطَهُ في الدُّنْيا في طاعَةِ اللَّهِ وفِيما يُقَرِّبُ إلَيْهِ مِن صالِحِ الأعْمالِ، ﴿وأنّى لَهُ الذِّكْرى﴾ [الفجر: ٢٣] أيْ: مَنفَعَتُها، فالمُرادُ بِتَذَكُّرِهِ نَدامَتُهُ عَلى تَفْرِيطِهِ في الصّالِحاتِ مِنَ الأعْمالِ الَّتِي تُورِثُهُ نَعِيمَ الأبَدِ، كَما فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي﴾ [الفجر: ٢٤] أيْ: أسْلَفْتُ مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ لِحَياتِي هَذِهِ، فاللّامُ لِلتَّعْلِيلِ، أوْ: قَدَّمْتُ وقْتَ حَياتِي، فاللّامُ بِمَعْنى وقْتِ، والحَياةُ هي الَّتِي في الدُّنْيا. ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أحَدٌ﴾ [الفجر: ٢٥] أيْ: لا يُعَذِّبُ كَعَذابِ اللَّهِ، أحَدٌ في الدُّنْيا. ﴿ولا يُوثِقُ وثاقَهُ أحَدٌ﴾ [الفجر: ٢٦] أيْ: لا يُوثَقُ كَوِثاقِهِ يَوْمَئِذٍ أحَدٌ في الدُّنْيا. وقُرِئَ "يُعَذَّبُ" و"يُوثَقُ" عَلى بِناءِ المَجْهُولِ. (p-٦١٥٧)قالَ السَّمِينُ: وعَذابٌ ووِثاقٌ في الآيَةِ، واقِعانِ مَوْقِعَ تَعْذِيبٍ وإيثاقٍ، والمَعْنى: لا يُعَذِّبُ أحَدٌ تَعْذِيبًا مِثْلَ تَعْذِيبِ اللَّهِ هَذا الكافِرَ، ولا يُوثِقُ أحَدٌ إيثاقًا مِثْلَ إيثاقِ اللَّهِ إيّاهُ بِالسَّلاسِلِ والأغْلالِ؛ فالوِثاقُ في الآيَةِ بِمَعْنى الإيثاقِ، كالعَطاءِ بِمَعْنى الإعْطاءِ. ثُمَّ أشارَ إلى ما يُقالُ لِمَن آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا، في مُقابَلَةِ مَن تَقَدَّمَ، بِقَوْلِهِ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب