﴿فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَٱلَّذِینَ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةࣲ مِّنَّا وَقَطَعۡنَا دَابِرَ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَاۖ وَمَا كَانُوا۟ مُؤۡمِنِینَ﴾ [الأعراف ٧٢]
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٧٢]
﴿فَأنْجَيْناهُ والَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا وقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وما كانُوا مُؤْمِنِينَ﴾﴿فَأنْجَيْناهُ والَّذِينَ مَعَهُ﴾ " أيْ: مَن آمَنَ بِهِ، عَلى خَرْقِ العادَةِ
﴿بِرَحْمَةٍ مِنّا﴾ " لِيَدُلَّ عَلى رَحْمَتِنا عَلَيْهِمْ في الآخِرَةِ
﴿وقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ أيِ اسْتَأْصَلْناهم. قالَ الشِّهابُ: قَطْعُ الدّابِرِ، كِنايَةٌ عَنْ الِاسْتِئْصالِ إلى إهْلاكِ الجَمِيعِ، لِأنَّ المُعْتادَ في الآفَةِ إذا أصابَتِ الآخَرَ أنْ تَمُرَّ عَلى غَيْرِهِ، والشَّيْءُ إذا امْتَدَّ أصْلُهُ أُخِذَ بِرُمَّتِهِ، والدّابِرُ بِمَعْنى الآخِرِ.
﴿وما كانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ " عَطْفٌ عَلى " كَذَّبُوا " داخِلٌ مَعَهُ في حُكْمِ الصِّلَةِ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما فائِدَةُ نَفْيِ الإيمانِ عَنْهم في قَوْلِهِ:
﴿وما كانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ " مَعَ إثْباتِ التَّكْذِيبِ بِآياتِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: هو تَعْرِيضٌ بِمَن آمَنَ مِنهُمْ، كَمَرْثَدِ بْنِ سَعْدٍ، ومَن نَجا مَعَ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَأنَّهُ قالَ: وقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا مِنهُمْ، ولَمْ يَكُونُوا مِثْلَ مَن آمَنَ مِنهُمْ، لِيُؤْذِنَ أنَّ الهَلاكَ خَصَّ المُكَذِّبِينَ، ونَجّى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ. انْتَهى.
قالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي إذا سَمِعَ المُؤْمِنُ أنَّ الهَلاكَ اخْتَصَّ بِالمُكَذِّبِينَ، وعَلِمَ أنَّ سَبَبَ النَّجاةِ هو الإيمانُ لا غَيْرُ، تَزِيدُ رَغْبَتُهُ فِيهِ، ويَعْظُمُ قَدْرُهُ عِنْدَهُ. انْتَهى.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ صِفَةَ إهْلاكِهِمْ في أماكِنَ أُخَرَ مِنَ القُرْآنِ بِأنَّهُ أرْسَلَ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العَقِيمَ:
﴿ما تَذَرُ مِن شَيْءٍ أتَتْ عَلَيْهِ إلا جَعَلَتْهُ كالرَّمِيمِ﴾ [الذاريات: ٤٢] كَما قالَ في الآيَةِ الأُخْرى:
﴿وأمّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٦] ﴿سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وثَمانِيَةَ أيّامٍ حُسُومًا فَتَرى القَوْمَ فِيها صَرْعى كَأنَّهم أعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٧] ﴿فَهَلْ تَرى لَهم مِن باقِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٨] لَمّا تَمَرَّدُوا وعَتَوْا، أهْلَكَمُ اللَّهُ بِرِيحٍ عاتِيَةٍ، فَكانَتْ تَحْمِلُ الرَّجُلَ مِنهُمْ، فَتَرْفَعُهُ في الهَواءِ ثُمَّ تُنَكِّسُهُ عَلى أُمِّ رَأْسِهِ فَتَثْلَعُ رَأْسَهُ حَتّى تُبِينَهُ مِن جُثَّتِهِ.
وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ: كانَتْ مَنازِلُ عادٍ وجَماعَتِهِمْ، حِينَ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ هُودًا، الأحْقافَ قالَ: و(الأحْقافُ) الرَّمْلُ، فِيما بَيْنَ عُمانَ إلى حَضْرَمَوْتَ، فاليَمَنُ كُلُّهُ.
وكانُوا مَعَ ذَلِكَ قَدْ فَشَوْا في الأرْضِ كُلِّها، وقَهَرُوا أهْلَها بِفَضْلِ قُوَّتِهِمُ الَّتِي آتاهُمُ اللَّهُ، وكانُوا أصْحابَ أوْثانٍ يَعْبُدُونَها مِن دُونِ اللَّهِ: صَنَمٌ يُقالُ لَهُ (صُداءُ)، وصَنَمٌ يُقالُ لَهُ (صَمُودُ) وصَنَمٌ يُقالُ لَهُ (الهَباءُ): فَبَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِمْ هُودًا، وهو مِن أوْسَطِهِمْ نَسَبًا وأفْضَلِهِمْ مَوْضِعًا، فَأمَرَهم أنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ ولا يَجْعَلُوا مَعَهُ إلَهًا غَيْرَهُ، وأنْ يَكُفُّوا عَنْ ظُلْمِ النّاسِ. لَمْ يَأْمُرْهم فِيما يُذْكَرُ، واللَّهُ أعْلَمُ، بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَأبَوْا عَلَيْهِ وكَذَّبُوهُ، وقالُوا:
﴿مَن أشَدُّ مِنّا قُوَّةً﴾ [فصلت: ١٥] " .
واتَّبَعَهُ مِنهم ناسٌ، وهم يَسِيرٌ مُكْتَتِمُونَ بِإيمانِهِمْ. وكانَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ وصَدَّقَهُ رَجُلٌ مِن عادٍ يُقالُ لَهُ (مَرْثَدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُفَيْرٍ)، وكانَ يَكْتُمُ إيمانَهُ. فَلَمّا عَتَوْا عَلى اللَّهِ تَبارَكَ وتَعالى وكَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ، وأكْثَرُوا في الأرْضِ الفَسادَ، وتَجَبَّرُوا وبَنَوْا بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً عَبَثًا بِغَيْرِ نَفْعٍ، كَلَّمَهم هُودٌ فَقالَ:
﴿أتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾ [الشعراء: ١٢٨] ﴿وتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكم تَخْلُدُونَ﴾ [الشعراء: ١٢٩] ﴿وإذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٠] ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ﴾ [الشعراء: ١٣١]﴿قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: ٥٣] ﴿إنْ نَقُولُ إلا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ﴾ [هود: ٥٤] أيْ: ما هَذا الَّذِي جِئْتَنا بِهِ إلّا جُنُونٌ أصابَكَ بِهِ بَعْضُ آلِهَتِنا هَذِهِ الَّتِي تَعِيبُ
﴿قالَ إنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ واشْهَدُوا أنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ [هود: ٥٤] ﴿مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ﴾ [هود: ٥٥] إلى قَوْلِهِ:
﴿صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: ٥٦]فَلَمّا فَعَلُوا ذَلِكَ، أمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُمُ المَطَرَ مِنَ السَّماءِ ثَلاثَ سِنِينَ، فِيما يَزْعُمُونَ- حَتّى جَهَدَهم ذَلِكَ.
وكانَ النّاسُ في ذَلِكَ الزَّمانِ إذا نَزَلَ بِهِمْ بَلاءٌ أوْ جُهْدٌ، فَطَلَبُوا إلى اللَّهِ الفَرَجَ مِنهُ، كانَتْ طُلْبَتُهم إلى اللَّهِ عِنْدَ بَيْتِهِ الحَرامِ بِمَكَّةَ، مُسْلِمُهم ومُشْرِكُهُمْ، فَيَجْتَمِعُ بِمَكَّةَ ناسٌ كَثِيرٌ شَتّى مُخْتَلِفَةٌ أدْيانُهُمْ، وكُلُّهم مُعَظِّمٌ لِمَكَّةَ، يَعْرِفُ حُرْمَتَها ومَكانَها مِنَ اللَّهِ.
قالَ ابْنُ إسْحاقَ: وكانَ البَيْتُ في ذَلِكَ الزَّمانِ مَعْرُوفًا مَكانُهُ، والحَرَمُ قائِمٌ فِيما يَذْكُرُونَ، وأهْلُ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ العَمالِيقُ، وإنَّما سُمُّوا العَمالِيقَ، لِأنَّ أباهم (عَمْلِيقُ بْنُ لاوَذَ بْنِ سامِ بْنِ نُوحٍ)، وكانَ سَيِّدُ العَمالِيقِ إذْ ذاكَ بِمَكَّةَ، فِيما يَزْعُمُونَ، رَجُلًا يُقالُ لَهُ مُعاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ، وكانَ أبُوهُ حَيًّا في ذَلِكَ الزَّمانِ، ولَكِنَّهُ كانَ قَدْ كَبُرَ، وكانَ ابْنُهُ يَرْأسُ قَوْمَهُ، وكانَ السُّؤْدُدُ والشَّرَفُ مِنَ العَمالِيقِ فِيما يَزْعُمُونَ، في أهْلِ ذَلِكَ البَيْتِ.
وكانَتْ أُمُّ مُعاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، كَلَهْدَةَ ابْنَةَ الخَبِيرِيِّ، رَجُلٌ مِن عادٍ، فَلَمّا قَحَطَ المَطَرُ عَنْ عادٍ وجُهِدُوا قالُوا: جَهِّزُوا مِنكم وفْدًا إلى مَكَّةَ فَلْيَسْتَسْقُوا لَكُمْ، فَإنَّكم قَدْ هَلَكْتُمْ ! فَبَعَثُوا قَيْلَ بْنَ عَنْزٍ ولَقِيمَ بْنَ هَزّالِ بْنِ هَزِيلٍ، وعَتِيلَ بْنَ صُدَّ بْنِ عادٍ الأكْبَرِ، ومَرْثَدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُفَيْرٍ، وكانَ مُسْلِمًا يَكْتُمُ إسْلامَهُ، وجُلْهُمَةُ بْنُ الخَبِيرِيِّ، خالُ مُعاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ أخُو أُمِّهِ.
ثُمَّ بَعَثُوا لُقْمانَ بْنَ عادِ بْنِ فُلانِ بْنِ فُلانِ بْنِ صُدَّ بْنِ عادٍ الأكْبَرِ. فانْطَلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِن هَؤُلاءِ القَوْمِ مَعَهُ رَهْطٌ مِن قَوْمِهِ، حَتّى بَلَغَ عِدَّةُ وفْدِهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا. فَلَمّا قَدِمُوا مَكَّةَ نَزَلُوا عَلى مُعاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ وهو بِظاهِرِ مَكَّةَ خارِجًا مِنَ الحَرَمِ، فَأنْزَلَهم وأكْرَمَهم. وكانُوا أخْوالَهُ وصِهْرَهُ.
فَلَمّا نَزَلَ وفْدُ عادٍ عَلى مُعاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، أقامُوا عِنْدَهُ شَهْرًا يَشْرَبُونَ الخَمْرَ، وتُغَنِّيهُمُ الجَرادَتانِ -قَيْنَتانِ لِمُعاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ - وكانَ مَسِيرُهم شَهْرًا ومَقامُهم شَهْرًا.
فَلَمّا رَأى مُعاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ طُولَ مَقامِهِمْ، وقَدْ بَعَثَهم قَوْمُهم يَتَعَوَّذُونَ بِهِمْ مِنَ البَلاءِ الَّذِي أصابَهُمْ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقالَ: هَلَكَ أخْوالِي وأصْهارِي ! وهَؤُلاءِ مُقِيمُونَ عِنْدِي، وهم ضَيْفِي نازِلُونَ عَلَيَّ ! واللَّهِ ما أدْرِي كَيْفَ أصْنَعُ بِهِمْ؟ أسْتَحِي أنْ آمُرَهم بِالخُرُوجِ إلى ما بُعِثُوا لَهُ فَيَظُنُّوا أنَّهُ ضِيقٌ مِنِّي بِمَقامِهِمْ عِنْدِي، وقَدْ هَلَكَ مَن وراءَهم مِن قَوْمِهِمْ جَهْدًا وعَطَشًا ! أوْ كَما قالَ:
فَشَكا ذَلِكَ مِن أمْرِهِمْ إلى قَيْنَتَيْهِ الجَرادَتَيْنِ، فَقالَتا: قُلْ شِعْرًا نُغَنِّيهِمْ بِهِ، لا يَدْرُونَ مَن قالَهُ، لَعَلَّ ذَلِكَ أنْ يُحَرِّكَهم !.
فَقالَ مُعاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ، حِينَ أشارَتا عَلَيْهِ بِذَلِكَ:
ألا يا قَيْلَ، ويْحَكَ ! قُمْ فَهَيْنِمْ لَعَلَّ اللَّهَ يُصْبِحُنا غَمامًا
فَيَسْقِي أرْضَ عادٍ، إنَّ عادًا ∗∗∗ قَدْ أمْسَوْا لا يُبِينُونَ الكَلاما
مِنَ العَطَشِ الشَّدِيدِ، فَلَيْسَ نَرْجُو ∗∗∗ بِهِ الشَّيْخَ الكَبِيرَ ولا الغُلامَ
وقَدْ كانَتْ نِساؤُهم بِخَيْرٍ ∗∗∗ فَقَدْ أمْسَتْ نِساؤُهم عَيامى
وإنَّ الوَحْشَ تَأْتِيهِمْ جِهارًا ∗∗∗ ولا تَخْشى لِعادِيِّ سِهاما
وأنْتُمْ ها هُنا فِيما اشْتَهَيْتُمْ ∗∗∗ نَهارَكم ولَيْلَكُمُ التَّماما
فَقُبِّحَ وفْدُكم مِن وفْدِ قَوْمٍ ∗∗∗ ولا لُقُّوا التَّحِيَّةَ والسَّلاما
فَلَمّا قالَ مُعاوِيَةُ ذَلِكَ الشِّعْرَ، غَنَّتْهم بِهِ الجَرادَتانِ، فَلَمّا سَمِعَ القَوْمُ ما غَنَّتا بِهِ، قالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: يا قَوْمُ، إنَّما بَعَثَكم قَوْمُكم يَتَعَوَّذُونَ بِكم مِن هَذا البَلاءِ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ، وقَدْ أبْطَأْتُمْ عَلَيْهِمْ ! فادْخُلُوا هَذا الحَرَمَ واسْتَسْقُوا لِقَوْمِكم !.
فَقالَ لَهم مَرْثَدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُفَيْرٍ: إنَّكم واللَّهِ لا تُسْقَوْنَ بِدُعائِكُمْ، ولَكِنْ إنْ أطَعْتُمْ نَبِيَّكم وأنَبْتُمْ إلَيْهِ سُقِيتُمْ ! فَأظْهَرَ إسْلامَهُ عِنْدَ ذَلِكَ. فَقالَ لَهم جُلْهُمَةُ بْنُ الخَبِيرِيِّ خالُ مُعاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، حِينَ سَمِعَ قَوْلَهُ، وعَرَفَ أنَّهُ قَدِ اتَّبَعَ دِينَ هُودٍ وآمَنَ بِهِ:
أبا سَعْدٍ فَإنَّكَ مِن قَبِيلِ ∗∗∗ ذَوِي كَرَمٍ وأُمُّكَ مِن ثَمُودَ
فَإنّا لَنْ نُطِيعَكَ ما بَقِينا ∗∗∗ ولَسْنا فاعِلِينَ لِما تُرِيدُ
أتَأْمُرُنا لِنَتْرُكَ دِينَ رِفْدٍ ∗∗∗ ورَمْلَ وآلَ صُدَّ والعُبُودِ
ونَتْرُكَ دِينَ آباءٍ كِرامٍ ∗∗∗ ذَوِي رَأْيٍ، ونَتْبَعَ دِينَ هُودِ
ثُمَّ قالَ لِمُعاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ وأبِيهِ بَكْرٍ: احْبِسا عَنّا مَرْثَدَ بْنَ سَعْدٍ، فَلا يَقْدُمَنَّ مَعَنا مَكَّةَ، فَإنَّهُ قَدِ اتَّبَعَ دِينَ هُودٍ، وتَرَكَ دِينَنا !
ثُمَّ خَرَجُوا إلى مَكَّةَ يَسْتَسْقُونَ بِها لِعادٍ، فَلَمّا ولَّوْا إلى مَكَّةَ خَرَجَ مَرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ مِن مَنزِلِ مُعاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ حَتّى أدْرَكَهم بِها، قَبْلَ أنْ يَدْعُوا اللَّهَ بِشَيْءٍ مِمّا خَرَجُوا لَهُ. فَلَمّا انْتَهى إلَيْهِمْ، قامَ يَدْعُو اللَّهَ بِمَكَّةَ، وبِها وفْدُ عادٍ قَدِ اجْتَمَعُوا يَدْعُونَ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ أعْطِنِي سُؤْلِي وحْدِي ولا تُدْخِلْنِي في شَيْءٍ مِمّا يَدْعُوكَ بِهِ وفْدُ عادٍ.
وكانَ قَيْلُ بْنُ عَنْزٍ رَأسَ وفْدِ عادٍ.
وقالَ وفْدُ عادٍ: اللَّهُمَّ أعْطِ قَيْلًا ما سَألَكَ، واجْعَلْ سُؤْلَنا مَعَ سُؤْلِهِ.
وكانَ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ وفْدِ عادٍ حِينَ دَعا، لُقْمانُ بْنُ عادٍ، وكانَ سَيِّدَ عادٍ.
حَتّى إذا فَرَغُوا مِن دَعْوَتِهِمْ قامَ فَقالَ: اللَّهُمَّ إنِّي جِئْتُكَ وحْدِي في حاجَتِي، فَأعْطِنِي سُؤْلِي. وقالَ قَيْلُ بْنُ عَنْزٍ حِينَ دَعا: يا إلَهَنا، إنْ كانَ هُودٌ صادِقًا فاسْقِنا، فَإنّا قَدْ هَلَكْنا. فَأنْشَأ اللَّهُ لَهم سَحائِبَ ثَلاثًا: بَيْضاءُ وحَمْراءُ وسَوْداءُ، ثُمَّ ناداهُ مُنادٍ مِنَ السَّحابِ: يا قَيْلُ ! اخْتَرْ لِنَفْسِكَ ولِقَوْمِكَ مِن هَذِهِ السَّحائِبِ. فَقالَ: اخْتَرْتُ السَّحابَةَ السَّوْداءَ، فَإنَّها أكْثَرُ السَّحابِ ماءً. فَناداهُ مُنادٍ: اخْتَرْتَ رَمادًا رِمْدِدًا، لا تُبْقِي مِن آلِ عادٍ أحَدًا، لا والِدًا تَتْرُكُ ولا ولَدًا، إلّا جَعَلَتْهُ هَمَدًا إلّا بَنِي اللُّوذِيَّةِ المُهَدّى - وبَنُو اللُّوذِيَّةِ، بَنُو لَقِيمَ بْنِ هَزّالِ بْنِ هَزِيلَةَ بْنِ بَكْرٍ، وكانُوا سُكّانًا بِمَكَّةَ مَعَ أخْوالِهِمْ، ولَمْ يَكُونُوا مَعَ عادٍ بِأرْضِهِمْ، فَهم عادٌ الآخِرَةُ، ومَن كانَ مِن نَسْلِهِمُ الَّذِينَ بَقُوا مِن عادٍ - وساقَ اللَّهُ السَّحابَةَ السَّوْداءَ، فِيما يَذْكُرُونَ، الَّتِي اخْتارَها قَيْلُ بْنُ عَنْزٍ بِما فِيها مِنَ النِّقْمَةِ إلى عادٍ، حَتّى خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ مِن وادٍ يُقالُ لَهُ (المُغِيثُ).
فَلَمّا رَأوْها اسْتَبْشَرُوا بِها وقالُوا:
﴿هَذا عارِضٌ مُمْطِرُنا﴾ [الأحقاف: ٢٤] يَقُولُ اللَّهُ:
﴿بَلْ هو ما اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [الأحقاف: ٢٤] ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأمْرِ رَبِّها﴾ [الأحقاف: ٢٥] أيْ كُلَّ شَيْءٍ أُمِرَتْ بِهِ.
وكانَ أوَّلُ مَن أبْصَرَ ما فِيها وعَرَفَ أنَّها رِيحٌ، فِيما يَذْكُرُونَ، امْرَأةٌ مِن عادٍ يُقالُ لَها (مَهْدَدُ)، فَلَمّا تَيَقَّنَتْ ما فِيها صاحَتْ ثُمَّ صَعِقَتْ. فَلَمّا أفاقَتْ قالُوا: ماذا رَأيْتِ يا مَهْدَدُ ؟ قالَتْ: رَأيْتُ رِيحًا فِيها، كَشُهُبِ النّارِ، أمامَها رِجالٌ يَقُودُونَها !
فَ " سَخَّرَها " اللَّهُ
﴿عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وثَمانِيَةَ أيّامٍ حُسُومًا﴾ [الحاقة: ٧] "، كَما قالَ اللَّهُ -والحُسُومُ الدّائِمَةُ- فَلَمْ تَدَعْ مِن عادٍ أحَدًا إلّا هَلَكَ. فاعْتَزَلَ هُودٌ، فِيما ذُكِرَ لِي، ومَن مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ في حَظِيرَةٍ، ما يُصِيبُهُ ومَن مَعَهُ مِنَ الرِّيحِ، إلّا ما تَلِينُ عَلَيْهِ الجُلُودُ وتَلَذُّ الأنْفُسُ.
وإنَّها لَتَمُرُّ عَلى عادٍ بِالظَّعْنِ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، وتَدْمَغُهم بِالحِجارَةِ. وخَرَجَ وفْدُ عادٍ مِن مَكَّةَ حَتّى مَرُّوا بِمُعاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ وأبِيهِ، فَنَزَلُوا عَلَيْهِ.
فَبَيْنَما هم عِنْدَهُ، إذْ أقْبَلَ رَجُلٌ عَلى ناقَةٍ لَهُ في لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، مُمْسى ثالِثَةٍ في مُصابِ عادٍ، فَأخْبَرَهُمُ الخَبَرَ، فَقالُوا لَهُ: أيْنَ فارَقْتَ هُودًا وأصْحابَهُ؟ قالَ: فارَقْتُهم بِساحِلِ البَحْرِ.
فَكَأنَّهم شَكُّوا فِيما حَدَّثَهم بِهِ، فَقالَتْ هَزِيلَةُ بِنْتُ بَكْرٍ: صَدَقَ، ورَبِّ الكَعْبَةِ.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهو سِياقٌ غَرِيبٌ، فِيهِ فَوائِدُ كَثِيرَةٌ، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿ولَمّا جاءَ أمْرُنا نَجَّيْنا هُودًا والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا ونَجَّيْناهم مِن عَذابٍ غَلِيظٍ﴾ [هود: ٥٨]ورَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنْ أبِي وائِلٍ، عَنِ الحارِثِ البَكْرِيِّ
«قالَ: خَرَجْتُ أشْكُو العَلاءَ بْنَ الحَضْرَمِيِّ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَمَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَإذا بِعَجُوزٍ مِن بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطَعٌ بِها، فَقالَتْ لِي: يا عَبْدَ اللَّهِ ! إنَّ لِي إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حاجَةً، فَهَلْ أنْتَ مُبَلِّغِي إلَيْهِ؟ قالَ: فَحَمَلْتُها، فَأتَيْتُ المَدِينَةَ. فَإذا المَسْجِدُ غاصٌّ بِأهْلِهِ، وإذا رايَةٌ سَوْداءُ تَخْفِقُ، وإذا بِلالٌ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقُلْتُ: ما شَأْنُ النّاسِ؟ قالُوا: يُرِيدُ أنْ يَبْعَثَ عَمْرَو بْنَ العاصِ وجْهًا، فَجَلَسْتُ، فَدَخَلَ مَنزِلَهُ - أوْ قالَ رَحْلَهُ - فاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَأذِنَ لِي، فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ، فَقالَ: هَلْ كانَ بَيْنَكم وبَيْنَ تَمِيمٍ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قالَ وكانَتْ لَنا الدَّبْرَةُ عَلَيْهِمْ، ومَرَرْتُ بِعَجُوزٍ مِن بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطَعٌ بِها، فَسَألَتْنِي أنْ أحْمِلَها إلَيْكَ، وها هي بِالبابِ، فَأذِنَ لَها، فَدَخَلَتْ. فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ! إنْ رَأيْتَ أنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وبَيْنَ تَمِيمٍ حاجِزًا، فاجْعَلِ الدَّهْنا. فَحَمِيَتِ العَجُوزُ واسْتَوْفَزَتْ، وقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ ! فَإلى أيْنَ تَضْطَرُّ مُضِرَّكَ؟ قالَ قُلْتُ: إنَّ مَثَلِي مِثْلُ ما قالَ الأوَّلُ: (مَعْزاءُ حَمَلَتْ حَتْفَها)، حَمَلْتُ هَذِهِ ولا أشْعُرُ أنَّها كانَتْ لِي خَصْمًا. أعُوذُ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ أنْ أكُونَ كَوافِدِ عادٍ ! قالَ هِيهِ، وما وافِدُ عادٍ ؟ وهو أعْلَمُ بِالحَدِيثِ مِنهُ، ولَكِنْ يَسْتَطْعِمُهُ، قُلْتُ: إنَّ عادًا قَحَطُوا فَبَعَثُوا وافِدًا لَهم يُقالُ لَهُ قَيْلُ، فَمَرَّ بِمُعاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ فَأقامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَسْقِيهِ الخَمْرَ، وتُغَنِّيهِ جارِيَتانِ يُقالُ لَهُما الجَرادَتانِ، فَلَمّا مَضى الشَّهْرُ، خَرَجَ جِبالَ تِهامَةَ فَنادى: اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أنِّي لَمْ أجِئْ إلى مَرِيضٍ فَأُداوِيهِ، ولا إلى أسِيرٍ فَأُفادِيهِ، اللَّهُمَّ اسْقِ عادًا ما كُنْتَ تَسْقِيهِ ! فَمَرَّتْ بِهِ سَحاباتٌ سُودٌ، فَنُودِيَ مِنها: اخْتَرْ، فَأوْمَأ إلى سَحابَةٍ مِنها سَوْداءَ، فَنُودِيَ مِنها: خُذْها رَمادًا رِمْدِدًا، لا تُبْقِي مِن عادٍ أحَدًا. قالَ: فَما بَلَغَنِي أنَّهُ بُعِثَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ إلّا قَدْرُ ما يَجْرِي في خاتَمِي هَذا، حَتّى هَلَكُوا. قالَ أبُو وائِلٍ: وصَدَقَ. قالَ: فَكانَتِ المَرْأةُ والرَّجُلُ إذا بَعَثُوا وافِدًا لَهم قالُوا: لا تَكُنْ كَوافِدِ عادٍ» - هَكَذا رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ في المُسْنَدِ، ورَواهُ التِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ وابْنُ جَرِيرٍ -.
وقَوْلُهُ تَعالى: