الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١٧ - ٢٢ ] ﴿هَلْ أتاكَ حَدِيثُ الجُنُودِ﴾ ﴿فِرْعَوْنَ وثَمُودَ﴾ [البروج: ١٨] ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا في تَكْذِيبٍ﴾ [البروج: ١٩] ﴿واللَّهُ مِن ورائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ [البروج: ٢٠] ﴿بَلْ هو قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ [البروج: ٢١] ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج: ٢٢] ﴿هَلْ أتاكَ حَدِيثُ الجُنُودِ﴾ أيِ: الَّذِينَ تَجَنَّدُوا عَلى الرُّسُلِ بِأذاهم. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أيْ: قَدْ أتاكَ ذَلِكَ وعَلِمْتَهُ، فاصْبِرْ لِأذى قَوْمِكَ وإيّاكَ لِما نالُوكَ بِهِ مِن مَكْرُوهٍ، كَما صَبَرَ الَّذِينَ تَجَنَّدَ هَؤُلاءِ الجُنُودُ عَلَيْهِمْ مِن رُسُلِي، ولا يُثْنِيَنَّكَ عَنْ تَبْلِيغِهِمْ رِسالَتِي كَما لَمْ يُثْنِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إلى هَؤُلاءِ؛ فَإنَّ عاقِبَةَ مَن لَمْ يَصْدُقْكَ ويُؤْمِن بِكَ مِنهم إلى عَطَبٍ وهَلاكٍ، كالَّذِي كانَ مِن هَؤُلاءِ الجُنُودِ، فالجُمْلَةُ -كَما قالَ أبُو السُّعُودِ- اسْتِئْنافٌ مُقَرِّرٌ لِشِدَّةِ بَطْشِهِ تَعالى (p-٦١١٩)بِالظَّلَمَةِ العُصاةِ، والكَفَرَةِ العُتاةِ وكَوْنُهُ (فَعّالًا لِما يُرِيدُ) مُتَضَمِّنٌ لِتَسْلِيَتِهِ ﷺ بِالإشْعارِ بِأنَّهُ سَيُصِيبُ قَوْمَهُ ما أصابَ الجُنُودَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِرْعَوْنَ وثَمُودَ﴾ [البروج: ١٨] بَدَلٌ مِنَ "الجُنُودِ" لِأنَّ المُرادَ بِفِرْعَوْنَ هو وقَوْمُهُ، واكْتَفى بِذِكْرِهِ عَنْهم لِأنَّهم أتْباعُهُ. والمُرادُ بِحَدِيثِهِمْ ما صَدَرَ عَنْهم مِنَ التَّمادِي في الكُفْرِ والضَّلالِ وما حَلَّ بِهِمْ مِنَ العَذابِ والنَّكالِ. ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا في تَكْذِيبٍ﴾ [البروج: ١٩] أيْ: لِلْحَقِّ والوَحْيِ، مَعَ وُضُوحِ آياتِهِ وظُهُورِ بَيِّناتِهِ؛ عِنادًا وبَغْيًا. والإضْرابُ انْتِقالِيٌّ لِلْأشَدِّ، كَأنَّهُ قِيلَ: لَيْسَ حالُ فِرْعَوْنَ وثَمُودَ بِأعْجَبِ مِن حالِ قَوْمِكَ، فَإنَّهم مَعَ عِلْمِهِمْ بِما حَلَّ بِهِمْ، لَمْ يَنْزَجِرُوا، وفي جَعْلِهِمْ ﴿فِي تَكْذِيبٍ﴾ [البروج: ١٩] إشارَةٌ إلى تَمَكُّنِهِ مِن أنْفُسِهِمْ، وأنَّهُ لِشِدَّتِهِ أحاطَ بِهِمْ إحاطَةَ الظَّرْفِ بِمَظْرُوفِهِ أوِ البَحْرِ بِالغَرِيقِ فِيهِ، مَعَ ما في تَنْكِيرِهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى تَعْظِيمِهِ وتَهْوِيلِهِ. ﴿واللَّهُ مِن ورائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ [البروج: ٢٠] أيْ: مُحْصٍ عَلَيْهِمْ أعْمالَهم لا يَخْفى عَلَيْهِ مِنها شَيْءٌ، وهو مُجازِيهِمْ عَلى جَمِيعِها. فاللَّفْظُ كِنايَةٌ عَمّا ذَكَرَ. أوِ المُرادُ وصْفُ اقْتِدارِهِ عَلَيْهِمْ وأنَّهم في قَبْضَتِهِ وحَوْزَتِهِ، كالمُحاطِ إذا أُحِيطَ بِهِ مِن ورائِهِ، فَسَدَّ عَلَيْهِ مَسْلَكَهُ فَلا يَجِدُ مَهْرَبًا. فَفِيهِ اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ. قالَ الشِّهابُ: وفِيهِ تَعْرِيضٌ تَوْبِيخِيٌّ لَهم بِأنَّهم نَبَذُوا اللَّهَ وراءَ ظُهُورِهِمْ، وأقْبَلُوا عَلى الهَوى والشَّهَواتِ بِوُجُوهِ انْهِماكِهِمْ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ هو قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ [البروج: ٢١] أيْ: سامٍ شَرِيفٌ لا يُماثَلُ في أُسْلُوبِهِ وهِدايَتِهِ. ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج: ٢٢] قُرِئَ بِالرَّفْعِ صِفَةٌ لِـ "قُرْآنٌ"، والجَرِّ صِفَةُ اللَّوْحِ. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: والمَعْنى عَلى الأُولى مَحْفُوظٌ مِنَ التَّغْيِيرِ والتَّبْدِيلِ في لَوْحٍ، وعَلى الثّانِيَةِ مَحْفُوظٌ مِنَ الزِّيادَةِ فِيهِ والنُّقْصانِ مِنهُ، عَمّا أثْبَتَهُ اللَّهُ فِيهِ. و"بَلْ" إضْرابٌ عَنْ شِدَّةِ تَكْذِيبِهِمْ وعَدَمِ كَفِّهِمْ عَنْهُ، إلى وصْفِ القُرْآنِ بِما ذُكِرَ، لِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ لا رَيْبَ فِيهِ ولا يَضُرُّهُ تَكْذِيبُ هَؤُلاءِ؛ فَإنَّهُ تَعالى تَوَلّى حِفْظَهُ وظُهُورَهُ أبَدَ الآبِدِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب