الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٣١] ﴿وما جَعَلْنا أصْحابَ النّارِ إلا مَلائِكَةً وما جَعَلْنا عِدَّتَهم إلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ ويَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانًا ولا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ والمُؤْمِنُونَ ولِيَقُولَ الَّذِينَ (p-٥٩٨٠)فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هو وما هي إلا ذِكْرى لِلْبَشَرِ﴾
﴿وما جَعَلْنا أصْحابَ النّارِ﴾ أيْ: خَزَنَتَها ﴿إلا مَلائِكَةً﴾ أيْ: وهم أقْوى الخَلْقِ بَأْسًا، وأشَدُّهم غَضَبًا لِلَّهِ، لِيُبايِنُوا جِنْسَ المُعَذَّبِينَ، فَلا يَسْتَرْوِحُونَ لَهم.
﴿وما جَعَلْنا عِدَّتَهم إلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أيْ: مِن مُشْرِكِي قُرَيْشٍ. أيْ: إلّا عِدَّةً مِن شَأْنِها أنْ يَفْتَتِنَ بِها الكافِرُونَ، فَيَجْعَلُوها مَوْضِعَ البَحْثِ والهُزْءِ.
قالَ الجُبّائِيُّ: المُرادُ مِنَ الفِتْنَةِ تَشْدِيدُ التَّعَبُّدِ لِيَسْتَدِلُّوا ويَعْرِفُوا أنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى أنْ يُقَوِّيَ هَؤُلاءِ التِّسْعَةَ عَشَرَ عَلى ما لا يَقْوى عَلَيْهِ مِائَةُ ألْفِ مَلَكٍ أقْوِياءَ.
وقالَ الكَعْبِيُّ: المُرادُ مِنَ الفِتْنَةِ الِامْتِحانُ حَتّى يُفَوِّضَ المُؤْمِنُونَ حِكْمَةَ التَّخْصِيصِ بِالعَدَدِ المُعَيَّنِ إلى عِلْمِ الخالِقِ سُبْحانَهُ. قالَ: وهَذا مِنَ المُتَشابِهِ الَّذِي أُمِرُوا بِالإيمانِ بِهِ.
﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ أيْ: رِسالَةَ النَّبِيِّ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِإنْبائِهِ مِن وعِيدِ الجاحِدِينَ المُفْسِدِينَ ما لَدَيْهِمْ مِصْداقُهُ. واللّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِ: " جَعَلْنا " الثّانِيَةِ.
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ جَعْلُهم في نَفْسِ الأمْرِ عَلى هَذا العَدَدِ، مُعَلِّلًا بِاسْتِيقانِ أهْلِ الكِتابِ، وازْدِيادِ المُؤْمِنِينَ، واسْتِبْعادِ أهْلِ الشَّكِّ والنِّفاقِ، ولَيْسَ إيجادُهم تِسْعَةَ عَشَرَ سَبَبًا لِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ، وإنَّما السَّبَبُ لِما ذُكِرَ، هو الإخْبارُ عَنْ عَدَدِهِمْ بِأنَّهُ تِسْعَةَ عَشَرَ؟
والجَوابُ: أنَّ الجَعْلَ يُطْلَقُ عَلى مَعْنَيَيْنِ:
أحَدُهُما: جَعْلُ الشَّيْءِ مُتَّصِفًا بِصِفَةٍ في نَفْسِ الأمْرِ.
وثانِيهِما: الإخْبارُ بِاتِّصافِهِ بِها، ويُقالُ لَهُ: الجَعْلُ بِالقَوْلِ. أيْ: وما جَعَلْنا عِدَّتَهم بِالإخْبارِ عَنْها إلّا عَدَدًا يَقْتَضِي فِتْنَتَهُمْ، لِاسْتِيقانِ أهْلِ الكِتابِ.... إلَخْ، أيْ: وقُلْنا ذَلِكَ (p-٥٩٨١)وأخْبَرْنا بِهِ لِاسْتِيقانِ... إلَخْ. وعَبَّرَ عَنِ الإخْبارِ بِالجَعْلِ، لِمُشاكَلَةِ قَوْلِهِ: ﴿وما جَعَلْنا أصْحابَ النّارِ﴾ إلَخْ، هَذا ما قَرَّرَهُ شُرّاحُ القاضِي.
﴿ويَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانًا﴾ أيْ: تَصْدِيقًا إلى تَصْدِيقِهِمْ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ﴿ولا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ والمُؤْمِنُونَ ولِيَقُولَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلا﴾ أيْ: حَتّى يُخَوِّفَنا بِهَؤُلاءِ التِّسْعَةَ عَشَرَ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ ذَكَرَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وهُمُ المُنافِقُونَ، والسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، ولَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ نِفاقٌ، وإنَّما نَجَمَ بِالمَدِينَةِ؟
قُلْتُ: مَعْناهُ ولِيَقُولَ المُنافِقُونَ الَّذِينَ يَنْجُمُونَ في مُسْتَقْبَلِ الزَّمانِ بِالمَدِينَةِ بَعْدَ الهِجْرَةِ، والكافِرُونَ بِمَكَّةَ: ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلًا. ولَيْسَ في ذَلِكَ إلّا إخْبارٌ بِما سَيَكُونُ، كَسائِرِ الإخْباراتِ بِالغُيُوبِ. وذَلِكَ لا يُخالِفُ كَوْنَ السُّورَةِ مَكِّيَّةً. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالمَرَضِ الشَّكُّ والِارْتِيابُ؛ لِأنَّ أهْلَ مَكَّةَ كانَ أكْثَرُهم شاكِّينَ، وبَعْضُهم قاطِعِينَ بِالكَذِبِ. انْتَهى.
وقالَ الرّازِيُّ: إنْ قِيلَ: لِمَ سَمَّوْهُ مَثَلًا؟ فالجَوابُ: أنَّهُ لَمّا كانَ هَذا عَدَدًا عَجِيبًا، ظَنَّ القَوْمُ أنَّهُ رُبَّما لَمْ يَكُنْ مُرادًا لِلَّهِ مِنهُ ما أشْعَرَ بِهِ ظاهِرُهُ، بَلْ جَعَلَهُ مَثَلًا لِشَيْءٍ آخَرَ، وتَنْبِيهًا عَلى مَقْصُودٍ آخَرَ، لا جَرَمَ سَمَّوْهُ مَثَلًا.
﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ﴾ أيْ: إضْلالَهُ لِصَرْفِهِ اخْتِيارَهُ إلى جانِبِ الضَّلالِ: عِنْدَ مُشاهَدَتِهِ آياتِ اللَّهِ النّاطِقَةَ بِالحَقِّ.
﴿ويَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ أيْ: هِدايَتَهُ لِصَرْفِ اخْتِيارِهِ عِنْدَ مُشاهَدَتِهِ لِتِلْكَ الآياتِ إلى جانِبِ الهُدى ﴿وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ﴾ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ: وما يَعْلَمُ ما عَلَيْهِ كُلُّ جُنْدٍ مِنَ العَدَدِ الخاصِّ، مِن كَوْنِ بَعْضِها عَلى عَقْدٍ كامِلٍ، وبَعْضُها عَلى عَدَدٍ ناقِصٍ، وما في اخْتِصاصِ كُلِّ جُنْدٍ بِعَدَدِهِ، مِنَ الحِكْمَةِ إلّا هو. ولا سَبِيلَ لِأحَدٍ إلى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، كَما لا يُعْرَفُ الحِكْمَةُ في أعْدادِ السَّماواتِ والأرْضِينَ وأمْثالِها. أوْ وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ لِفَرْطِ كَثْرَتِها إلّا هُوَ، فَلا يَعِزُّ عَلَيْهِ الزِّيادَةُ عَلى عَدَدِ الخَزَنَةِ المَذْكُورِ، ولَكِنْ لَهُ في هَذا العَدَدِ الخاصِّ حِكْمَةٌ لا تَعْلَمُونَها. انْتَهى.
(p-٥٩٨٢)ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ تَأْيِيدًا لِكَوْنِ ما تَقَدَّمَ مَثَلًا، أيْ: أنَّ المُؤْمِنِينَ يَسْتَيْقِنُونَ بِأنَّ عِدَّتَهم ضُرِبَتْ مَثَلًا لِلْكَثْرَةِ غَيْرِ المُعْتادِ سَماعُها لِلْكافِرِينَ. ومِن سُنَّتِهِ تَعالى ضَرْبُ الأمْثالِ في تَنْزِيلِهِ، وإلّا فَلا يَعْلَمُ جُنُودَهُ الَّتِي يُسَلِّطُها عَلى تَعْذِيبِ مَن يَشاءُ إلّا هو. وهَذا مَعْنًى آخَرُ لَمْ أقِفِ الآنَ عَلى مَن نَبَّهَ عَلَيْهِ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ:
﴿وما هِيَ﴾ أيْ: عِدَّتُهُمُ المَذْكُورَةُ ﴿إلا ذِكْرى لِلْبَشَرِ﴾ أيْ: عِظَةٌ يَرْهَبُونَ مِنها عَذابَ النّارِ، وهَوْلَ أصْحابِها.
وقِيلَ الضَّمِيرُ لِ: " سَقَرَ " وقِيلَ: لِلْآياتِ. والأقْرَبُ عِنْدِي هو الأوَّلُ لِسَلامَتِهِ مِن دَعْوى كَوْنِ ما قَبْلَهُ مُعْتَرِضًا، إذا أُعِيدَ الضَّمِيرُ لِغَيْرِهِ، ولِتَأْيِيدِهِ لِما قَبْلَهُ بِالمَعْنى الَّذِي ذَكَرْناهُ.
{"ayah":"وَمَا جَعَلۡنَاۤ أَصۡحَـٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰۤىِٕكَةࣰۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةࣰ لِّلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِیَسۡتَیۡقِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ وَیَزۡدَادَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِیمَـٰنࣰا وَلَا یَرۡتَابَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِیَقُولَ ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ وَٱلۡكَـٰفِرُونَ مَاذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلࣰاۚ كَذَ ٰلِكَ یُضِلُّ ٱللَّهُ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۚ وَمَا یَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِیَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











