الباحث القرآني

(p-٦٠٩١)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ المُطَفِّفِينَ قالَ المَهايِمِيُّ: سُمِّيَتْ بِهِ دَلالَةً عَلى أنَّ مَن أخَلَّ بِأدْنى حُقُوقِ الخَلْقِ، اسْتَحَقَّ أعْظَمَ ويْلٍ مِنَ الحَقِّ. فَكَيْفَ مَن أخَلَّ بِأعْظَمِ حُقُوقِ الحَقِّ، مِنَ الإيمانِ بِهِ وبِآياتِهِ ورُسُلِهِ؟ وهي مَكِّيَّةٌ عَلى الأظْهَرِ. فَإنَّ سِياقَها يُؤَيِّدُ أنَّها كَأخَواتِها اللّائِي نَزَلْنَ بِمَكَّةَ، لا سِيَّما خاتِمَتَها، فَإنَّها صِفاتُ المُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ كانُوا بِمَكَّةَ. وحَمْلُها عَلى المُنافِقِينَ بِالمَدِينَةِ بَعِيدٌ، إذْ لَمْ يَبْلُغْ بِهِمُ الحالُ ذَلِكَ. وأمّا ما رَواهُ النَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ -كَما في ابْنِ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، «لَمّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ المَدِينَةَ كانُوا مِن أخْبَثِ النّاسِ كَيْلًا، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿ويْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ فَأحْسَنُوا الكَيْلَ-» فَقَدْ ذَكَرْنا مِرارًا أنَّ مَعْنى الإنْزالِ، في إطْلاقِ السَّلَفِ، لا يَكُونُ مَقْصُورًا عَلى أنَّ كَذا سَبَبُ النُّزُولِ. بَلْ إنَّ كَذا مِمّا نَزَلَ فِيهِ ذَلِكَ. كَأنَّ أهْلَ المَدِينَةِ تُلِيَ عَلَيْهِمْ ما سَبَقَ إنْزالُهُ في مَكَّةَ. وقِيلَ لَهُمْ: أنْزَلَ اللَّهُ حَظْرَ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ والوَعِيدَ فِيهِ. فَأقْلَعُوا. وهَذا ظاهِرٌ لِمَن لَهُ أُنْسٌ بِعِلْمِ الآثارِ ومَلَكَةٌ فِيهِ. ومِنهُ يُعْلَمُ أنَّ قَوْلَ بَعْضِهِمْ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ إلّا قِصَّةَ التَّطْفِيفِ. وقَوْلٌ آخَرُ: إنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ المَكِّيِّ والمَدَنِيِّ مِنهُ آياتٌ مُسْتَثْناةٌ- مَنشَؤُهُ الحَيْرَةُ في المُطابَقَةِ بَيْنَ ظاهِرِ ما يَتَبادَرُ مِنَ المَأْثُورِ في سَبَبِ النُّزُولِ، وبَيْنَ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّياقُ مِن خِلافِهِ. وبِالوُقُوفِ عَلى عُرْفِ السَّلَفِ يَزُولُ الإشْكالُ ويَتَّضِحُ الحالُ. (p-٦٠٩٢)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١ - ٣ ] ﴿ويْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ إذا اكْتالُوا عَلى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ [المطففين: ٢] ﴿وإذا كالُوهم أوْ وزَنُوهم يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: ٣] ﴿ويْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ أيْ: هَلاكٌ لَهم. قالَ الأصْفَهانِيُّ: ومَن قالَ: "ويْلٌ" وادٍ في جَهَنَّمَ فَإنَّهُ لَمْ يَرِدْ أنَّ (ويْلًا) في اللُّغَةِ هو مَوْضُوعٌ لِهَذا، وإنَّما أرادَ: مَن قالَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ فِيهِ، فَقَدِ اسْتَحَقَّ مَقَرًّا مِنَ النّارِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى المُطَفِّفِينَ بِقَوْلِهِ ﴿الَّذِينَ إذا اكْتالُوا عَلى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ [المطففين: ٢] أيْ: إذا أخَذُوا الكَيْلَ مِنَ النّاسِ يَأْخُذُونَهُ وافِيًا وزائِدًا عَلى إيهامِ أنَّ بِذَلِكَ تَمامَ الكَيْلِ، وإذا فَعَلُوا ذَلِكَ في الكَيْلِ الَّذِي هو أجَلُّ مِقْدارًا، فَفي الوَزْنِ بِطَرِيقِ الأوْلى. وإيثارُ (عَلى) عَلى (مِن) لِلْإشارَةِ إلى ما فِيهِ عَمَلُهم مِنَ المُنْكَرِ مِن الِاسْتِعْلاءِ والقَهْرِ، شَأْنُ المُتَغَلِّبِ المُتَحامِلِ المُتَسَلِّطِ الَّذِي لا يَسْتَبْرِئُ لِدِينِهِ وذِمَّتِهِ: ﴿وإذا كالُوهم أوْ وزَنُوهم يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: ٣] أيْ: كالُوا لِلنّاسِ أوْ وزَنُوا لَهُمْ، يَنْقُصُونَهم حَقَّهُمُ الواجِبَ لَهُمْ، وهو الوَفاءُ والتَّمامُ، فَفِيهِما حَذْفٌ وإيصالٌ. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مِن لُغَةِ أهْلِ الحِجازِ أنْ يَقُولُوا: وزَنْتُكَ حَقَّكَ، وكِلْتُكَ طَعامَكَ، بِمَعْنى وزَنْتُ لَكَ وكِلْتُ لَكَ. تَنْبِيهٌ: فِي (الإكْلِيلِ): في الآيَةِ ذَمُّ التَّطْفِيفِ والخِيانَةِ في الكَيْلِ والوَزْنِ، أيْ: لِأنَّهُ مِنَ المُنْكَرِ (p-٦٠٩٣)فَهُوَ مِنَ المَحْظُوراتِ أشَدُّ الحَظْرِ، لِما فِيهِ مِن أكْلِ أمْوالِ النّاسِ بِالباطِلِ في الأخْذِ والدَّفْعِ، ولَوْ في القَلِيلِ؛ لِأنَّ مَن دَنُؤَتْ نَفْسُهُ إلى القَلِيلِ دَلَّ عَلى فَسادِ طَوِيَّتِهِ وخُبْثِ مَلَكَتِهِ، وأنَّهُ لا يُقْعِدُهُ عَنِ التَّوَثُّبِ إلى الكَثِيرِ إلّا عَجْزٌ أوْ رِقابَةٌ. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وأصْلُ التَّطْفِيفِ مِنَ الشَّيْءِ الطَّفِيفِ، وهو القَلِيلُ النَّزْرُ. والمُطَفِّفُ: المُقَلِّلُ حَقَّ صاحِبِ الحَقِّ عَمّا لَهُ مِنَ الوَفاءِ والتَّمامِ في كَيْلٍ أوْ وزْنٍ. ومِنهُ قِيلَ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ يَكُونُونَ سَواءً في حِسْبَةٍ أوْ عَدَدٍ: هم سَواءٌ كَطَفِّ الصّاعِ، يَعْنِي بِذَلِكَ كَقُرْبِ المُمْتَلِئِ مِنهُ ناقِصٍ عَنِ المَلْءِ. وقَدْ أمَرَ تَعالى بِالوَفاءِ في الكَيْلِ والمِيزانِ. فَقالَ تَعالى في عِدَّةِ آياتٍ: ﴿وأوْفُوا الكَيْلَ إذا كِلْتُمْ وزِنُوا بِالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلا﴾ [الإسراء: ٣٥] وقالَ تَعالى: ﴿وأقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ ولا تُخْسِرُوا المِيزانَ﴾ [الرحمن: ٩] وقَصَّ تَعالى عَلَيْنا أنَّهُ أهْلَكَ قَوْمَ شُعَيْبٍ ودَمَّرَهم عَلى ما كانُوا يَبْخَسُونَ النّاسَ في المِيزانِ والمِكْيالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب