الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[ ٦ - ٨ ] ﴿يا أيُّها الإنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ﴾ ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ﴾ [الإنفطار: ٧] ﴿فِي أيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ﴾ [الإنفطار: ٨]
﴿يا أيُّها الإنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ﴾ أيْ: أيُّ شَيْءٍ خَدَعَكَ وجَرَّأكَ عَلى عِصْيانِهِ والِانْحِرافِ عَنْ فِطْرَتِهِ؛ وذُكِرَ "الكَرِيمِ" لِلْمُبالَغَةِ في المَنعِ عَنْ الِاغْتِرارِ؛ لِأنَّهُ بِمَعْنى العَظِيمِ الجَلِيلِ الكامِلِ في نُعُوتِهِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ فَجَدِيرٌ بِأنْ يُرْهَبَ عِقابُهُ ويُخْشى انْتِقامُهُ وعَذابُهُ، لا سِيَّما ولَهُ مِنَ النِّعَمِ العَظِيمَةِ والقُدْرَةِ الكامِلَةِ ما يَزِيدُ في الرَّهْبَةِ، كَما قالَ: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ﴾ [الإنفطار: ٧] أيْ: جَعَلَكَ سَوِيًّا مُتَساوِيَ الأعْضاءِ والقُوَّةِ. وأصْلُ التَّسْوِيَةِ جَعْلُ الأشْياءِ عَلى سَواءٍ؛ فَتَكُونُ عَلى وفْقِ الحِكْمَةِ ومُقْتَضاها بِإعْطائِها ما تَتِمُّ بِهِ ﴿فَعَدَلَكَ﴾ [الإنفطار: ٧] أيْ: جَعَلَكَ مُعْتَدِلًا مُتَناسِبَ الخَلْقِ، مُعْتَدِلَ القامَةِ، لا كالبَهائِمِ. وقُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وهو بِمَعْنى المُشَدَّدِ، أوْ بِمَعْنى صَرَفَكَ عَنْ خِلْقَةِ غَيْرِكَ إلى خِلْقَةٍ حَسَنَةٍ، مِزْتَ بِها عَلى سائِرِ الحَيَوانِ ﴿فِي أيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ﴾ [الإنفطار: ٨] أيْ: في أيِّ صُورَةٍ شاءَها رَكَّبَكَ عَلَيْها. يَعْنِي أنَّهُ رَكَّبَكَ في صُورَةٍ هي أبْدَعُ الصُّوَرِ وأعْجَبُها. فَـ "أيِّ" اسْتِفْهامِيَّةٌ، والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "رَكَّبَكَ"، و"ما" زائِدَةٌ (p-٦٠٨٦)وجُمْلَةُ "شاءَ" صِفَةُ "صُورَةٍ" والقَصْدُ أنَّ ما خَلَقَ هَذا الخَلْقَ البَدِيعَ وسَوّاهُ وعَدَلَهُ بِقُدْرَتِهِ وتَقْدِيرِهِ، حَتّى أحْكَمَ صُورَتَهُ في ذَلِكَ التَّرْكِيبِ، لَجَدِيرٌ بِأنْ يُتَّقى بَأْسُهُ ويُحْذَرَ بَطْشُهُ ويُرْهَبَ أشَدَّ تَرْهِيبٍ.
تَنْبِيهٌ:
قالَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ في (الجَوابِ الكافِي) في بَحْثِ كَوْنِ القُرْآنِ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ صَرِيحًا في تَرْتِيبِ الجَزاءِ بِالخَيْرِ والشَّرِّ، والأحْكامِ الكَوْنِيَّةِ، عَلى الأسْبابِ ما تَتِمَّتُهُ: فَلْيَحْذَرْ مُغالَطَةَ نَفْسِهِ عَلى هَذِهِ الأسْبابِ، وهَذا مِن أهَمِّ الأُمُورِ فَإنَّ العَبْدَ يَعْرِفُ أنَّ المَعْصِيَةَ والغَفْلَةَ مِنَ الأسْبابِ المُضِرَّةِ لَهُ في دُنْياهُ وآخِرَتِهِ، ولا بُدَّ. ولَكِنْ تُغالِطُهُ نَفْسُهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ مِن أنْواعِ المُغْتَرِّينَ مَن يَغْتَرُّ بِفَهْمٍ فاسِدٍ فَهِمَهُ هو وأضْرابُهُ مِن نُصُوصِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ فاتَّكَلُوا عَلَيْهِ. قالَ: كاغْتِرارِ بَعْضِ الجُهّالِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الإنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ﴾ فَيَقُولُ: كَرَّمَهُ. وقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ لَقَّنَ المُغْتَرَّ حُجَّتَهُ. وهَذا جَهْلٌ قَبِيحٌ، وإنَّما غَرَّهُ بِرَبِّهِ الغُرُورُ، وهو الشَّيْطانُ ونَفْسُهُ الأمّارَةُ بِالسُّوءِ وجَهْلُهُ وهَواهُ؛ وأتى سُبْحانَهُ بِلَفْظِ "الكَرِيمِ" وهو السَّيِّدُ العَظِيمُ المُطاعُ الَّذِي لا يَنْبَغِي الِاغْتِرارُ بِهِ ولا إهْمالَ لِحَقِّهِ؛ ووَضَعَ هَذا المُغْتَرُّ (الغُرُورَ) في غَيْرِ مَوْضِعِهِ، واغْتَرَّ بِمَن لا يَنْبَغِي الِاغْتِرارُ بِهِ. انْتَهى.
وفِي مِثْلِ هَذا الغُرُورِ يَجِبُ -كَما قالَ الغَزالِيُّ- عَلى العَبْدِ أنْ يَسْتَعْمِلَ الخَوْفَ، فَيُخَوِّفُ نَفْسَهُ بِغَضَبِ اللَّهِ وعَظِيمِ عِقابِهِ، ويَقُولُ: إنَّهُ مَعَ أنَّهُ غافِرُ الذَّنْبِ وقابِلُ التَّوْبِ، شَدِيدُ العِقابِ. و: إنَّهُ مَعَ أنَّهُ كَرِيمٌ، خَلَّدَ الكُفّارَ في النّارِ أبَدَ الآبادِ. مَعَ أنَّهُ لَمْ يَضُرَّهُ كُفْرُهُمْ، بَلْ سَلَّطَ العَذابَ والمِحَنَ والأمْراضَ والعِلَلَ والفَقْرَ والجُوعَ عَلى جُمْلَةٍ مِن عِبادِهِ في الدُّنْيا، وهو قادِرٌ عَلى إزالَتِها، فَمَن هَذِهِ سُنَّتُهُ في عِبادِهِ -وقَدْ خَوَّفَنِي عِقابُهُ- فَكَيْفَ لا أخافُهُ؟ وكَيْفَ أغْتَرُّ بِهِ؟
فالخَوْفُ والرَّجاءُ قائِدانِ وسائِقانِ يَبْعَثانِ النّاسَ عَلى العَمَلِ، فَما لا يَبْعَثُ عَلى العَمَلِ فَهو تَمَنُّنٌ وغُرُورٌ، (p-٦٠٨٧)ورَجاءُ كافَّةِ الخَلْقِ هو سَبَبُ فُتُورِهِمْ، وسَبَبُ إقْبالِهِمْ عَلى الدُّنْيا، وسَبَبُ إعْراضِهِمْ عَنِ اللَّهِ تَعالى، وإهْمالِهِمُ السَّعْيَ لِلْآخِرَةِ، فَذَلِكَ غُرُورٌ. وقَدْ رُوِيَ أنَّ الغُرُورَ سَيَغْلِبُ عَلى قُلُوبِ آخِرِ هَذِهِ الأُمَّةِ. وقَدْ كانَ ذَلِكَ، فَقَدْ كانَ النّاسُ في الإعْصارِ الأوَّلِ يُواظِبُونَ عَلى العِباداتِ، و﴿يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ أنَّهم إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٠] يَخافُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ، وهم طُولَ اللَّيْلِ والنَّهارِ في طاعَةِ اللَّهِ، يُبالِغُونَ في التَّقْوى والحَذَرِ مِنَ الشُّبُهاتِ والشَّهَواتِ، ويَبْكُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ في الخَلَواتِ، وأمّا الآنَ فَتَرى الخَلْقَ آمِنِينَ مَسْرُورِينَ مُطْمَئِنِّينَ غَيْرَ خائِفِينَ، مَعَ إكْبابِهِمْ عَلى المَعاصِي وانْهِماكِهِمْ في الدُّنْيا وإعْراضِهِمْ عَنِ اللَّهِ تَعالى، زاعِمِينَ أنَّهم واثِقُونَ بِكَرَمِ اللَّهِ تَعالى وفَضْلِهِ، راجُونَ لِعَفْوِهِ ومَغْفِرَتِهِ، كَأنَّهم يَزْعُمُونَ أنَّهم عَرَفُوا مِن فَضْلِهِ وكَرَمِهِ ما لَمْ يَعْرِفْهُ الأنْبِياءُ والصَّحابَةُ والسَّلَفُ الصّالِحُونَ، فَإنْ كانَ هَذا الأمْرُ يُدْرَكُ بِالمُنى، ويُنالُ بِالهُوَيْنا، فَعَلى ماذا كانَ بُكاءُ أُولَئِكَ وخَوْفُهم وحُزْنُهُمْ؟!
ثُمَّ قالَ: والقُرْآنُ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ تَحْذِيرٌ وتَخْوِيفٌ، ولا يَتَفَكَّرُ فِيهِ مُتَفَكِّرٌ إلّا ويَطُولُ حُزْنُهُ ويَعْظُمُ خَوْفُهُ، وإنْ كانَ مُؤْمِنًا بِما فِيهِ. وتَرى النّاسَ يَهْذُونَهُ هَذًّا: يُخْرِجُونَ الحُرُوفَ مِن مَخارِجِها ويَتَناظَرُونَ عَلى خَفْضِها ورَفْعِها ونَصْبِها، وكَأنَّهم يَقْرَؤُونَ شِعْرًا مِن أشْعارِ العَرَبِ، لا يُهِمُّهم الِالتِفاتُ إلى مَعانِيهِ، والعَمَلُ بِما فِيهِ، وهَلْ في العالَمِ غُرُورٌ يَزِيدُ عَلى هَذا؟ انْتَهى.
{"ayahs_start":6,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡإِنسَـٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِیمِ","ٱلَّذِی خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ","فِیۤ أَیِّ صُورَةࣲ مَّا شَاۤءَ رَكَّبَكَ"],"ayah":"فِیۤ أَیِّ صُورَةࣲ مَّا شَاۤءَ رَكَّبَكَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق