الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ٢٩ - ٣١ ] ﴿إنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ ﴿وإذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ﴾ [المطففين: ٣٠] ﴿وإذا انْقَلَبُوا إلى أهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ﴾ [المطففين: ٣١] ﴿إنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا﴾ يَعْنِي كُفّارَ قُرَيْشٍ ﴿كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ أيِ: اسْتِهْزاءً بِهِمْ لِإيمانِهِمْ بِاللَّهِ وحْدَهُ وبِما أوْحاهُ إلى رَسُولِهِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، ونَبْذِهِمْ ما ألْفَوْا عَلَيْهِ آباءَهم. قالَ الإمامُ: الَّذِينَ أجْرَمُوا هُمُ المُعْتَدُونَ الأئِمَّةُ الَّذِينَ شُرِيَتْ نُفُوسُهم في الشَّرِّ، وصُمَّتْ آذانُهم عَنْ سَماعِ دَعْوَةِ الحَقِّ: هَؤُلاءِ كانُوا يَضْحَكُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا؛ ذَلِكَ لِأنَّهُ حِينَ رَحِمَ اللَّهُ هَذا العالَمَ بِبَعْثَةِ النَّبِيِّ ﷺ كانَ كِبارُ القَوْمِ وعُرَفاؤُهم عَلى رَأْيِ الدَّهْماءِ وفي ضَلالِ العامَّةِ، وكانَتْ دَعْوَةُ الحَقِّ خافِتَةً لا يَرْتَفِعُ بِها إلّا صَوْتُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ يَهْمِسُ بِها بَعْضُ مَن يَلِيهِ، ويُجِيبُ دَعْوَتَهُ مِنَ الضُّعَفاءِ الَّذِينَ لَمْ تَطْمِسْ أهْواؤُهم سَبِيلَ الحَقِّ إلى قُلُوبِهِمْ فَيُسِرُّ بِها إلى مَن يَرْجُوهُ، ولا يَسْتَطِيعُ الجَهْرَ بِها لِمَن يَخافُهُ. ومِن شَأْنِ القَوِيِّ المُسْتَعِزِّ بِالقُدْرَةِ والكَثْرَةِ أنْ يَضْحَكَ مِمَّنْ يُخالِفُهُ في المَنزَعِ ويَدْعُوهُ إلى غَيْرِ ما يَعْرِفُهُ، وهو أضْعَفُ مِنهُ قُوَّةً وأقَلُّ عَدَدًا، كَذَلِكَ كانَ شَأْنُ جَماعَةٍ مِن قُرَيْشٍ، كَأبِي جَهْلٍ والوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، والعاصِ بْنِ وائِلٍ وأشْياعِهِمْ، وهَكَذا يَكُونُ شَأْنُ أمْثالِهِمْ في كُلِّ زَمانٍ مَتى عَمَّتِ البِدَعُ، وتَفَرَّقَتِ الشِّيَعُ وخَفِيَ طَرِيقُ الحَقِّ بَيْنَ طُرُقِ الباطِلِ، وجُهِلَ مَعْنى الدِّينِ، وأُزْهِقَتْ رُوحُهُ مِن عِباراتِهِ وأسالِيبِهِ، ولَمْ يَبْقَ إلّا ظَواهِرُ (p-٦١٠٣)لا تَطابِقُها البَواطِنُ، وحَرَكاتُ أرْكانٍ لا تُشايِعُها السَّرائِرُ، وتَحَكَّمَتِ الشَّهَواتُ فَلَمْ تَبْقَ رَغْبَةٌ تَحْدُو بِالنّاسِ إلى العَمَلِ، إلّا ما تَعَلَّقَ بِالطَّعامِ والشَّرابِ والزِّينَةِ والرِّياشِ والمَناصِبِ والألْقابِ، وتَشَبَّثَتِ الهِمَمُ بِالمَجْدِ الكاذِبِ، وأحَبَّ كُلُّ واحِدٍ أنْ يُحْمَدَ بِما لَمْ يَفْعَلْ، وذَهَبَ النّاقِصُ يَسْتَكْمِلُ ما نَقَصَ مِنهُ بِتَنْقِيصِ الكامِلِ، واسْتَوى في ذَلِكَ الكَبِيرُ والصَّغِيرُ، والأمِيرُ والمَأْمُورُ، والجاهِلُ والمُلَقَّبُ بِلَقَبِ العالِمِ. إذا صارَ النّاسُ إلى هَذِهِ الحالِ، ضَعُفَ صَوْتُ الحَقِّ وازْدَرى السّامِعُونَ مِنهم بِالدّاعِي إلَيْهِ، وانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ نَصُّ الآيَةِ الكَرِيمَةِ. انْتَهى. ﴿وإذا مَرُّوا﴾ [المطففين: ٣٠] أيِ: الَّذِينَ آمَنُوا ﴿بِهِمْ يَتَغامَزُونَ﴾ [المطففين: ٣٠] أيْ: يَغْمِزُ بَعْضُهم بَعْضًا اسْتِهْزاءً وسُخْرِيَةً. والغَمْزُ: الإشارَةُ بِالجَفْنِ والحاجِبِ. قالَ السُّيُوطِيُّ: وفي هَذا دَلالَةٌ عَلى تَحْرِيمِ السُّخْرِيَةِ بِالمُؤْمِنِينَ، والضَّحِكِ مِنهُمْ، والتَّغامُزِ عَلَيْهِمْ ﴿وإذا انْقَلَبُوا﴾ [المطففين: ٣١] أيْ: هَؤُلاءِ المُجْرِمُونَ مِن مَجالِسِهِمْ ﴿إلى أهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ﴾ [المطففين: ٣١] أيْ: مُتَلَذِّذِينَ بِالسُّخْرِيَةِ وحِكايَةِ ما يَعِيبُونَ بِهِ أهْلَ الإيمانِ، أوْ بِما هم فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ والطُّغْيانِ والتَّنَعُّمِ بِالدُّنْيا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب