الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٤ - ٦] ﴿وأنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلى اللَّهِ شَطَطًا﴾ ﴿وأنّا ظَنَنّا أنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ والجِنُّ عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الجن: ٥] ﴿وأنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الجِنِّ فَزادُوهم رَهَقًا﴾ [الجن: ٦] ﴿وأنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا﴾ يَعْنُونَ بِهِ مُضِلَّهم ومُغْوِيَهم ﴿عَلى اللَّهِ شَطَطًا﴾ أيْ: قَوْلًا ذا شَطَطٍ. صِفَةٌ لِقَوْلٍ مُقَدَّرٍ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ. أوْ جُعِلَ عَيْنُ الشَّطَطِ مُبالَغَةً فِيهِ. وأصْلُهُ مُجاوَزَةُ الحَدِّ، والمُرادُ مِنهُ نِسْبَةُ الصّاحِبَةِ والوَلَدِ إلى اللَّهِ تَعالى: ﴿وأنّا ظَنَنّا أنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ والجِنُّ عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الجن: ٥] أيْ: في نِسْبَةِ ما لَيْسَ بِحَقٍّ، إلَيْهِ سُبْحانَهُ. وهو اعْتِذارٌ عَنِ اتِّباعِهِمُ السَّفِيهَ في ذَلِكَ، لِظَنِّهِمْ أنَّ أحَدًا لا يَكْذِبُ عَلى اللَّهِ، حَتّى تَبَيَّنَ لَهم بِالقُرْآنِ كَذِبُ السَّفِيهِ وافْتِراؤُهُ. ﴿وأنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الجِنِّ فَزادُوهم رَهَقًا﴾ [الجن: ٦] رَوى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ يَبِيتُ أحَدُهم بِالوادِي في الجاهِلِيَّةِ فَيَقُولُ: أعُوذُ بِعَزِيزِ هَذا الوادِي، فَزادَهم ذَلِكَ إثْمًا.فَفِي الآيَةِ إشارَةٌ إلى ما كانُوا يَعْتَقِدُونَ (p-٥٩٤٧)فِي الجاهِلِيَّةِ مِن أنَّ الوُدْيانَ مَقَرُّ الجِنِّ، وأنَّ رُؤَساءَها تَحْمِيهِمْ مِنهم. وهَكَذا قالَ إبْراهِيمُ: كانُوا إذا نَزَلُوا الوادِيَ قالُوا: نَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذا الوادِي مِن شَرِّ ما فِيهِ، فَتَقُولُ الجِنُّ: ما نَمْلِكُ لَكم ولا لِأنْفُسِنا ضُرًّا ولا نَفْعًا. وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: كانُوا يَقُولُونَ: فُلانٌ مِنَ الجِنِّ رَبُّ هَذا الوادِي، فَكانَ أحَدُهم إذا دَخَلَ الوادِيَ يَعُوذُ بِرَبِّ الوادِي مِن دُونِ اللَّهِ. قالَ: فَيَزِيدُهم ذَلِكَ رَهَقًا، وهو الفَرَقُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: كانَ الرَّجُلُ في الجاهِلِيَّةِ إذا نَزَلَ بِوادٍ قَبْلَ الإسْلامِ قالَ: إنِّي أعُوذُ بِكَبِيرِ هَذا الوادِي. فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ، عاذُوا بِاللَّهِ وتَرَكُوهم. انْتَهى. أيْ: لِأنَّ ذَلِكَ مِنَ الشِّرْكِ، ولِذا نَزَلَتْ سُورَتا المُعَوِّذَتَيْنِ لِتَعْلِيمِ الِاسْتِعاذَةِ بِاللَّهِ تَعالى وحْدَهُ والتَّبَرُّؤِ مِنَ الِاسْتِعاذَةِ بِغَيْرِهِ، وكَذَلِكَ أذْكارُ الِاسْتِعاذاتِ المَأْثُورَةِ، فَإنَّها لِلْإرْشادِ لِذَلِكَ. رَوى مُسْلِمٌ عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ قالَتْ: «مَن نَزَلَ مَنزِلًا فَقالَ: أعُوذُ بِكَلِماتِ اللَّهِ التّامّاتِ مِن شَرِّ ما خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتّى يَرْحَلَ مِن مَنزِلِهِ ذَلِكَ». قالَ بَعْضُهُمْ: في الحَدِيثِ تَفْسِيرُ آيَةِ الجِنِّ، وأنَّ ما فِيها مِنَ الشِّرْكِ، وأنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ يَحْصُلُ بِهِ مَنفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ مِن كَفِّ شَرٍّ، أوْ جَلْبِ نَفْعٍ، لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ مِنَ الشِّرْكِ. وفِي الآيَةِ تَأْوِيلٌ غَرِيبٌ، نَقَلَهُ الرّازِيُّ وهو أنَّ المُرادَ كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الإنْسِ أيْضًا، لَكِنْ مِن شَرِّ الجِنِّ، مِثْلَ أنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: أعُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ مِن شَرِّ جِنِّ هَذا الوادِي. وأصْحابُ هَذا التَّأْوِيلِ، إنَّما ذَهَبُوا إلَيْهِ لِأنَّ الرَّجُلَ اسْمُ الإنْسِ لا اسْمُ الجِنِّ. وهَذا ضَعِيفٌ؛ فَإنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الذَّكَرَ مِنَ الجِنِّ لا يُسَمّى رَجُلًا. انْتَهى. والضَّمِيرُ المَرْفُوعُ في ﴿فَزادُوهُمْ﴾ [الجن: ٦] لِلْجِنِّ، عَلى مَعْنى: فَزادُوهم بِاسْتِعاذَتِهِمْ بِهِمْ، غَيًّا وإثْمًا وضَلالًا. أوْ لِلْإنْسِ عَلى مَعْنى: فَزادُوا الجِنَّ بِاسْتِعاذَتِهِمْ كِبْرًا وعُتُوًّا. و(الرَّهَقُ) في الأصْلِ غِشْيانُ الشَّيْءِ، فَخُصَّ بِما يَعْرِضُ مِنَ الكِبْرِ أوِ الضَّلالِ. (p-٥٩٤٨)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب