الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[ ٣ - ١٠ ] ﴿وما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى﴾ ﴿أوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى﴾ [عبس: ٤] ﴿أمّا مَنِ اسْتَغْنى﴾ [عبس: ٥] ﴿فَأنْتَ لَهُ تَصَدّى﴾ [عبس: ٦] ﴿وما عَلَيْكَ ألا يَزَّكّى﴾ [عبس: ٧] ﴿وأمّا مَن جاءَكَ يَسْعى﴾ [عبس: ٨] ﴿وهُوَ يَخْشى﴾ [عبس: ٩] ﴿فَأنْتَ عَنْهُ تَلَهّى﴾ [عبس: ١٠]
﴿وما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى﴾ أيْ: يَتَطَهَّرُ -بِما يَتَلَقَّنُ مِنكَ- مِنَ الجَهْلِ أوِ الإثْمِ. وفي الِالتِفاتِ إلى الخِطابِ إنْكارٌ لِلْمُواجَهَةِ بِالعَتْبِ أوَّلًا؛ إذْ في الغَيْبَةِ إجْلالٌ لَهُ ﷺ؛ لِإيهامِ أنَّ مَن صَدَرَ مِنهُ ذَلِكَ غَيْرُهُ، لِأنَّهُ لا يَصْدُرُ عَنْهُ مِثْلُهُ؛ كَما أنَّ في الخِطابِ إيناسًا بَعْدَ الإيحاشِ، وإقْبالًا بَعْدَ إعْراضٍ.
(p-٦٠٥٨)وقالَ أبُو السُّعُودِ: وكَلِمَةُ (لَعَلَّ) مَعَ تَحَقُّقِ التَّزَكِّي وارِدَةٌ عَلى سُنَنِ الكِبْرِياءِ، أوْ عَلى اعْتِبارِ مَعْنى التَّرَجِّي بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ ﷺ؛ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ الإعْراضَ عَنْهُ عِنْدَ كَوْنِهِ مَرْجُوَّ التَّزَكِّي، مِمّا لا يَجُوزُ، فَكَيْفَ إذا كانَ مَقْطُوعًا بِالتَّزَكِّي؟ كَما في قَوْلِكَ: (لَعَلَّكَ سَتَنْدَمُ عَلى ما فَعَلْتَ). وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ إعْراضَهُ كانَ لِتَزْكِيَةِ غَيْرِهِ. وأنَّ مَن تَصَدّى لِتَزْكِيَتِهِمْ مِنَ الكَفَرَةِ لا يُرْجى مِنهُمُ التَّزَكِّي والتَّذَكُّرُ أصْلًا.
﴿أوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى﴾ [عبس: ٤] أيْ: يَعْتَبِرُ ويَتَّعِظُ فَتَنْفَعُهُ مَوْعِظَتُكَ. وتَقْدِيمُ التَّزْكِيَةِ عَلى التَّذَكُّرِ مِن بابِ تَقْدِيمِ التَّخْلِيَةِ عَلى التَّحْلِيَةِ.
﴿أمّا مَنِ اسْتَغْنى﴾ [عبس: ٥] أيْ: بِمالِهِ وقُوَّتِهِ عَنْ سَماعِ القُرْآنِ والهِدايَةِ والمَوْعِظَةِ.
﴿فَأنْتَ لَهُ تَصَدّى﴾ [عبس: ٦] أيْ: تَعْرِضُ بِالإقْبالِ عَلَيْهِ، رَجاءَ أنْ يُسْلِمَ ويَهْتَدِيَ.
﴿وما عَلَيْكَ ألا يَزَّكّى﴾ [عبس: ٧] أيْ: ولَيْسَ عَلَيْكَ بَأْسٌ في أنْ لا يَتَزَكّى بِالإسْلامِ؛ إنْ عَلَيْكَ إلّا البَلاغُ. قالَ الرّازِيُّ: أيْ: لا يَبْلُغَنَّ بِكَ الحِرْصُ عَلى إسْلامِهِمْ، إلى أنْ تَعْرِضَ عَمَّنْ أسْلَمَ، لِلِاشْتِغالِ بِدَعْوَتِهِمْ.
﴿وأمّا مَن جاءَكَ يَسْعى﴾ [عبس: ٨] أيْ: يُسْرِعُ في طَلَبِ الخَيْرِ.
﴿وهُوَ يَخْشى﴾ [عبس: ٩] أيْ: يَخافُ اللَّهَ ويَتَّقِيهِ.
﴿فَأنْتَ عَنْهُ تَلَهّى﴾ [عبس: ١٠] أيْ: تُعْرِضُ وتَتَشاغَلُ بِغَيْرِهِ.
تَنْبِيهاتٌ:
الأوَّلُ: قالَ السُّيُوطِيُّ في (الإكْلِيلِ): في هَذِهِ الآياتِ حَثٌّ عَلى التَّرْحِيبِ بِالفُقَراءِ والإقْبالِ عَلَيْهِمْ في مَجْلِسِ العِلْمِ وقَضاءِ حَوائِجِهِمْ، وعَدَمِ إيثارِ الأغْنِياءِ عَلَيْهِمْ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَقَدْ تَأدَّبَ النّاسُ بِأدَبِ اللَّهِ في هَذا تَأدُّبًا حَسَنًا. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ الفُقَراءَ كانُوا في مَجْلِسِهِ أُمَراءَ.
الثّانِي: في هَذِهِ الآياتِ ونَحْوِها دَلِيلٌ عَلى عَدَمِ ضَنِّهِ ﷺ بِالغَيْبِ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: كانَ يُقالُ: لَوْ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَتَمَ مِنَ الوَحْيِ شَيْئًا، كَتَمَ هَذا عَنْ نَفْسِهِ.
الثّالِثُ: قالَ الرّازِيُّ: القائِلُونَ بِصُدُورِ الذَّنْبِ عَنِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ تَمَسَّكُوا (p-٦٠٥٩)بِهَذِهِ الآيَةِ، وقالُوا: لَمّا عاتَبَهُ اللَّهُ في ذَلِكَ الفِعْلِ دَلَّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الفِعْلَ كانَ مَعْصِيَةً. وهَذا بَعِيدٌ فَإنّا قَدْ بَيَّنّا أنَّ ذَلِكَ كانَ هو الواجِبَ المُتَعَيِّنَ، إلّا بِحَسَبِ هَذا الِاعْتِبارِ الواحِدِ، وهو أنَّهُ يُوهِمُ تَقْدِيمَ الأغْنِياءِ عَلى الفُقَراءِ. وذَلِكَ غَيْرُ لائِقٍ بِصَلابَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، كانَ ذَلِكَ جارِيًا مَجْرى تَرْكِ الِاحْتِياطِ وتَرْكِ الأفْضَلِ؛ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ذَنْبًا البَتَّةَ.
وأجابَ الإمامُ ابْنُ حَزْمٍ في (الفَصَلِ) بِقَوْلِهِ: وأمّا قَوْلُهُ:
﴿عَبَسَ وتَوَلّى﴾ [عبس: ١] الآياتِ، فَإنَّهُ كانَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ جَلَسَ إلَيْهِ عَظِيمٌ مِن عُظَماءِ قُرَيْشٍ، ورَجا إسْلامَهُ. وعَلِمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ لَوْ أسْلَمَ لَأسْلَمَ بِإسْلامِهِ ناسٌ كَثِيرٌ وأظْهَرَ الدِّينَ، وعَلِمَ أنَّ هَذا الأعْمى الَّذِي يَسْألُهُ عَنْ أشْياءَ مِن أُمُورِ الدِّينِ لا يَفُوتُهُ، وهو حاضِرٌ مَعَهُ؛ فاشْتَغَلَ عَنْهُ -عَلَيْهِ السَّلامُ- بِما خافَ فَوْتَهُ مِن عَظِيمِ الخَيْرِ عَمّا لا يَخافُ فَوْتَهُ، وهَذا غايَةُ النَّظَرِ في الدِّينِ والِاجْتِهادِ في نُصْرَةِ القُرْآنِ في ظاهِرِ الأمْرِ ونِهايَةُ التَّقَرُّبِ إلى اللَّهِ، الَّذِي لَوْ فَعَلَهُ اليَوْمَ مِنّا فاعِلٌ لَأُجِرَ؛ فَعاتَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ عَلى ذَلِكَ إذْ كانَ الأوْلى عِنْدَ اللَّهِ تَعالى أنْ يُقْبِلَ عَلى ذَلِكَ الأعْمى الفاضِلِ البَرِّ التَّقِيِّ، وهَذا نَفْسُ ما قُلْناهُ. انْتَهى.
وقالَ القاشانِيُّ: كانَ ﷺ في حِجْرِ تَرْبِيَةِ رَبِّهِ، لِكَوْنِهِ حَبِيبًا، فَكَما ظَهَرَتْ نَفْسُهُ بِصِفَةٍ حَجَبَتْ عَنْهُ نُورَ الحَقِّ، عُوتِبَ وأُدِّبَ كَما قالَ: ««أدَّبَنِي رَبِّي فَأحْسَنَ تَأْدِيبِي»» إلى أنْ تَخَلَّقَ بِأخْلاقِهِ تَعالى. انْتَهى.
{"ayahs_start":3,"ayahs":["وَمَا یُدۡرِیكَ لَعَلَّهُۥ یَزَّكَّىٰۤ","أَوۡ یَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكۡرَىٰۤ","أَمَّا مَنِ ٱسۡتَغۡنَىٰ","فَأَنتَ لَهُۥ تَصَدَّىٰ","وَمَا عَلَیۡكَ أَلَّا یَزَّكَّىٰ","وَأَمَّا مَن جَاۤءَكَ یَسۡعَىٰ","وَهُوَ یَخۡشَىٰ","فَأَنتَ عَنۡهُ تَلَهَّىٰ"],"ayah":"وَمَا یُدۡرِیكَ لَعَلَّهُۥ یَزَّكَّىٰۤ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











