الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ٥ - ١٠ ] ﴿فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ﴿خُلِقَ مِن ماءٍ دافِقٍ﴾ [الطارق: ٦] ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرائِبِ﴾ [الطارق: ٧] ﴿إنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ﴾ [الطارق: ٨] ﴿يَوْمَ تُبْلى السَّرائِرُ﴾ [الطارق: ٩] ﴿فَما لَهُ مِن قُوَّةٍ ولا ناصِرٍ﴾ [الطارق: ١٠] (p-٦١٢٣)﴿فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ﴿خُلِقَ مِن ماءٍ دافِقٍ﴾ [الطارق: ٦] جَوابٌ لِمُقَدَّرٍ. والفاءُ فَصِيحَةٌ أيْ: إنِ ارْتابَ مُرْتابٌ في كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الأنْفُسِ عَلَيْها رَقِيبٌ، فَلْيَنْظُرْ إلَخْ. قالَ الإمامُ: قَوْلُهُ: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ﴾ بِمَنزِلَةِ الدَّلِيلِ عَلى الدَّعْوى المُقْسَمِ عَلَيْها، زِيادَةٌ في التَّأْكِيدِ، ووَجْهُ ذَلِكَ أنَّ الماءَ الدّافِقَ مِنَ المائِعِ الَّذِي لا تَصْوِيرَ فِيهِ ولا تَقْدِيرَ لِلْآلاتِ الَّتِي يَظْهَرُ فِيها عَمَلُ الحَياةِ كالأعْضاءِ ونَحْوِها، ثُمَّ إنَّ هَذا السّائِلَ يَنْشَأُ خَلْقًا كامِلًا كالإنْسانِ مَمْلُوءًا بِالحَياةِ والعَقْلِ والإدْراكِ، قادِرًا عَلى القِيامِ بِخِلافَتِهِ في الأرْضِ؛ فَهَذا التَّصْوِيرُ والتَّقْدِيرُ وإنْشاءُ الأعْضاءِ والآلاتِ البَدَنِيَّةِ، وإيداعُ كُلِّ عُضْوٍ مِنَ القُوَّةِ ما بِهِ يَتَمَكَّنُ مِن تَأْدِيَةِ عَمَلِهِ في البَدَنِ، ثُمَّ مَنحِ قُوَّةِ الإدْراكِ والعَقْلِ، كُلُّ هَذا لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ بِدُونِ حافِظٍ يُراقِبُ ذَلِكَ كُلَّهُ ويُدَبِّرُهُ، وهو اللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ﴿فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ مِن قَبِيلِ التَّفْرِيعِ عَلى ما ثَبَتَ في القَضِيَّةِ الأُولى، كَأنَّهُ يَقُولُ: فَإذا عَرَفْتَ أنَّ كُلَّ نَفْسٍ عَلَيْها رَقِيبٌ، فَمِنَ الواجِبِ عَلى الإنْسانِ أنْ لا يُهْمِلَ نَفْسَهُ، وأنْ يَتَفَكَّرَ في خَلْقِهِ، وكَيْفَ كانَ ابْتِداءُ نَشْئِهِ لِيَصِلَ بِذَلِكَ إلى أنَّ الَّذِي أنْشَأهُ أوَّلَ مَرَّةٍ قادِرٌ عَلى أنْ يُعِيدَهُ؛ فَيَأْخُذُ نَفْسَهُ بِصالِحِ الأعْمالِ والأخْلاقِ، ويَعْدِلُ بِها عَنْ سُبُلِ الشَّرِّ؛ فَإنَّ عَيْنَ الرَّقِيبِ لا تَغْفُلُ عَنْها في حالٍ مِنَ الأحْوالِ. انْتَهى. و﴿دافِقٍ﴾ [الطارق: ٦] مِنَ الدَّفْقِ، وهو صَبٌّ فِيهِ دَفْعٌ. وقَدْ قِيلَ: إنَّهُ بِمَعْنى مَدْفُوقٍ، وإنَّ اسْمَ الفاعِلِ بِمَعْنى المَفْعُولِ. كَما أنَّ المَفْعُولَ يَكُونُ بِمَعْنى الفاعِلِ كَ: ﴿حِجابًا مَسْتُورًا﴾ [الإسراء: ٤٥] والصَّحِيحُ أنَّهُ بِمَعْنى النِّسْبَةِ كَ: لابِنٍ وتامِرٍ، أيْ: ذِي دَفْقٍ، وهو صادِقٌ عَلى الفاعِلِ والمَفْعُولِ. أوْ هو مَجازٌ في الإسْنادِ، فَأسْنَدَ إلى الماءِ ما لِصاحِبِهِ مُبالَغَةً. أوْ هو اسْتِعارَةٌ مَكْنِيَّةٌ أوْ مُصَرِّحَةٌ بِجَعْلِهِ دافِقًا؛ لِأنَّهُ لِتَتابُعِ قَطَراتِهِ كَأنَّهُ يَدْفُقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، أيْ: يَدْفَعُهُ. أوْ دافِقٌ بِمَعْنى مُنْصَبٍّ مِن غَيْرِ تَأْوِيلٍ، كَما نُقِلَ عَنِ اللَّيْثِ، أقْوالٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرائِبِ﴾ [الطارق: ٧] أيْ: مِن بَيْنِ صُلْبِ الرَّجُلِ ونَحْرِ المَرْأةِ. (p-٦١٢٤)قالَ الإمامُ: الصُّلْبُ هو كُلُّ عَظْمٍ مِنَ الظَّهْرِ فِيهِ فِقارٌ، ويُعَبَّرُ عَنْهُ في كَلامِ العامَّةِ بِسِلْسِلَةِ الظَّهْرِ. وقَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنى الظَّهْرِ نَفْسِهِ إطْلاقًا لِاسْمِ الجُزْءِ عَلى الكُلِّ. و"التَّرائِبِ" مَوْضِعُ القِلادَةِ مِنَ الصَّدْرِ، وكَنّى بِالصُّلْبِ عَنِ الرَّجُلِ وبِالتَّرائِبِ عَنِ المَرْأةِ، أيْ: أنَّ ذَلِكَ الماءَ الدّافِقَ إنَّما يَكُونُ مادَّةً لِخَلْقِ الإنْسانِ إذا خَرَجَ مِن بَيْنِ الرَّجُلِ والمَرْأةِ ووَقَعَ في المَحَلِّ الَّذِي جَرَتْ عادَةُ اللَّهِ أنْ يَخْلُقَهُ فِيهِ، وهو رَحِمُ المَرْأةِ؛ فَقَوْلُهُ: "يَخْرُجُ" إلَخْ وصْفٌ لا بُدَّ مِن ذِكْرِهِ لِبَيانِ أنَّ الإنْسانَ إنَّما خُلِقَ مِنَ الماءِ الدّافِقِ المُسْتَوْفِي شَرائِطَ صِحَّةِ الخَلْقِ مِنهُ. وقالَ بَعْضُ عُلَماءِ الطِّبِّ: التَّرائِبُ جَمْعُ تَرِيبَةٍ وهي عِظامُ الصَّدْرِ في الذَّكَرِ والأُنْثى، ويَغْلِبُ اسْتِعْمالُها في مَوْضِعِ القِلادَةِ مِنَ الأُنْثى، ومِنها قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎تَرائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ قالَ: ومَعْنى الآيَةِ أنَّ المَنِيَّ بِاعْتِبارِ أصْلِهِ وهو الدَّمُ، يَخْرُجُ مِن شَيْءٍ مُمْتَدٍّ بَيْنَ الصُّلْبِ -أيْ: فَقَراتِ الظَّهْرِ في الرَّجُلِ- والتَّرائِبُ أيْ: عِظامُ صَدْرِهِ، وذَلِكَ الشَّيْءُ المُمْتَدُّ بَيْنَهُما هو الأبْهَرُ (الأوُرْطِيُّ)، وهو أكْبَرُ شِرْيانٍ في الجِسْمِ يَخْرُجُ مِنَ القَلْبِ خَلْفَ التَّرائِبِ ويَمْتَدُّ إلى آخِرِ الصُّلْبِ تَقْرِيبًا، ومِنهُ تَخْرُجُ عِدَّةُ شَرايِينَ عَظِيمَةٌ، ومِنها شِرْيانانِ طَوِيلانِ يَخْرُجانِ مِنهُ (p-٦١٢٥)بَعْدَ شِرْيانَيِ الكُلْيَتَيْنِ، ويَنْزِلانِ إلى أسْفَلِ البَطْنِ حَتّى يَصِلا إلى الخُصْيَتَيْنِ، أوِ الشِّرْيانَيْنِ المَنَوِيَّيْنِ فَلِذا قالَ تَعالى عَنِ المَنِيِّ ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرائِبِ﴾ [الطارق: ٧] لِأنَّهُ يَخْرُجُ مِن مَكانٍ بَيْنَهُما وهو الأوُرْطِيُّ أوِ الأبْهَرُ. وهَذِهِ الآيَةُ عَلى هَذا التَّفْسِيرِ تُعْتَبَرُ مِن مُعْجِزاتِ القُرْآنِ العِلْمِيَّةِ وهَذا القَوْلُ أوْجَهُ وأدَقُّ مِنَ التَّفْسِيرِ الأوَّلِ. انْتَهى. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ﴾ [الطارق: ٨] أيِ: الحافِظُ سُبْحانَهُ، المُتَقَدِّمُ في قَوْلِهِ: ﴿لَمّا عَلَيْها حافِظٌ﴾ [الطارق: ٤] أوِ الخالِقُ المَفْهُومُ مِن خُلِقَ ﴿عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ﴾ [الطارق: ٨] أيْ: رَجْعِ الإنْسانِ وإعادَتِهِ في النَّشْأةِ الثّانِيَةِ لَقادِرٌ كَما قَدَرَ عَلى إبْدائِهِ في النَّشْأةِ الأُولى. ﴿يَوْمَ تُبْلى السَّرائِرُ﴾ [الطارق: ٩] أيْ: تَظْهَرُ وتَعْرِفُ خَفِيّاتِ الضَّمائِرِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: السَّرائِرُ ما أُسِرَّ في القُلُوبِ مِنَ العَقائِدِ والنِّيّاتِ وغَيْرِها، وما أُخْفِيَ مِنَ الأعْمالِ. وبَلاؤُها تَعَرُّفُها وتَصَفُّحُها، والتَّمْيِيزُ بَيْنَ ما طابَ مِنها وما خَبُثَ. ﴿فَما لَهُ مِن قُوَّةٍ ولا ناصِرٍ﴾ [الطارق: ١٠] أيْ: مِن قُوَّةٍ يَمْتَنِعُ مِن عَذابِ اللَّهِ وألِيمِ نَكالِهِ. ولا ناصِرَ يَنْصُرُهُ فَيَسْتَنْقِذُهُ مِمَّنْ نالَهُ بِمَكْرُوهٍ، يَعْنِي أنَّهُ فَقَدَ ما كانَ يَعْهَدُهُ في الدُّنْيا إذْ يَرْجِعُ إلى قُوَّةٍ بِنَفْسِهِ أوْ بِعَشِيرَتِهِ، يَمْتَنِعُ مِنهم مِمَّنْ أرادَهُ بِسُوءٍ. وناصِرٌ حَلِيفٌ يَنْصُرُهُ عَلى مَن ظَلَمَهُ واضْطَهَدَهُ. ولَمْ يَبْقَ لَهُ إلّا انْتِظارُ الجَزاءِ عَلى ما قَدَّمَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب