الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٣١ - ٤٠] ﴿فَلا صَدَّقَ ولا صَلّى﴾ ﴿ولَكِنْ كَذَّبَ وتَوَلّى﴾ [القيامة: ٣٢] ﴿ثُمَّ ذَهَبَ إلى أهْلِهِ يَتَمَطّى﴾ [القيامة: ٣٣] ﴿أوْلى لَكَ فَأوْلى﴾ [القيامة: ٣٤] ﴿ثُمَّ أوْلى لَكَ فَأوْلى﴾ [القيامة: ٣٥] ﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ أنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: ٣٦] ﴿ألَمْ يَكُ نُطْفَةً مِن مَنِيٍّ يُمْنى﴾ [القيامة: ٣٧] ﴿ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى﴾ [القيامة: ٣٨] ﴿فَجَعَلَ مِنهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ [القيامة: ٣٩] ﴿ألَيْسَ ذَلِكَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يُحْيِيَ المَوْتى﴾ [القيامة: ٤٠] ﴿فَلا صَدَّقَ﴾ أيْ: بِالدِّينِ والكِتابِ. أوْ صَدَّقَ مالَهُ، أيْ: ما زَكّاهُ ﴿ولا صَلّى﴾ أيِ: الصَّلاةَ الَّتِي هي رَأْسُ العِباداتِ، الَّتِي سَها عَنْها. ﴿ولَكِنْ كَذَّبَ﴾ [القيامة: ٣٢] أيْ: بَدَلَ التَّصْدِيقِ ﴿وتَوَلّى﴾ [القيامة: ٣٢] أيْ: بَدَلَ الصَّلاةِ الَّتِي بِها كَمالُ التَّوَجُّهِ إلى اللَّهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ﴾ [القيامة: ٣٣] أيْ: مَعَ هَذِهِ التَّقْصِيراتِ في جَنْبِ اللَّهِ تَعالى: ﴿ذَهَبَ إلى أهْلِهِ يَتَمَطّى﴾ [القيامة: ٣٣] أيْ: يَتَبَخْتَرُ في مِشْيَتِهِ. وأصْلُهُ يَتَمَطَّطُ، أيْ: يَتَمَدَّدُ؛ لِأنَّ المُتَبَخْتِرَ يَمُدُّ خُطاهُ. تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ: الضَّمِيرُ في الآياتِ لِلْإنْسانِ المُتَقَدِّمِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ﴾ [القيامة: ٣٦] (p-٥٩٩٩)الثّانِي: قالَ الرّازِيُّ: إنَّهُ تَعالى شَرَحَ كَيْفِيَّةَ عَمَلِهِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الدِّينِ وفُرُوعِهِ، وفِيما يَتَعَلَّقُ بِدُنْياهُ. أمّا ما يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الدِّينِ فَهو أنَّهُ ما صَدَّقَ بِالدِّينِ، ولَكِنْ كَذَّبَ بِهِ. وأمّا ما يَتَعَلَّقُ بِفُرُوعِ الدِّينِ فَهو أنَّهُ ما صَلّى، ولَكِنَّهُ تَوَلّى، وأعْرَضَ. وأمّا ما يَتَعَلَّقُ بِدُنْياهُ، فَهو أنَّهُ ذَهَبَ إلى أهْلِهِ يَتَمَطّى ويَخْتالُ في مِشْيَتِهِ. الثّالِثُ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ الكافِرَ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ والعِقابَ بِتَرْكِ الصَّلاةِ، كَما يَسْتَحِقُّهُما بِتَرْكِ الإيمانِ. الرّابِعُ: قالَ الرّازِيُّ: قالَ أهْلُ العَرَبِيَّةِ: (لا) هاهُنا في مَوْضِعِ لَمْ، فَقَوْلُهُ: ﴿فَلا صَدَّقَ ولا صَلّى﴾ أيْ: لَمْ يُصَدِّقْ ولَمْ يُصَلِّ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ [البلد: ١١] أيْ: لَمْ يَقْتَحِمْ. وكَذَلِكَ ما رُوِيَ: ««أرَأيْتَ مَن لا أكَلَ ولا شَرِبَ ولا اسْتَهَلَّ»» . قالَ الكِسائِيُّ: لَمْ أرَ العَرَبَ قالَتْ في مِثْلِ هَذا كَلِمَةً وحْدَها، حَتّى تُتْبِعَها بِأُخْرى، إمّا مُصَرَّحًا بِها، أوْ مُقَدَّرًا. أمّا المُصَرَّحُ، فَلا يَقُولُونَ: لا عَبْدُ اللَّهِ خارِجٌ، حَتّى يَقُولُوا: ولا فُلانَ، ولا يَقُولُونَ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ لا يُحْسِنُ، حَتّى يَقُولُوا: ولا يُجْمِلُ. وأمّا المُقَدَّرُ فَهو كَقَوْلِهِ: ﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ [البلد: ١١] ثُمَّ اعْتَرَضَ الكَلامَ فَقالَ: ﴿وما أدْراكَ ما العَقَبَةُ﴾ [البلد: ١٢] ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ [البلد: ١٣] ﴿أوْ إطْعامٌ﴾ [البلد: ١٤] وكانَ التَّقْدِيرُ: لا فَكَّ رَقَبَةً ولا أطْعَمَ مِسْكِينًا، فاكْتَفى بِهِ مَرَّةً واحِدَةً. ومِنهم مَن قالَ: التَّقْدِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا اقْتَحَمَ﴾ [البلد: ١١] أيْ: أفَلا اقْتَحَمَ، وهَلّا اقْتَحَمَ. انْتَهى. ﴿أوْلى لَكَ فَأوْلى﴾ [القيامة: ٣٤] ﴿ثُمَّ أوْلى لَكَ فَأوْلى﴾ [القيامة: ٣٥] أيْ: ويْلٌ (p-٦٠٠٠)لَكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. دُعاءٌ عَلَيْهِ بِأنْ يَلِيَهُ ما يَكْرَهُهُ ولاءً مُتَكَرِّرًا مُتَضاعِفًا. وقِيلَ: المَعْنى: بُعْدًا لَكَ، فَبُعْدًا في أمْرِ دُنْياكَ، وبُعْدًا لَكَ فَبُعْدًا في أمْرِ أُخْراكَ، حَكاهُ الرّازِيُّ عَنِ القاضِي، ثُمَّ قالَ: قالَ القَفّالُ: هَذا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا. أحَدُها: أنَّهُ وعِيدٌ مُبْتَدَأٌ مِنَ اللَّهِ لِلْكافِرِ. والثّانِي: أنَّهُ شَيْءٌ قالَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِعَدُوِّهِ -يَعْنِي أبا جَهْلٍ- فاسْتَنْكَرَهُ عَدُوُّ اللَّهِ لِعِزَّتِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى مِثْلَ ذَلِكَ. والثّالِثُ: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ أمْرًا مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ بِأنْ يَقُولَها لِعَدُوِّ اللَّهِ، فَيَكُونُ المَعْنى: ثُمَّ ذَهَبَ إلى أهْلِهِ يَتَمَطّى، فَقُلْ لَهُ يا مُحَمَّدُ: أوْلى لَكَ فَأوْلى، أيِ: احْذَرْ، فَقَدْ قَرُبَ مِنكَ ما لا قِبَلَ لَكَ بِهِ مِنَ المَكْرُوهِ. انْتَهى. والأظْهَرُ هو الأوَّلُ. لَطِيفَةٌ: تَفْسِيرُ ﴿أوْلى لَكَ﴾ [القيامة: ٣٤] بِ (ويْلٌ) لَكَ، قالَ الشِّهابُ: هو مُحَصِّلٌ مَعْناهُ المُرادَ مِنهُ، فَإنَّهُ مِثْلُهُ، فَيَرِدُ لِلدُّعاءِ عَلَيْهِ، أوْ لِلتَّهْدِيدِ والوَعِيدِ. وعَنِ الأصْمَعِيِّ أنَّها تَكُونُ لِلتَّحَسُّرِ عَلى أمْرٍ فاتَ. هَذا هو المَعْنى المُرادُ لَها. وأمّا الكَلامُ في لَفْظِها فَقِيلَ: هو فِعْلٌ ماضٍ دُعائِيٌّ مِنَ الوَلِيِّ، واللّامُ مَزِيدَةٌ. أيْ: أوْلاكَ اللَّهُ ما تَكْرَهُهُ. أوْ غَيْرُ مَزِيدَةٍ، أيْ: أدْنى الهَلاكَ لَكَ. وقَرِيبٌ مِنهُ قَوْلُ الأصْمَعِيِّ: إنَّ مَعْناهُ قارَبَهُ ما يُهْلِكُهُ أنْ يَنْزِلَ بِهِ. واسْتَحْسَنَهُ ثَعْلَبٌ. وقِيلَ: إنَّهُ اسْمٌ وزْنُهُ أفْعَلُ، مِنَ الوَيْلِ، فَقُلِبَ. وقِيلَ: فَعْلى، ولِذا لَمْ يُنَوَّنْ. ومَعْناهُ ما ذُكِرَ، وألِفُهُ لِلْإلْحاقِ لا لِلتَّأْنِيثِ. وعَلى الِاسْمِيَّةِ هو مُبْتَدَأٌ، و" لَكَ " الخَبَرُ. وقِيلَ: إنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ مَبْنِيٌّ، ومَعْناهُ ولِيَكَ شَرٌّ بَعْدَ شَرٍّ. ونَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ أبِي عَلِيِّ أنَّهُ عَلَمٌ لِمَعْنى الوَيْلِ، وهو غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ ووَزْنِ الفِعْلِ. وقِيلَ عَلَيْهِ: إنَّ الوَيْلَ غَيْرُ مُتَصَرِّفِ، ومِثْلَ (يَوْمٌ أيْوَمُ)، غَيْرَ مُنْقاسٍ، ولا يُفْرَدُ عَنِ المَوْصُوفِ. وادِّعاءُ القَلْبِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ لا يُسْمَعُ، وعَلَمُ الجِنْسِ خارِجٌ عَنِ القِياسِ، فَما ذُكِرَ بِعِيدٌ مِن وُجُوهٍ عِدَّةٍ. وقِيلَ: الأحْسَنُ أنَّهُ أفْعَلُ تَفْضِيلٍ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ يُقَدَّرُ كَما يَلِيقُ بِمَقامِهِ، فالتَّقْدِيرُ هُنا: (p-٦٠٠١)النّارُ أوْلى لَكَ، يَعْنِي: أنْتَ أحَقُّ بِها، وأهْلٌ لَها. انْتَهى. ﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ أنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: ٣٦] أيْ: هَمَلًا لا يُؤْمَرُ ولا يُنْهى ولا يُجازى، مَعَ أنَّهُ الإنْسانُ الَّذِي أُودِعَ العَقْلَ وعُلِّمَ البَيانَ، وغُرِزَ في طَبْعِهِ أنْ يَعِيشَ مُجْتَمِعًا، وخُصَّ مِنَ المَواهِبِ ما فَضَلَ عَلى غَيْرِهِ. فَمِن تَمامِ الإحْسانِ إلَيْهِ إنْقاذُهُ مِن حَيْرَتِهِ، وإعْلامُهُ بِسَبِيلِ هِدايَتِهِ، وأنْ لا يُتْرَكَ خابِطًا في مَتائِهِ جَهالَتِهِ، وقَدْ كانَ ذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِ ونِعْمَتِهِ، كَما أشارَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ألَمْ يَكُ نُطْفَةً مِن مَنِيٍّ يُمْنى﴾ [القيامة: ٣٧] أيْ: يُصَبُّ في الرَّحِمِ ﴿ثُمَّ كانَ عَلَقَةً﴾ [القيامة: ٣٨] أيْ: دَمًا ﴿فَخَلَقَ﴾ [القيامة: ٣٨] أيْ: قَدَّرَ أعْضاءَهُ ﴿فَسَوّى﴾ [القيامة: ٣٨] أيْ: سَوّى تِلْكَ الأعْضاءَ لِأعْمالِها وعَدْلِها. ﴿فَجَعَلَ مِنهُ الزَّوْجَيْنِ﴾ [القيامة: ٣٩] أيِ: الصِّنْفَيْنِ ﴿الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ [القيامة: ٣٩] أيْ: لِبَقاءِ نَوْعِهِ، يَعْمُرُ الدُّنْيا إلى الأجَلِ الَّذِي كَتَبَهُ وقَدَّرَهُ. ﴿ألَيْسَ ذَلِكَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يُحْيِيَ المَوْتى﴾ [القيامة: ٤٠] أيْ: فَيُوجِدُهم بَعْدَ مَماتِهِمْ لِعِمارَةِ الآخِرَةِ. وقَدْ رُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ إذا قَرَأها قالَ: «سُبْحانَكَ، فَبَلى»» - رَواهُ أبُو داوُدَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحابَةِ. ورَواهُ أيْضًا عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَن قَرَأ: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامَةِ﴾ [القيامة: ١] فانْتَهى إلى: ﴿ألَيْسَ ذَلِكَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يُحْيِيَ المَوْتى﴾ [القيامة: ٤٠] فَلْيَقُلْ: بَلى. ورَواهُ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ أيْضًا. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب