الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٢١ - ٢٥] ﴿قالَ نُوحٌ رَبِّ إنَّهم عَصَوْنِي واتَّبَعُوا مَن لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ ووَلَدُهُ إلا خَسارًا﴾ ﴿ومَكَرُوا مَكْرًا كُبّارًا﴾ [نوح: ٢٢] (p-٥٩٣٧)﴿وقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكم ولا تَذَرُنَّ ودًّا ولا سُواعًا ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًا﴾ [نوح: ٢٣] ﴿وقَدْ أضَلُّوا كَثِيرًا ولا تَزِدِ الظّالِمِينَ إلا ضَلالا﴾ [نوح: ٢٤] ﴿مِمّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهم مِن دُونِ اللَّهِ أنْصارًا﴾ [نوح: ٢٥] ﴿قالَ نُوحٌ رَبِّ إنَّهم عَصَوْنِي﴾ أيْ: خالَفُوا أمْرِي ورَدُّوا عَلَيَّ ما دَعَوْتُهم إلَيْهِ مِنَ الهُدى والرَّشادِ، ﴿واتَّبَعُوا مَن لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ ووَلَدُهُ إلا خَسارًا﴾ أيْ: رُؤَساءَهُمُ المَتْبُوعِينَ، أهْلَ المالِ والجاهِ، المُعْرِضِينَ عَنِ الحَقِّ، الَّذِينَ غَرَّتْهم أمْوالُهم وأوْلادُهُمْ، فَهَلَكُوا بِسَبَبِهِما، وخَسِرُوا سَعادَةَ الدّارَيْنِ. ﴿ومَكَرُوا مَكْرًا كُبّارًا﴾ [نوح: ٢٢] أيْ: مُتَناهِيًا كِبَرُهُ، فَإنَّ الكُبّارَ أكْبَرُ مِنَ الكَبِيرِ. ﴿وقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكم ولا تَذَرُنَّ ودًّا ولا سُواعًا ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًا﴾ [نوح: ٢٣] قالَ قَتادَةُ: كانَتْ آلِهَةً تَعْبُدُها قَوْمُ نُوحٍ، ثُمَّ عَبَدَتْها العَرَبُ بَعْدَ ذَلِكَ. قالَ: فَكانَ ودٌّ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الجَنْدَلِ، وكانَتْ سُواعٌ لِهُزَيْلٍ، وكانَ يَغُوثُ لَبَنِي غُطَيْفٍ مِن مُرادٍ بِالجَرْفِ، وكانَ يَعُوقُ لِهَمَذانَ، وكانَ نَسْرٌ لِذِي الكُلاعِ مِن حِمْيَرَ. وقالَ في رِوايَةٍ: واللَّهِ ما عَدا -أيْ: كُلٌّ مِنها- خَشَبَةً أوْ طِينَةً أوْ حَجَرًا. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كانَ خَبَرُهم -فِيما بَلَغَنا- مِن مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قالَ: كانُوا قَوْمًا صالِحِينَ مِن بَنِي آدَمَ، وكانَ لَهم أتْباعٌ يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمّا ماتُوا قالَ أصْحابُهُمُ الَّذِينَ كانُوا يَقْتَدُونَ بِهِمْ: لَوْ صَوَّرْناهم كانَ أشْوَقَ لَنا إلى العِبادَةِ إذا ذَكَرْناهُمْ؛ فَصَوَّرُوهم. فَلَمّا ماتُوا وجاءَ آخَرُونَ دَبَّ إلَيْهِمْ إبْلِيسُ فَقالَ: إنَّما كانُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وبِهِمْ يُسْقَوْنَ المَطَرَ، فَعَبَدُوهم. (p-٥٩٣٨)ورَوى البُخارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: صارَتِ الأوْثانُ الَّتِي كانَتْ في قَوْمِ نُوحٍ في العَرَبِ، بَعْدُ: أمّا ودٌّ، فَكانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الجَنْدَلِ، وأمّا سُواعٌ فَكانَتْ لِهُذَيْلٍ، وأمّا يَغُوثُ فَكانَتْ لِمُرادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالجَرْفِ عِنْدَ سَبَأٍ، وأمّا يَعُوقُ فَكانَتْ لِهَمَذانَ، وأمّا نَسْرٌ فَكانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الكَلاعِ: أسْماءُ رِجالٍ صالِحِينَ مِن قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمّا هَلَكُوا أوْحى الشَّيْطانُ إلى قَوْمِهِمْ أنِ انْصِبُوا إلى مَجالِسِهِمُ الَّتِي كانُوا يَجْلِسُونَ أنْصابًا، وسَمُّوها بِأسْمائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتّى إذا هَلَكَ أُولَئِكَ، وتَنَسَّخَ العِلْمُ، عُبِدَتْ. تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ: قالَ الرّازِيُّ: في انْتِقالِها عَنْ قَوْمِ نُوحٍ إلى العَرَبِ إشْكالٌ؛ لِأنَّ الدُّنْيا قَدْ خَرِبَتْ في زَمانِ الطُّوفانِ، فَكَيْفَ بَقِيَتْ تِلْكَ الأصْنامُ، وكَيْفَ انْتَقَلَتْ إلى العَرَبِ. ولا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ وضَعَها في السَّفِينَةِ وأمْسَكَها؛ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما جاءَ لِنَفْيِها وكَسْرِها، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ وضَعَها في السَّفِينَةِ سَعْيًا مِنهُ في حِفْظِها؟ انْتَهى كَلامُهُ. ونَحْنُ نَقُولُ: إنَّ جَوابَهُ بَدِيهِيٌّ، وهو أنَّ انْتِقالَها إلى العَرَبِ بِواسِطَةِ نَقْلِ أحْوالِ قَوْمِ نُوحٍ وأبْنائِهِمْ وعَوائِدِهِمْ، عَلى ألْسِنَةِ الرُّحَّلِ والسُّمّارِ؛ لِأنَّ سِيرَةَ القَرْنِ المُتَقَدِّمِ في العَصْرِ المُتَأخِّرِ، وسُنَّةَ الخالِفِ أنْ يُؤَرِّخَ السّالِفَ. وجَلِيٌّ أنَّ النَّفْسَ أمْيَلُ إلى الجَهْلِ مِنها إلى العِلْمِ، لاسِيَّما إذْ زُيِّنَ لَهُ المُنْكَرُ بِصِفَةٍ تَمِيلُ إلَيْها، فَتَكُونُ ألْصَقَ بِهِ. وهَكَذا كانَ بَعْدَ انْقِراضِ العِلْمِ وحَمَلَتِهِ، أنْ حَدَثَ ما حَدَثَ مِن عِبادَتِها، كَما أشارَتْ إلَيْهِ رِوايَةُ ابْنِ عَبّاسٍ عِنْدَ البُخارِيِّ: حَتّى إذا هَلَكَ أُولَئِكَ، وتَنَسَّخَ العِلْمُ، عُبِدَتْ. وعَجِيبٌ مِنَ الرّازِيِّ أنْ لا يَجِدَ مَخْرَجًا مِن سُؤالِهِ، وهو عَلى طَرَفِ الثُّمامِ. (p-٥٩٣٩)الثّانِي: قالَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في "فَتْحِ البارِي": حَكى الواقِدِيُّ قالَ: كانَ ودٌّ عَلى صُورَةِ رَجُلٍ، و(سُواعٌ) عَلى صُورَةِ امْرَأةٍ، و(يَغُوثُ) عَلى صُورَةِ الأسَدِ، و(يَعُوقُ) عَلى صُورَةِ فَرَسٍ، و(نَسْرٌ) عَلى صُورَةِ طائِرٍ. وهَذا شاذٌّ، والمَشْهُورُ أنَّهم كانُوا عَلى صُورَةِ البَشَرِ، وهو مُقْتَضى ما تَقَدَّمَ مِنَ الآثارِ في سَبَبِ عِبادَتِها. انْتَهى. الثّالِثُ: قالَ ابْنُ القَيِّمِ في "إغاثَةِ اللَّهْفانِ": أوَّلَ ما كادَ بِهِ الشَّيْطانُ عُبّادَ الأصْنامِ، مِن جِهَةِ العُكُوفِ عَلى القُبُورِ، وتَصاوِيرِ أهْلِها، لِيَتَذَكَّرُوهم بِها، كَما قَصَّ اللَّهُ سُبْحانَهُ قَصَصَهم في كِتابِهِ فَقالَ: ﴿وقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾ [نوح: ٢٣] الآيَةَ... ثُمَّ قالَ: وتَلاعُبُ الشَّيْطانِ بِالمُشْرِكِينَ في عِبادَةِ الأصْنامِ لَهُ أسْبابٌ عَدِيدَةٌ، تَلاعَبَ بِكُلِّ قَوْمٍ عَلى قَدْرِ عُقُولِهِمْ: فَطائِفَةٌ دَعاهم إلى عِبادَتِها مِن جِهَةِ تَعْظِيمِ المَوْتى الَّذِينَ صَوَّرُوا تِلْكَ الأصْنامَ عَلى صُوَرِهِمْ، كَما تَقَدَّمَ عَنْ قَوْمِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولِهَذا ««لَعَنَ النَّبِيُّ ﷺ المُتَّخِذِينَ عَلى القُبُورِ المَساجِدَ والسُّرُجَ»»، و««نَهى عَنِ الصَّلاةِ إلى القُبُورِ»»، و««سَألَ رَبَّهُ سُبْحانَهُ أنْ لا يَجْعَلَ قَبْرَهُ وثَنًا يُعْبَدُ»»، و««نَهى أُمَّتَهُ أنْ يَتَّخِذُوا قَبْرَهُ عِيدًا»»، وقالَ: ««اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيائِهِمْ مَساجِدَ»»، و««أمَرَ بِتَسْوِيَةِ القُبُورِ، وطَمْسِ التَّماثِيلِ»»، فَأبى المُشْرِكُونَ إلّا خِلافَهُ في ذَلِكَ كُلِّهِ، إمّا جَهْلًا، وإمّا عِنادًا لِأهْلِ التَّوْحِيدِ، ولَمْ يَضُرَّهم ذَلِكَ شَيْئًا... إلى آخِرِ ما ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ. (p-٥٩٤٠)وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقَدْ أضَلُّوا﴾ [نوح: ٢٤] أيِ: الرُّؤَساءُ ﴿كَثِيرًا﴾ [نوح: ٢٤] أيْ: خَلْقًا كَثِيرًا، أوِ الأصْنامُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ﴾ [إبراهيم: ٣٦] ﴿ولا تَزِدِ الظّالِمِينَ إلا ضَلالا﴾ [نوح: ٢٤] أيْ: خِذْلانًا واسْتِدْراجًا. وإنَّما دَعا ذَلِكَ لِيَأْسِهِ مِن إيمانِهِمْ. قالَ أبُو السُّعُودِ: ووَضَعَ الظّاهِرَ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ، لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ المُفْرِطِ، وتَعْلِيلِ الدُّعاءِ عَلَيْهِمْ بِهِ: ﴿مِمّا خَطِيئاتِهِمْ﴾ [نوح: ٢٥] أيْ: مِن أجْلِها ﴿أُغْرِقُوا﴾ [نوح: ٢٥] أيْ: بِالطُّوفانِ ﴿فَأُدْخِلُوا نارًا﴾ [نوح: ٢٥] أيْ: أُذِيقُوا بِهِ عَذابَ النّارِ ﴿فَلَمْ يَجِدُوا لَهم مِن دُونِ اللَّهِ أنْصارًا﴾ [نوح: ٢٥] قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَعْرِيضٌ بِاتِّخاذِهِمْ آلِهَةً مِن دُونِ اللَّهِ، وأنَّها غَيْرُ قادِرَةٍ عَلى نَصْرِهِمْ، وتَهَكُّمٌ بِهِمْ، كَأنَّهُ قالَ: فَلَمْ يَجِدُوا لَهم مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً يَنْصُرُونَهم ويَمْنَعُونَهم مِن عَذابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أمْ لَهم آلِهَةٌ تَمْنَعُهم مِن دُونِنا﴾ [الأنبياء: ٤٣] وقالَ الرّازِيُّ: لَمّا ثَبَتَ أنَّهُ تَعالى هو القادِرُ عَلى كُلِّ المَقْدُوراتِ، بَطَلَ القَوْلُ بِالوَسائِطِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب