الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٥٤] ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾
" ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ﴾ أيْ: إنَّ سَيِّدَكم ومالِكَكم ومُدَبِّرَكُمُ الَّذِي يَجِبُ أنْ تَعْبُدُوهُ أيُّها النّاسُ، الَّذِي أنْشَأ أعْيانَ السَّماواتِ والأرْضِ في مِقْدارِ سِتَّةِ أيّامٍ.
(p-٢٧٠٠)وفِي هَذِهِ الآيَةِ مَسائِلُ:
الأُولى: قالَ الشِّهابُ: اليَوْمُ في اللُّغَةِ مُطْلَقُ الوَقْتِ، فَإنْ أُرِيدَ هَذا، فالمَعْنى في سِتَّةِ أوْقاتٍ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ [الأنفال: ١٦] وإنْ أُرِيدَ المُتَعارَفُ، وهو زَمانُ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلى غُرُوبِها، فالمَعْنى في مِقْدارِ سِتَّةِ أيّامٍ، لِأنَّ اليَوْمَ إنَّما كانَ بَعْدَ خَلْقِ الشَّمْسِ والسَّماواتِ، فَيُقَدَّرُ فِيهِ مُضافٌ. انْتَهى.
وفِي شَرْحِ القامُوسِ: إنَّ اليَوْمَ مِن طُلُوعِ الشَّمْسِ إلى غُرُوبِها، أوْ مِن طُلُوعِ الفَجْرِ الصّادِقِ إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وإنَّ الثّانِيَ تَعْرِيفٌ شَرْعِيٌّ عِنْدَ الأكْثَرِ.
ونُقِلَ عَنِ الفاسِيِّ شارِحِهِ: أنَّ اليَوْمَ عِنْدَ المُنَجِّمِينَ مِنَ الطُّلُوعِ إلى الطُّلُوعِ، أوْ مِنَ الغُرُوبِ إلى الغُرُوبِ.
ثُمَّ قالَ الزَّبِيدِيُّ: ويُسْتَعْمَلُ بِمَعْنى مُطْلَقِ الزَّمانِ، نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ هِشامٍ، وحَكاهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ في قَوْلِهِمْ: (أنا، اليَوْمَ، أفْعَلُ كَذا)، فَإنَّهم لا يُرِيدُونَ يَوْمًا بِعَيْنِهِ، ولَكِنَّهم يُرِيدُونَ الوَقْتَ الحاضِرَ. قالَ: وبِهِ فَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣]
(p-٢٧٠١)ثُمَّ قالَ: وقَدْ يُرادُ بِاليَوْمِ الوَقْتُ مُطْلَقًا، ومِنهُ والحَدِيثُ: «تِلْكَ أيّامُ الهَرْجِ»، أيْ: وقْتُهُ ولا يَخْتَصُّ بِالنَّهارِ دُونَ اللَّيْلِ -انْتَهى.
وإرادَةُ الوَقْتِ مُطْلَقًا مِنهُ، عَيْنُ إرادَةِ مُطْلَقِ الزَّمانِ قَبْلَهُ، كَما يَتَبادَرُ. والظّاهِرُ أنَّ إطْلاقَهُ عَلى المُتَعارَفِ والوَقْتِ مُطْلَقًا، لُغَوِيٌّ فِيهِما -كَما نَقَلَهُما شارِحُ القامُوسِ- خِلافًا لِظاهِرِ كَلامِ الشِّهابِ السّابِقِ، فَتَثَبَّتْ هَذا.
الثّانِيَةُ: قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: يُخْبِرُ تَعالى أنَّهُ خَلَقَ العالَمَ، سَماواتِهِ وأرْضَهُ وما بَيْنَ ذَلِكَ في سِتَّةِ أيّامٍ، كَما أخْبَرَ بِذَلِكَ في غَيْرِ ما آيَةٍ مِنَ القُرْآنِ؛ والسِّتَّةُ الأيّامِ: الأحَدُ والِاثْنَيْنِ والثُّلاثاءُ والأرْبِعاءُ والخَمِيسُ والجُمُعَةُ، وفِيهِ اجْتَمَعَ الخَلْقُ كُلُّهُ، وفِيهِ خُلِقَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ. واخْتَلَفُوا في هَذِهِ الأيّامِ: هَلْ كُلُّ يَوْمٍ مِنها كَهَذِهِ الأيّامِ، كَما هو المُتَبادِرُ إلى الأذْهانِ، أوْ كُلُّ يَوْمٍ كَألْفِ سَنَةٍ، كَما نَصَّ عَلى ذَلِكَ مُجاهِدٌ والإمامُ أحْمَدَ بْنُ حَنْبَلٍ ؟ ويُرْوى مِن رِوايَةِ الضَّحّاكِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ.
فَأمّا يَوْمُ السَّبْتِ فَلَمْ يَقَعْ فِيهِ خَلْقٌ، لِأنَّهُ اليَوْمُ السّابِعُ، ومِنهُ سُمِّيَ السَّبْتُ، وهو القَطْعُ، فَأمّا الحَدِيثُ الَّذِي رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: ««أخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِي فَقالَ: خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وخَلَقَ الجِبالَ فِيها يَوْمَ الأحَدِ، وخَلَقَ الشَّجَرِ فِيها يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وخَلَقَ المَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلاثاءِ وخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأرْبِعاءِ، وبَثَّ فِيها الدَّوابَّ يَوْمَ الخَمِيسِ، وخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ العَصْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، آخِرُ الخَلْقِ في (p-٢٧٠٢)آخِرِ ساعَةٍ مِن ساعاتِ الجُمُعَةِ، فِيما بَيْنَ العَصْرِ إلى اللَّيْلِ»» فَقَدْ رَواهُ مُسْلِمُ بْنُ الحَجّاجِ في (صَحِيحِهِ) والنَّسائِيُّ، مِن غَيْرِ وجْهٍ، وفِيهِ اسْتِيعابُ الأيّامِ السَّبْعَةِ، واللَّهُ تَعالى قَدْ قالَ: في سِتَّةِ أيّامٍ، ولِهَذا تَكَلَّمَ البُخارِيُّ وغَيْرُ واحِدٍ مِنَ الحُفّاظِ في هَذا الحَدِيثِ، وجَعَلُوهُ مِن رِوايَةِ أبِي هُرَيْرَةَ عَنْ كَعْبِ الأحْبارِ، لَيْسَ مَرْفُوعًا -واللَّهُ أعْلَمُ- انْتَهى.
وقَدْ بَسَطْتُ الكَلامَ فِيهِ في شَرْحِي عَلى (الأرْبِعِينَ العِجْلُونِيَّةِ).
الثّالِثَةُ: قالَ القاضِي: في خَلْقِ الأشْياءِ مُدْرَجًا، مَعَ القُدْرَةِ عَلى إيجادِها دُفْعَةً دَلِيلٌ لِلِاخْتِيارِ، أيْ: لِأنَّهُ لَوْ كانَ بِالإيجابِ، لَصَدَرَ دُفْعَةً واحِدَةً، وفِيهِ حَثٌّ عَلى التَّأنِّي في الأُمُورِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ اعْلَمْ أنَّ الِاسْتِواءَ ورَدَ عَلى مَعانٍ اشْتَرَكَ لَفْظُهُ فِيها، فَجاءَ بِمَعْنى الِاسْتِقْرارِ ومِنهُ: ﴿واسْتَوَتْ عَلى الجُودِيِّ﴾ [هود: ٤٤] وبِمَعْنى القَصْدِ ومِنهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ [فصلت: ١١]؛ وكُلُّ مَن فَرَغَ مِن أمْرٍ وقَصَدَ لِغَيْرِهِ فَقَدِ اسْتَوى لَهُ، وإلَيْهِ. قالَ الفَرّاءُ: تَقُولُ العَرَبُ: اسْتَوى إلَيَّ يُخاصِمُنِي، أيْ أقْبَلَ عَلَيَّ، ويَأْتِي بِمَعْنى الِاسْتِيلاءِ، قالَ الشّاعِرُ:
؎قَدِ اسْتَوى بِشْرٌ عَلى العِراقِ
(p-٢٧٠٣)وقالَ آخَرُ:
؎فَلَمّا عَلَوْنا واسْتَوَيْنا عَلَيْهِمْ ∗∗∗ تَرَكْناهم صَرْعى لِنَسْرٍ وكاسِرِ
ويَأْتِي بِمَعْنى العُلُوِّ، ومِنهُ آيَةُ: ﴿فَإذا اسْتَوَيْتَ أنْتَ ومَن مَعَكَ عَلى الفُلْكِ﴾ [المؤمنون: ٢٨] ومِنهُ هَذِهِ الآيَةُ.
قالَ البُخارِيُّ في آخِرِ (صَحِيحِهِ)، في كِتابِ الرَّدِّ عَلى الجَهْمِيَّةِ، في بابِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ﴾ [هود: ٧] قالَ مُجاهِدٌ: اسْتَوى، عَلا عَلى العَرْشِ -انْتَهى.
وفِي كِتابِ (العُلُوِّ) لِلْحافِظِ الذَّهَبِيِّ: قالَ إسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ: سَمِعْتُ غَيْرَ واحِدٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ يَقُولُ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] أيِ: ارْتَفَعَ.
ونَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ أنَّهُ بِمَعْنى ارْتَفَعَ، وقالَ: إنَّهُ في كُلِّ مَواضِعِهِ بِمَعْنى عَلا وارْتَفَعَ، وأقُولُ: لا حُجَّةَ إلى الِاسْتِكْثارِ مِن ذَلِكَ، فَإنَّ الِاسْتِواءَ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وإنْ كانَ الكَيْفُ مَجْهُولًا.
رَوى الإمامُ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ في كِتابِهِ (الرَّدُّ عَلى الجَهْمِيَّةِ) عَنْ شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نافِعٍ قالَ: قالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ: اللَّهُ في السَّماءِ، وعِلْمُهُ في كُلِّ مَكانٍ، لا يَخْلُو مِنهُ شَيْءٌ.
(p-٢٧٠٤)ورَوى البَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ وهْبٍ قالَ: كُنْتُ عِنْدَ مالِكٍ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَقالَ: يا أبا عَبْدِ اللَّهِ ! ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] كَيْفَ اسْتَوى؟ فَأطْرَقَ مالِكٌ، وأخَذَتْهُ الرُّحَضاءُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقالَ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] كَما وصَفَ نَفْسَهُ، ولا يُقالُ: كَيْفَ. و(كَيْفَ) عَنْهُ مَرْفُوعٌ، وأنْتَ صاحِبُ بِدْعَةٍ.
وفِي رِوايَةٍ قالَ: الكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، والِاسْتِواءُ مِنهُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، والإيمانُ بِهِ واجِبٌ، والسُّؤالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ.
قالَ الحافِظُ الذَّهَبِيُّ في كِتابِ (العُلُوِّ) -بَعْدَما ساقَ هَذا- ما نَصُّهُ:
وهُوَ قَوْلُ أهْلِ السُّنَّةِ قاطِبَةً، أنَّ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِواءِ لا نَعْقِلُها بَلْ نَجْهَلُها، وأنَّ اسْتِواءَهُ مَعْلُومٌ، كَما أخْبَرَ في كِتابِهِ، وأنَّهُ كَما يَلِيقُ بِهِ، لا نَتَعَمَّقُ ولا نَتَحَذْلَقُ، ولا نَخُوضُ في لَوازِمِ ذَلِكَ نَفْيًا ولا إثْباتًا، بَلْ نَسْكُتُ ونَقِفُ، كَما وقَفَ السَّلَفُ، ونَعْلَمُ أنَّهُ لَوْ كانَ لَهُ تَأْوِيلٌ، لَبادَرَ إلى بَيانِهِ الصَّحابَةُ والتّابِعُونَ، ولَما وسِعَهم إقْرارُهُ وإمْرارُهُ، والسُّكُوتُ عَنْهُ، ونَعْلَمُ يَقِينًا مَعَ ذَلِكَ أنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلالُهُ، لا مِثْلَ لَهُ في صِفاتِهِ، ولا في اسْتِوائِهِ، ولا في نُزُولِهِ، سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يَقُولُ الظّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
ثُمَّ قالَ الذَّهَبِيُّ: قالَ الإمامُ العَلَمُ، أبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدَّيْنَوَرِيُّ صاحِبُ التَّصانِيفِ الشَّهِيرَةِ، في كِتابِهِ(مُخْتَلَفُ الحَدِيثِ): نَحْنُ نَقُولُ في قَوْلِ اللَّهِ تَعالى: ﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلا هو رابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] أنَّهُ مَعَهُمْ، يَعْلَمُ ما هم عَلَيْهِ، كَما تَقُولُ لِلرَّجُلِ وجَّهْتَهُ إلى بَلَدٍ شاسِعٍ: احْذَرِ التَّقْصِيرَ فَإنِّي مَعَكَ، يُرِيدُ أنَّهُ لا يَخْفى عَلَيَّ تَقْصِيرُكَ. وكَيْفَ يَسُوغُ لِأحَدٍ أنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ بِكُلِّ مَكانٍ، عَلى الحُلُولِ فِيهِ، مَعَ قَوْلِهِ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] (p-٢٧٠٥)ومَعَ قَوْلِهِ: ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: ١٠] كَيْفَ يَصْعَدُ إلَيْهِ شَيْءٌ هو مَعَهُ؟ وكَيْفَ تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ وهي مَعَهُ؟ قالَ: ولَوْ أنَّ هَؤُلاءِ رَجَعُوا إلى فِطْرَتِهِمْ، وما رُكِّبَتْ عَلَيْهِ ذَواتُهُمْ، مِن مَعْرِفَةِ الخالِقِ، لَعَلِمُوا أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ هو العَلِيُّ وهو الأعْلى، وأنَّ الأيْدِيَ تُرْفَعُ بِالدُّعاءِ إلَيْهِ، والأُمَمُ كُلُّها عَجَمِيُّها وعَرَبِيُّها يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ في السَّماءِ، ما تُرِكَتْ عَلى فِطَرِها. انْتَهى.
ثُمَّ قالَ الذَّهَبِيُّ أيْضًا: عَنْ يَزِيدَ بْنِ هارُونَ شَيْخِ الإسْلامِ، أنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَنِ الجَهْمِيَّةُ ؟ قالَ: مَن زَعَمَ أنَّ ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] عَلى خِلافِ ما يَقِرُّ في قُلُوبِ العامَّةِ، فَهو جَهْمِيٌّ.
قالَ الذَّهَبِيُّ والعامَّةُ، مُرادُهُ بِهِمْ، جُمْهُورُ الأُمَّةِ وأهْلُ العِلْمِ، والَّذِي وقَرَ في قُلُوبِهِمْ مِنَ الآيَةِ، هو ما دَلَّ عَلَيْهِ الخِطابُ، مَعَ يَقِينِهِمْ بِأنَّ المُسْتَوِيَ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] هَذا هو الَّذِي وقَرَ في فِطَرِهِمُ السَّلِيمَةِ، وأذْهانِهِمُ الصَّحِيحَةِ، ولَوْ كانَ لَهُ مَعْنًى وراءَ ذَلِكَ، لَتَفَوَّهُوا بِهِ، ولَما أهْمَلُوهُ، ولَوْ تَأوَّلَ أحَدٌ مِنهم الِاسْتِواءَ، لَتَوَفَّرَتِ الهِمَمُ عَلى نَقْلِهِ، ولَوْ نُقِلَ لاشْتُهِرَ. فَإنْ كانَ في بَعْضِ جَهَلَةِ الأغْبِياءِ مَن يَفْهَمُ مِن (الِاسْتِواءِ) ما يُوجِبُ نَقْصًا أوْ قِياسًا لِلشّاهِدِ عَلى الغائِبِ، ولِلْمَخْلُوقِ عَلى الخالِقِ -فَهَذا نادِرٌ. فَمَن نَطَقَ بِذَلِكَ زُجِرَ وعُلِّمَ، وما أظُنُّ أحَدًا مِنَ العامَّةِ يَقِرُّ في نَفْسِهِ ذَلِكَ -واللَّهُ أعْلَمُ- انْتَهى.
(p-٢٧٠٦)وقالَ الشَّيْخُ الإمامُ العارِفُ قُدْوَةُ العارِفِينَ، الشَّيْخُ عَبْدُ القادِرِ الجِيلانِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ في كِتابِهِ (تُحْفَةُ المُتَّقِينَ وسَبِيلُ العارِفِينَ) في بابِ اخْتِلافِ المَذاهِبِ في صِفاتِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وفي ذِكْرِ اخْتِلافِ النّاسِ في الوَقْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٧] قالَ إسْحاقُ: في العِلْمِ، إلى أنْ قالَ: واللَّهُ تَعالى بِذاتِهِ عَلى العَرْشِ، عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ مَكانٍ والوَقْفُ عِنْدَ أهْلِ الحَقِّ عَلى قَوْلِهِ " إلّا اللَّهُ " .
وقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ فاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وهَذا الوَقْفُ حَسُنَ لِمَنِ اعْتَقَدَ أنَّ اللَّهَ بِذاتِهِ عَلى العَرْشِ، ويَعْلَمُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ، إلى أنْ قالَ: ووَقَفَ جَماعَةٌ مِن مُنْكِرِي اسْتِواءِ الرَّبِّ عَزَّ وجَلَّ عَلى قَوْلِهِ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ﴾ [طه: ٥] " وابْتَدَؤُوا بِقَوْلِهِ: ﴿اسْتَوى﴾ [طه: ٥] ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ [طه: ٦] " يُرِيدُونَ بِذَلِكَ نَفْيَ الِاسْتِواءِ الَّذِي وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وهَذا خَطَأٌ مِنهُمْ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى اسْتَوى عَلى العَرْشِ بِذاتِهِ.
وقالَ في كِتابِهِ (الغِنْيَةِ: أمّا مَعْرِفَةُ الصّانِعِ بِالآياتِ والدَّلالاتِ عَلى وجْهِ الِاخْتِصارِ، فَهو أنْ تَعْرِفَ وتَتَيَقَّنَ أنَّ اللَّهَ واحِدٌ أحَدٌ. إلى أنْ قالَ: لا يَخْلُو مِن عِلْمِهِ مَكانٌ، ولا يَجُوزُ وصْفُهُ بِأنَّهُ في كُلِّ مَكانٍ، بَلْ يُقالُ إنَّهُ في السَّماءِ عَلى العَرْشِ، كَما قالَ جَلَّ ثَناؤُهُ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ الرَّحْمَنُ﴾ [الفرقان: ٥٩] وقالَ تَعالى: (p-٢٧٠٧)﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠] «والنَّبِيُّ ﷺ حَكَمَ بِإسْلامِ الأمَةِ لَمّا قالَ لَها: أيْنَ اللَّهُ؟ فَأشارَتْ إلى السَّماءِ» . وقالَ النَّبِيُّ ﷺ في حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «لَمّا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ كِتابًا عَلى نَفْسِهِ، وهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ، إنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي»» .
وفِي لَفْظٍ آخَرَ: ««لَمّا قَضى اللَّهُ سُبْحانَهُ الخَلْقَ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ في كِتابٍ، فَهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي»» .
ويَنْبَغِي إطْلاقُ صِفَةِ الِاسْتِواءِ مِن غَيْرِ تَأْوِيلٍ، وأنَّهُ اسْتِواءُ الذّاتِ عَلى العَرْشِ، لا عَلى مَعْنى القُعُودِ والمُماسَّةِ، كَما قالَتِ المُجَسِّمَةُ والكَرامِيَّةُ، ولا عَلى مَعْنى العُلُوِّ والرِّفْعَةِ، كَما قالَتِ الأشْعَرِيَّةُ، ولا عَلى الِاسْتِيلاءِ والغَلَبَةِ، كَما قالَتِ المُعْتَزِلَةُ، لِأنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ، ولا نُقِلَ عَنْ أحَدٍ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ مِنَ السَّلَفِ الصّالِحِ مِن أصْحابِ الحَدِيثِ، ذَلِكَ، بَلِ المَنقُولُ عَنْهم حَمْلُهُ (p-٢٧٠٨)عَلى الإطْلاقِ.
وقَدْ رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] «الكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، والِاسْتِواءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، والإقْرارُ بِهِ واجِبٌ، والجُحُودُ بِهِ كُفْرٌ»
وقَدْ أسْنَدَهُ مُسْلِمُ بْنُ الحَجّاجِ عَنْها عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في (صَحِيحِهِ)، وكَذَلِكَ في حَدِيثِ أنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقالَ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَرِيبٍ: أخْبارُ الصِّفاتِ تُمَرُّ كَما جاءَتْ، بِلا تَشْبِيهٍ ولا تَعْطِيلٍ، وقالَ أيْضًا (فِي رِوايَةِ بَعْضِهِمْ): لَسْتُ بِصاحِبِ كَلامٍ، ولا أرى الكَلامَ في شَيْءٍ مِن هَذِهِ الأماكِنِ، وفي كِتابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، أوْ حَدِيثٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، أوْ عَنْ أصْحابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أوْ عَنِ التّابِعِينَ، فَأمّا غَيْرُ ذَلِكَ، فَإنَّ الكَلامَ فِيهِ غَيْرُ مَحْمُودٍ، فَلا يُقالُ في صِفاتِ الرَّبِّ عَزَّ وجَلَّ (كَيْفَ)؟ و(لِمَ)؟ لا يَقُولُ ذَلِكَ إلّا شَكّاكٌ.
وقالَ أحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (فِي رِوايَةٍ عَنْهُ، في مَوْضِعٍ آخَرَ): نَحْنُ نُؤْمِنُ بِأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ عَلى العَرْشِ كَيْفَ شاءَ، وكَما شاءَ، بِلا حَدٍّ ولا صِفَةٍ يَبْلُغُها واصِفٌ ويَحُدُّها حادٌّ، لِما رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ كَعْبِ الأحْبارِ، قالَ، قالَ اللَّهُ تَعالى في (التَّوْراةِ): أنا اللَّهُ فَوْقَ عِبادِي، وعَرْشِي فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِي، وأنا عَلى عَرْشِي، عَلَيْهِ أُدَبِّرُ عِبادِي، ولا يَخْفى عَلَيَّ شَيْءٌ مِن عِبادِي.
وكَوْنُهُ عَزَّ وجَلَّ عَلى العَرْشِ مَذْكُورٌ في كُلِّ كِتابٍ أُنْزِلَ عَلى كُلِّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ، بِلا كَيْفٍ، ولِأنَّ اللَّهَ تَعالى -فِيما لَمْ يَزَلْ- مَوْصُوفٌ بِالعُلُوِّ والقُدْرَةِ والِاسْتِيلاءِ والغَلَبَةِ عَلى جَمِيعِ خَلْقِهِ، مِنَ العَرْشِ وغَيْرِهِ. فَلا يُحْمَلُ الِاسْتِواءُ عَلى ذَلِكَ، فالِاسْتِواءُ مِن صِفاتِ الذّاتِ، بَعْدَ ما أخْبَرَنا بِهِ، ونَصَّ عَلَيْهِ وأكَّدَهُ في سَبْعِ آياتٍ مِن كِتابِهِ، والسُّنَّةِ المَأْثُورَةِ بِهِ، وهو صِفَةٌ لازِمَةٌ لَهُ، ولائِقَةٌ بِهِ، كاليَدِ والوَجْهِ والعَيْنِ والسَّمْعِ والبَصَرِ، والحَياةِ والقُدْرَةِ، وكَوْنُهُ خالِقًا ورازِقًا ومُحْيِيًا ومُمِيتًا، مَوْصُوفٌ بِها، ولا نَخْرُجُ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، نَقْرَأُ الآيَةَ والخَبَرَ، ونُؤْمِنُ بِما فِيهِما، ونَكِلُ الكَيْفِيَّةَ في الصِّفاتِ إلى عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، (p-٢٧٠٩)كَما قالَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَما وصَفَ اللَّهُ تَعالى نَفْسَهُ في كِتابِهِ، فَتَفْسِيرُهُ قِراءَتُهُ. لا تَفْسِيرَ لَهُ غَيْرُها، ولَمْ نَتَكَلَّفْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإنَّهُ غَيْبٌ لا مَجالَ لِلْعَقْلِ في إدْراكِهِ، ونَسْألُ اللَّهَ تَعالى العَفْوَ والعافِيَةَ، ونَعُوذُ بِهِ مِن أنْ نَقُولَ فِيهِ وفي صِفاتِهِ ما لَمْ يُخْبِرْنا بِهِ هو أوْ رَسُولُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ. انْتَهى كَلامُ الجِيلانِيِّ قُدِّسَ سِرُّهُ.
ورَوى أبُو إسْماعِيلَ الأنْصارِيُّ في (ذَمِّ الكَلامِ وأهْلِهِ) عَنْ أبِي زُرْعَةَ الرّازِيِّ، أنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] فَغَضِبَ وقالَ: تَفْسِيرُهُ كَما تَقْرَأُ، هو عَلى عَرْشِهِ، وعِلْمُهُ في كُلِّ مَكانٍ، مَن قالَ غَيْرَ هَذا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ.
وأُسْنِدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي حاتِمٍ قالَ: سَألْتُ أبِي وأبا زُرْعَةَ عَنْ مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ في أُصُولِ الدِّينِ، وما أدْرَكا عَلَيْهِ العُلَماءَ في جَمِيعِ الأمْصارِ، وما يَعْتَقِدانِ مِن ذَلِكَ؟ فَقالا: أدْرَكْنا العُلَماءَ في جَمِيعِ الأمْصارِ، حِجازًا وعِراقًا، ومِصْرًا وشامًا ويَمَنًا، فَكانَ مِن مَذْهَبِهِمْ أنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالى عَلى عَرْشِهِ، بائِنٌ مِن خَلْقِهِ، كَما وصَفَ نَفْسَهُ، بِلا كَيْفٍ، أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.
تَنْبِيهاتٌ:
الأوَّلُ: في بُطْلانِ تَأْوِيلِ (اسْتَوى) بِ(اسْتَوْلى):
قالَ الإمامُ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ يَحْيى الكِنانِيُّ، صاحِبُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُما اللَّهُ تَعالى، في كِتابِ (الرَّدِّ عَلى الجَهْمِيَّةِ): زَعَمَتِ الجَهْمِيَّةُ أنَّ مَعْنى اسْتَوى (اسْتَوْلى) مِن قَوْلِ العَرَبِ: اسْتَوى فُلانٌ عَلى مِصْرَ، يُرِيدُونَ اسْتَوْلى عَلَيْها. قالَ: فَيُقالُ لَهُ: هَلْ يَكُونُ خَلْقٌ مِن خَلْقِ اللَّهِ أتَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَيْسَ بِمُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ؟ فَإذا قالَ لا، قِيلَ لَهُ: فَمَن زَعَمَ ذَلِكَ فَهو كافِرٌ، فَيُقالُ لَهُ: يَلْزَمُكَ أنْ تَقُولَ: إنَّ العَرْشَ أتَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَيْسَ اللَّهُ بِمُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ أخْبَرَ أنَّهُ سُبْحانَهُ خَلَقَ العَرْشَ قَبْلَ السَّماواتِ والأرْضِ، ثُمَّ اسْتَوْلى عَلَيْهِ بَعْدَ خَلْقِهِنَّ، فَيَلْزَمُكَ أنْ تَقُولَ: المُدَّةُ الَّتِي كانَ العَرْشُ قَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ لَيْسَ اللَّهُ بِمُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ فِيها، ثُمَّ ذَكَرَ كَلامًا طَوِيلًا في تَقْرِيرِ العُلُوِّ والِاحْتِجاجِ عَلَيْهِ.
(p-٢٧١٠)وقالَ ابْنُ عَرَفَةَ في كِتابِ (الرَّدِّ عَلى الجَهْمِيَّةِ): حَدَّثَنا داوُدُ بْنُ عَلِيٍّ قالَ: كُنّا عِنْدَ ابْنِ الأعْرابِيِّ، فَأتاهُ رَجُلٌ فَقالَ: ما مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] ؟ قالَ: هو عَلى عَرْشِهِ كَما أخْبَرَ، فَقالَ: يا أبا عَبْدِ اللَّهِ ! إنَّما مَعْناهُ اسْتَوْلى. فَقالَ: اسْكُتْ، لا يُقالُ اسْتَوْلى عَلى الشَّيْءِ حَتّى يَكُونَ لَهُ فِيهِ مُضادٌّ، فَأيُّهُما غَلَبَ، قِيلَ: اسْتَوْلى، واللَّهُ تَعالى لا مُضادَّ لَهُ، وهو عَلى عَرْشِهِ كَما أخْبَرَ. ثُمَّ قالَ الِاسْتِيلاءُ بَعْدَ المُغالَبَةِ، كَما قالَ النّابِغَةُ:
؎إلّا لِمِثْلِكَ أوْ مَن أنْتَ سابِقُهُ ∗∗∗ سَبْقَ الجَوادِ إذا اسْتَوْلى عَلى الأمَدِ
ورَوى الخَطِيبُ البَغْدادِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أحْمَدَ بْنِ النَّضِرِ قالَ: كانَ ابْنُ الأعْرابِيِّ جارَنا، وكانَ لَيْلُهُ أحْسَنَ لَيْلٍ، وذَكَرَ لَنا أنَّ ابْنَ أبِي دَؤُادَ سَألَهُ: أتَعْرِفُ في اللُّغَةِ اسْتَوى بِمَعْنى اسْتَوْلى؟ فَقالَ لا أعْرِفُهُ ! وفي رِوايَةٍ: أرادَنِي ابْنُ أبِي دَؤُادَ أنْ أطْلُبَ لَهُ في بَعْضِ لُغاتِ العَرَبِ ومَعانِيها (p-٢٧١١)﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] اسْتَوى بِمَعْنى اسْتَوْلى، فَقُلْتُ لَهُ: واللَّهِ ما يَكُونُ هَذا، ولا وجَدْتُهُ. وابْنُ الأعْرابِيِّ أبُو عَبْدِ اللَّهِ كانَ لُغَوِيَّ زَمانِهِ -كَما قالَ الذَّهَبِيُّ -.
وقالَ الإمامُ أبُو الحَسَنِ الأشْعَرِيُّ في كِتابِهِ الَّذِي سَمّاهُ (الإبانَةُ في أُصُولِ الدِّيانَةِ)، وقَدْ ذَكَرَ أصْحابُهُ أنَّهُ آخِرُ كِتابٍ صَنَّفَهُ، وعَلَيْهِ يَعْتَمِدُونَ في الذَّبِّ عَنْهُ، عِنْدَ مَن يَطْعَنُ عَلَيْهِ، فَقالَ:
فَصْلٌ
فِي إبانَةِ قَوْلِ أهْلِ الحَقِّ والسُّنَّةِ
فَإنْ قالَ قائِلٌ: قَدْ أنْكَرْتُمْ قَوْلَ المُعْتَزِلَةِ والقَدَرِيَّةِ والجَهْمِيَّةِ والحَرُورِيَّةِ والرّافِضَةِ والمُرْجِئَةِ، فَعَرِّفُونا قَوْلَكُمُ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ.
قِيلَ لَهُ: قَوْلُنا الَّذِي نَقُولُ بِهِ التَّمَسُّكُ بِكِتابِ رَبِّنا، وسُنَّةِ نَبِيِّنا، وما رُوِيَ عَنِ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ، وأئِمَّةِ الحَدِيثِ، ونَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ، وبِما كانَ يَقُولُ أبُو عَبْدِ اللَّهِ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نَضَّرَ اللَّهُ وجْهَهُ، ورَفَعَ دَرَجَتَهُ، وأجْزَلَ مَثُوبَتَهُ قائِلُونَ، ولَمّا خالَفَ قَوْلَهُ مُخالِفُونَ، لِأنَّهُ الإمامُ الفاضِلُ، والرَّئِيسُ الكامِلُ، الَّذِي أبانَ اللَّهُ بِهِ الحَقَّ، ودَفَعَ بِهِ الضَّلالَ، وقَمَعَ بِهِ بِدَعَ المُبْتَدِعِينَ، وزَيْغَ الزّائِغِينَ.
ثُمَّ قالَ في (بابِ الِاسْتِواءِ عَلى العَرْشِ): إنْ قالَ قائِلٌ: ما تَقُولُونَ في الِاسْتِواءِ؟ قِيلَ لَهُ: نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلى عَرْشِهِ كَما قالَ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] وقَدْ قالَ اللَّهُ: ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠] وقالَ: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ﴾ [النساء: ١٥٨] (p-٢٧١٢)وقالَ: ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ﴾ [السجدة: ٥] وقالَ حِكايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: ﴿وقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ﴾ [غافر: ٣٦] ﴿أسْبابَ السَّماواتِ فَأطَّلِعَ إلى إلَهِ مُوسى وإنِّي لأظُنُّهُ كاذِبًا﴾ [غافر: ٣٧] كَذَّبَ مُوسى في قَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّماواتِ، وقالَ: ﴿أأمِنتُمْ مَن في السَّماءِ أنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ﴾ [الملك: ١٦] فالسَّماواتُ فَوْقَها العَرْشُ، فَلَمّا كانَ العَرْشُ فَوْقَ السَّماواتِ قالَ: ﴿أأمِنتُمْ مَن في السَّماءِ﴾ [الملك: ١٦] لِأنَّهُ مُسْتَوٍ عَلى العَرْشِ الَّذِي هو فَوْقَ السَّماواتِ، وكُلُّ ما عَلا فَهو سَماءٌ، والعَرْشُ أعْلى السَّماواتِ، ولَيْسَ إذا قالَ: أأمِنتُمْ مَن في السَّماءِ، يَعْنِي جَمِيعَ السَّماءِ، وإنَّما أرادَ العَرْشَ الَّذِي هو أعْلى السَّماواتِ. ألا تَرى أنَّ اللَّهَ ذَكَرَ السَّماواتِ فَقالَ: ﴿وجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا﴾ [نوح: ١٦] فَلَمْ يُرِدْ أنَّ القَمَرَ يَمْلَؤُهُنَّ، وأنَّهُ فِيهِنَّ جَمِيعًا. ورَأيْنا المُسْلِمِينَ جَمِيعًا يَرْفَعُونَ أيْدِيَهُمْ، إذا دَعَوْا، نَحْوَ السَّماءِ لِأنَّ اللَّهَ عَلى العَرْشِ الَّذِي هو فَوْقَ السَّماواتِ، فَلَوْلا أنَّ اللَّهَ عَلى العَرْشِ لَمْ يَرْفَعُوا أيْدِيَهم نَحْوَ العَرْشِ، كَما لا يَحُطُّونَها، إذا دَعَوْا، إلى الأرْضِ.
ثُمَّ قالَ:
فَصْلٌ
وقَدْ قالَ قائِلُونَ مِنَ المُعْتَزِلَةِ والجَهْمِيَّةِ والحَرُورِيَّةِ: إنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] أنَّهُ اسْتَوْلى ومَلَكَ وقَهَرَ، وأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ في كُلِّ مَكانٍ، (p-٢٧١٣)وجَحَدُوا أنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلى عَرْشِهِ، كَما قالَ أهْلُ الحَقِّ، وذَهَبُوا في الِاسْتِواءِ إلى (القُدْرَةِ)، فَلَوْ كانَ هَذا كَما ذَكَرُوهُ، كانَ لا فَرْقَ بَيْنَ العَرْشِ والأرْضِ السّابِعَةِ، لِأنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، فاللَّهُ قادِرٌ عَلى الأرْضِ، وعَلى الحُشُوشِ، وعَلى كُلِّ ما في العالَمِ. فَلَوْ كانَ اللَّهُ مُسْتَوِيًا عَلى العَرْشِ بِمَعْنى (الِاسْتِيلاءِ)، وهو عَزَّ وجَلَّ مُسْتَوْلٍ عَلى الأشْياءِ كُلِّها، لَكانَ مُسْتَوِيًا عَلى العَرْشِ، وعَلى الأرْضِ، وعَلى السَّماءِ، وعَلى الحُشُوشِ والأقْذارِ لِأنَّهُ قادِرٌ عَلى الأشْياءِ، مُسْتَوْلٍ عَلَيْها، وإذا كانَ قادِرًا عَلى الأشْياءِ كُلِّها، ولَمْ يَجُزْ عِنْدَ أحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ أنْ يَقُولَ إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلى الحُشُوشِ والأخْلِيَةِ، لَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ الِاسْتِواءُ عَلى العَرْشِ (الِاسْتِيلاءَ) الَّذِي هو عامٌّ في الأشْياءِ كُلِّها، ووَجَبَ أنْ يَكُونَ مَعْنى الِاسْتِواءِ يَخْتَصُّ العَرْشَ دُونَ الأشْياءِ كُلِّها. وذَكَرَ دَلالاتٍ مِنَ القُرْآنِ والحَدِيثِ والإجْماعِ والعَقْلِ -انْتَهى.
قُلْتُ: وكَلامُ أبِي الحَسَنِ الأشْعَرِيِّ الأخِيرِ مَأْخُوذٌ مِن كِتابِ رَدِّ الإمامِ أحْمَدَ عَلى الجَهْمِيَّةِ، حَيْثُ قالَ في كِتابِهِ المَذْكُورِ:
ومِمّا أنْكَرَتِ الجَهْمِيَّةُ الضُّلّالُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَلى العَرْشِ، فَقُلْنا: لِمَ أنْكَرْتُمْ ذَلِكَ؟ إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ عَلى العَرْشِ، وقَدْ قالَ سُبْحانَهُ ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] وقالَ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ الرَّحْمَنُ فاسْألْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٩] قالُوا: هو تَحْتَ الأرَضِينَ السّابِعَةِ كَما هو عَلى العَرْشِ، فَهو عَلى العَرْشِ، وفي السَّماواتِ، وفي الأرْضِ، وفي كُلِّ مَكانٍ، لا يَخْلُو مِنهُ مَكانٌ، ولا يَكُونُ في مَكانٍ دُونَ مَكانٍ. وتَلُوا آياتٍ مِنَ القُرْآنِ: ﴿وهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ وفي الأرْضِ﴾ [الأنعام: ٣] فَقُلْنا: قَدْ عَرَفَ المُسْلِمُونَ أماكِنَ كَثِيرَةً، ولَيْسَ فِيها مِن عَظَمَةِ (p-٢٧١٤)اللَّهِ شَيْءٌ فَقالُوا: أيُّ مَكانٍ؟ فَقُلْنا: أحْشاؤُكم وأجْوافُ الخَنازِيرِ والحُشُوشُ والأماكِنُ القَذِرَةُ لَيْسَ فِيها مِن عَظَمَةِ الرَّبِّ سُبْحانَهُ شَيْءٌ، وقَدْ أخْبَرَنا أنَّهُ في السَّماءِ، فَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿أأمِنتُمْ مَن في السَّماءِ أنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ﴾ [الملك: ١٦] الآيَةَ. وقالَ ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠] وقالَ: ﴿ولَهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ ومَن عِنْدَهُ﴾ [الأنبياء: ١٩] وقالَ: ﴿إنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافِعُكَ إلَيَّ﴾ [آل عمران: ٥٥] وقالَ: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ﴾ [النساء: ١٥٨] وقالَ: ﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: ٥٠] وقالَ: ﴿تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ﴾ [المعارج: ٤] وقالَ: ﴿وهُوَ القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وهو الحَكِيمُ الخَبِيرُ﴾ [الأنعام: ١٨] - فَهَذا أخْبَرَ اللَّهُ أنَّهُ في السَّماءِ، ووَجَدْنا كُلَّ شَيْءٍ أسْفَلَ مَذْمُومًا.
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ المُنافِقِينَ في الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ﴾ [النساء: ١٤٥] ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أرِنا اللَّذَيْنِ أضَلانا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الأسْفَلِينَ﴾ [فصلت: ٢٩] وقُلْنا لَهُمْ: ألَيْسَ تَعْلَمُونَ أنَّ إبْلِيسَ كانَ مَكانَهُ، (p-٢٧١٥)والشَّياطِينَ مَكانَهُمْ؟ فَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَجْتَمِعَ هو وإبْلِيسُ، ولَكِنْ إنَّما مَعْنى قَوْلِهِ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿وهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ وفي الأرْضِ﴾ [الأنعام: ٣] يَقُولُ: هو إلَهُ مَن في السَّماواتِ، وإلَهُ مَن في الأرْضِ، وهو عَلى العَرْشِ ! وقَدْ أحاطَ بِعِلْمِهِ ما دُونَ العَرْشِ، لا يَخْلُو مِن عِلْمِ اللَّهِ مَكانٌ، ولا يَكُونُ عِلْمُ اللَّهِ في مَكانٍ دُونَ مَكانٍ، وذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأنَّ اللَّهَ قَدْ أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: ١٢]
قالَ: ومِن الِاعْتِبارِ في ذَلِكَ: لَوْ أنَّ رَجُلًا كانَ في يَدِهِ قَدَحٌ مِن قَوارِيرَ صافٍ، وفِيهِ شَيْءٌ، كانَ بَصَرُ ابْنِ آدَمَ قَدْ أحاطَ بِالقَدَحِ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ ابْنُ آدَمَ في القَدَحِ، فاللَّهُ سُبْحانَهُ -ولَهُ المَثَلُ الأعْلى- قَدْ أحاطَ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ، مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ في شَيْءٍ مِن خَلْقِهِ. وخَصْلَةٌ أُخْرى: لَوْ أنَّ رَجُلًا بَنى دارًا بِجَمِيعِ مَرافِقِها، ثُمَّ أغْلَقَ بابَها وخَرَجَ مِنها، كانَ ابْنُ آدَمَ لا يَخْفى عَلَيْهِ كَمْ بَيْتًا في دارِهِ، وكَمْ سِعَةُ كُلِّ بَيْتٍ، مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ صاحِبُ الدّارِ في جَوْفِ الدّارِ. فاللَّهُ سُبْحانَهُ -ولَهُ المَثَلُ الأعْلى- قَدْ أحاطَ بِجَمِيعِ ما خَلَقَ، وقَدْ عَلِمَ كَيْفَ هُوَ، وما هُوَ، مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ في شَيْءٍ مِمّا خَلَقَ.
قالَ أحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ومِمّا تَأوَّلَ الجَهْمِيَّةُ مِن قَوْلِ اللَّهِ سُبْحانَهُ: ﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلا هو رابِعُهم ولا خَمْسَةٍ إلا هو سادِسُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] إلى أنْ قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: ٧] قالُوا: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ مَعَنا وفِينا. فَقُلْنا: لِمَ قَطَعْتُمُ الخَبَرَ مِن أوَّلِهِ؟ إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلا هو رابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] يَعْنِي أنَّ اللَّهَ بِعِلْمِهِ رابِعُهُمْ، ﴿ولا خَمْسَةٍ إلا هو سادِسُهم ولا أدْنى مِن ذَلِكَ ولا أكْثَرَ إلا هو مَعَهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] بِعِلْمِهِ فِيهِمْ، يَفْتَحُ الخَبَرَ بِعِلْمِهِ، ويَخْتِمُهُ بِعِلْمِهِ. انْتَهى.
(p-٢٧١٦)ثُمَّ قالَ الإمامُ أحْمَدُ في آخِرِ كِتابِهِ المَذْكُورِ: وقُلْنا لِلْجَهْمِيَّةِ: زَعَمْتُمْ أنَّ اللَّهَ في كُلِّ مَكانٍ، لا يَخْلُو مِنهُ مَكانٌ، فَقُلْنا لَهُمْ: أخْبِرُونا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَناؤُهُ: ﴿فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ [الأعراف: ١٤٣] لِمَ تَجَلّى، إذا كانَ فِيهِ بِزَعْمِكُمْ؟ ولَوْ كانَ فِيهِ، كَما تَزْعُمُونَ، لَمْ يَكُنْ يَتَجَلّى لِشَيْءٍ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعالى عَلى العَرْشِ، وتَجَلّى لِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ، ورَأى الجَبَلُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ يَراهُ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ.
وقُلْنا لِلْجَهْمِيَّةِ: اللَّهُ نُورٌ؟ فَقالُوا: نُورٌ كُلُّهُ. فَقُلْنا: قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وأشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّها﴾ [الزمر: ٦٩]
فَقَدْ أخْبَرَ جَلَّ ثَناؤُهُ أنَّ لَهُ نُورًا، قُلْنا: أخْبِرُونا، حِينَ زَعَمْتُمْ أنَّ اللَّهَ في كُلِّ مَكانٍ، وهو نُورٌ، فَلِمَ لا يُضِيءُ البَيْتُ المُظْلِمُ مِنَ النُّورِ الَّذِي هو فِيهِ إذا زَعَمْتُمْ أنَّ اللَّهَ في كُلِّ مَكانٍ؟ وما بالُ السِّراجِ إذا أُدْخِلَ البَيْتَ المُظْلِمَ يُضِيءُ؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ كَذِبُهم عَلى اللَّهِ.
فَرَحِمَ اللَّهُ مَن عَقَلَ عَنِ اللَّهِ، ورَجَعَ عَنِ القَوْلِ الَّذِي يُخالِفُ الكِتابَ والسُّنَّةَ، وقالَ بِقَوْلِ العُلَماءِ، وهو قَوْلُ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ، وتَرَكَ دِينَ الشَّيْطانِ، ودِينَ جَهْمٍ وشِيعَتِهِ. انْتَهى.
وقالَ الإمامُ الحافِظُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ في كِتابِ (التَّمْهِيدُ) في شَرْحِ حَدِيثِ: ««يَنْزِلُ رَبُّنا (p-٢٧١٧)كُلَّ لَيْلَةٍ»» الحَدِيثَ، ما نَصُّهُ: هَذا الحَدِيثُ ثابِتٌ مِن جِهَةِ النَّقْلِ، صَحِيحُ الإسْنادِ، لا يَخْتَلِفُ أهْلُ الحَدِيثِ في صِحَّتِهِ، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى في السَّماءِ، عَلى العَرْشِ مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ، كَما قالَتِ الجَماعَةُ، وهو حُجَّتُهم عَلى المُعْتَزِلَةِ والجَهْمِيَّةِ في قَوْلِهِمْ: (إنَّ اللَّهَ في كُلِّ مَكانٍ، ولَيْسَ عَلى العَرْشِ). والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ ما قالَهُ أهْلُ الحَقِّ في ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] ثُمَّ ساقَ عِدَّةَ آياتٍ في ذَلِكَ، وقالَ: هَذِهِ الآياتُ كُلُّها واضِحاتٌ في إبْطالِ قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ. وأمّا ادِّعاؤُهُمُ المَجازَ في الِاسْتِواءِ، وقَوْلُهم في تَأْوِيلِ " اسْتَوى " اسْتَوْلى، فَلا مَعْنى لَهُ، لِأنَّهُ غَيْرُ ظاهِرٍ في اللُّغَةِ. ومَعْنى الِاسْتِيلاءِ في اللُّغَةِ المُغالَبَةُ، واللَّهُ تَعالى لا يُغالِبُهُ أحَدٌ، وهو الواحِدُ الصَّمَدُ.
ومِن حَقِّ الكَلامِ أنْ يُحْمَلَ عَلى حَقِيقَتِهِ، حَتّى تَتَّفِقَ الأُمَّةُ أنَّهُ أُرِيدَ بِهِ المَجازُ، إذْ لا سَبِيلَ إلى اتِّباعِ ما أُنْزِلَ إلَيْنا مِن رَبِّنا تَعالى إلّا عَلى ذَلِكَ، وإنَّما يُوَجَّهُ كَلامُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى الأشْهَرِ والأظْهَرِ مِن وُجُوهِهِ، ما لَمْ يَمْنَعْ مِن ذَلِكَ ما يَجِبُ لَهُ التَّسْلِيمُ.
ولَوْ ساغَ ادِّعاءُ المَجازِ لِكُلِّ مُدَّعٍ، ما ثَبَتَ شَيْءٌ مِنَ العِباداتِ. وجَلَّ اللَّهُ أنْ يُخاطِبَ إلّا بِما تَفْهَمُهُ العَرَبُ، مِن مَعْهُودِ مُخاطِباتِها مِمّا يَصِحُّ مَعْناهُ عِنْدَ السّامِعِينَ، والِاسْتِواءُ مَعْلُومٌ في اللُّغَةِ مَفْهُومٌ، وهو العُلُوُّ والِارْتِفاعُ عَلى الشَّيْءِ، والِاسْتِقْرارُ والتَّمَكُّنُ فِيهِ.
قالَ أبُو عُبَيْدَةَ في قَوْلِهِ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] قالَ: عَلا، قالَ: تَقُولُ العَرَبُ: اسْتَوَيْتُ فَوْقَ الدّابَّةِ واسْتَوَيْتُ فَوْقَ البَيْتِ. وقالَ غَيْرُهُ: اسْتَوى أيِ اسْتَقَرَّ، واحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَمّا بَلَغَ أشُدَّهُ واسْتَوى﴾ [القصص: ١٤] انْتَهى شَبابُهُ واسْتَقَرَّ، فَلَمْ يَكُنْ في شَبابِهِ مَزِيدٌ.
قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: الِاسْتِواءُ: الِاسْتِقْرارُ في العُلُوِّ، وبِهَذا خاطَبَنا اللَّهُ تَعالى في كِتابِهِ فَقالَ: (p-٢٧١٨)﴿لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكم إذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ [الزخرف: ١٣] وقالَ تَعالى: ﴿واسْتَوَتْ عَلى الجُودِيِّ﴾ [هود: ٤٤] وقالَ تَعالى: ﴿فَإذا اسْتَوَيْتَ أنْتَ ومَن مَعَكَ عَلى الفُلْكِ﴾ [المؤمنون: ٢٨] وقالَ الشّاعِرُ:
؎فَأوْرِدَتُهم ماءً بِفَيْفاءَ قَفْرَةٍ ∗∗∗ وقَدْ حَلَّقَ النَّجْمُ اليَمانِيُّ فاسْتَوى
وهَذا لا يَجُوزُ أنْ يَتَأوَّلَ فِيهِ أحَدٌ (اسْتَوْلى)، لِأنَّ النَّجْمَ لا يَسْتَوْلِي. وقَدْ ذَكَرَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ -وكانَ ثِقَةً مَأْمُونًا جَلِيلًا في عِلْمِ الدِّيانَةِ واللُّغَةِ- قالَ: حَدَّثَنِي الخَلِيلُ - وحَسْبُكَ بِالخَلِيلِ - قالَ: أتَيْتُ أبا رَبِيعَةَ الأعْرابِيَّ، وكانَ مِن أعْلَمِ ما رَأيْتُ، فَإذا هو عَلى سَطْحٍ، فَسَلَّمْنا، فَرَدَّ عَلَيْنا السَّلامَ، وقالَ: (اسْتَوُوا)، فَبَقِينا مُتَحَيِّرِينَ ولَمْ نَدْرِ ما قالَ، فَقالَ لَنا أعْرابِيٌّ إلى جانِبِهِ: إنَّهُ أمَرَكم أنْ تَرَفَّعُوا، فَقالَ الخَلِيلُ: هو مِن قَوْلِ اللَّهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ [فصلت: ١١] فَصَعِدْنا إلَيْهِ، قالَ: وأمّا مَن نَزَعَ مِنهم بِحَدِيثٍ يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ داوُدَ الواسِطِيُّ، (p-٢٧١٩)عَنْ إبْراهِيمَ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ عَبْدِ الوَهّابِ بْنِ مُجاهِدٍ عَنْ أبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في قَوْلِهِ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] قالَ: اسْتَوْلى عَلى جَمِيعِ بَرِيَّتِهِ، فَلا يَخْلُو مِنهُ مَكانٌ.
فالجَوابُ: أنَّ هَذا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ عَلى ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، ونَقَلَتُهُ مَجْهُولَةٌ وضُعَفاءٌ، فَأمّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ داوُدَ الواسِطِيُّ وعَبْدُ الوَهّابِ بْنُ مُجاهِدٍ فَضَعِيفانِ.
وإبْراهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ مَجْهُولٌ لا يُعْرَفُ. وهم لا يَقْبَلُونَ أخْبارَ الآحادِ، فَكَيْفَ يَسُوغُ لَهم الِاحْتِجاجُ بِمِثْلِ هَذا الحَدِيثِ، لَوْ عَقَلُوا وأنْصَفُوا؟ أما سَمِعُوا اللَّهَ سُبْحانَهُ حَيْثُ يَقُولُ: ﴿وقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ﴾ [غافر: ٣٦] ﴿أسْبابَ السَّماواتِ فَأطَّلِعَ إلى إلَهِ مُوسى وإنِّي لأظُنُّهُ كاذِبًا﴾ [غافر: ٣٧] ؟ فَدَلَّ عَلى أنَّ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ يَقُولُ: إلَهِي في السَّماءِ وفِرْعَوْنُ يَظُنُّهُ كاذِبًا. قالَ الشّاعِرُ:
؎فَسُبْحانَ مَن لا يُقَدِّرُ الخَلْقُ قَدْرَهُ ∗∗∗ ومَن هو فَوْقَ العَرْشِ فَرْدٌ مُوَحَّدُ
؎مَلِيكٌ عَلى عَرْشِ السَّماءِ مُهَيْمِنٌ ∗∗∗ لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الوُجُوهُ وتَسْجُدُ
وهَذا الشِّعْرُ لِأُمَيَّةَ بْنِ أبِي الصَّلْتِ. وفِيهِ يَقُولُ في وصْفِ المَلائِكَةِ:
؎وساجِدُهم لا يَرْفَعُ الدَّهْرَ رَأْسَهُ ∗∗∗ يُعَظِّمُ رَبًّا فَوْقَهُ ويُمَجِّدُ
قالَ: فَإنِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إلَهٌ وفي الأرْضِ إلَهٌ﴾ [الزخرف: ٨٤] وبِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ وفي الأرْضِ﴾ [الأنعام: ٣] وبِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما يَكُونُ مِن (p-٢٧٢٠)نَجْوى ثَلاثَةٍ إلا هو رابِعُهم ولا خَمْسَةٍ إلا هو سادِسُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] وزَعَمُوا أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ في كُلِّ مَكانٍ بِنَفْسِهِ وذاتِهِ -تَبارَكَ وتَعالى جَدُّهُ- قِيلَ: لا خِلافَ بَيْنَنا وبَيْنَكم وبَيْنَ سائِرِ الأُمَّةِ أنَّهُ لَيْسَ في الأرْضِ دُونَ السَّماءِ بِذاتِهِ، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الآياتِ عَلى المَعْنى الصَّحِيحِ المُجْمَعِ عَلَيْهِ، وذَلِكَ أنَّهُ في السَّماءِ إلَهٌ مَعْبُودٌ مِن أهْلِ السَّماءِ، وفي الأرْضِ إلَهٌ مَعْبُودٌ مِن أهْلِ الأرْضِ، وكَذا قالَ أهْلُ العِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ.
وظاهِرُ هَذا التَّنْزِيلِ يَشْهَدُ أنَّهُ عَلى العَرْشِ، فالِاخْتِلافُ في ذَلِكَ ساقِطٌ، وأسْعَدُ النّاسِ بِهِ مَن ساعِدُهُ الظّاهِرُ، وأمّا قَوْلُهُ في الآيَةِ الأُخْرى: ﴿وفِي الأرْضِ إلَهٌ﴾ [الزخرف: ٨٤] فالإجْماعُ والِاتِّفاقُ قَدْ بَيَّنَ أنَّ المُرادَ أنَّهُ مَعْبُودٌ مِن أهْلِ الأرْضِ. فَتَدَبَّرْ هَذا فَإنَّهُ قاطِعٌ.
ومِنَ الحُجَّةِ أيْضًا في أنَّهُ عَزَّ وجَلَّ عَلى العَرْشِ فَوْقَ السَّماواتِ السَّبْعِ، أنَّ المُوَحِّدِينَ أجْمَعِينَ مِنَ العَرَبِ والعَجَمِ، إذا كَرَبَهم أمْرٌ، أوْ نَزَلَتْ بِهِمْ شِدَّةٌ، رَفَعُوا وُجُوهَهم إلى السَّماءِ، ونَصَبُوا أيْدِيَهم رافِعِينَ مُشِيرِينَ بِها إلى السَّماءِ، يَسْتَغِيثُونَ اللَّهَ رَبَّهم تَبارَكَ وتَعالى، وهَذا أشْهَرُ وأعْرَفُ عِنْدَ الخاصَّةِ والعامَّةِ، مِن أنْ يَحْتاجَ فِيهِ إلى أكْثَرَ مِن حِكايَتِهِ.
لِأنَّهُ اضْطِرارِيٌّ لَمْ يُخالِفْهم عَلَيْهِ أحَدٌ، ولا أنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ مُسْلِمٌ، وقَدْ «قالَ ﷺ لِلْأمَةِ الَّتِي أرادَ مَوْلاها عِتْقَها، (p-٢٧٢١)إنْ كانَتْ مُؤْمِنَةً، فاخْتَبَرَها رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِأنْ قالَ لَها: «أيْنَ اللَّهُ؟» فَأشارَتْ إلى السَّماءِ. ثُمَّ قالَ لَها: «مَن أنا؟» قالَتْ أنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قالَ: «أعْتِقْها فَإنَّها مُؤْمِنَةٌ»» . فاكْتَفى رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مِنها بِرَفْعِ رَأْسِها إلى السَّماءِ، واسْتَغْنى بِذَلِكَ عَمّا سِواهُ.
قالَ: وأمّا احْتِجاجُهم بِقَوْلِهِ: تَعالى: ﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلا هو رابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] فَلا حُجَّةَ لَهم في ظاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ، لِأنَّ عُلَماءَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمُ التَّأْوِيلُ في القُرْآنِ قالُوا تَأْوِيلُ هَذِهِ الآيَةِ: هو عَلى العَرْشِ، وعِلْمُهُ في كُلِّ مَكانٍ، وما خالَفَهم في ذَلِكَ أحَدٌ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ.
وذَكَرَ سُنَيْدٌ عَنْ مُقاتِلِ بْنِ حَيّانَ عَنِ الضَّحّاكِ بْنِ مُزاحِمٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلا هو رابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] قالَ: هو عَلى عَرْشِهِ، وعِلْمُهُ مَعَهم أيْنَما كانُوا.
قالَ: وبَلَغَنِي عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ مِثْلُهُ. قالَ سُنَيْدٌ: حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: اللَّهُ فَوْقَ العَرْشِ، وعِلْمُهُ في كُلِّ مَكانٍ، لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن أعْمالِكم.
ثُمَّ ساقَ مِن طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هارُونَ، عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وما بَيْنَ كُلِّ سَماءٍ إلى الأُخْرى خَمْسُمِائَةِ عامٍ، وما بَيْنَ السَّماءِ السّابِعَةِ إلى الكُرْسِيِّ مَسِيرَةُ خَمْسُمِائَةِ عامٍ، وما بَيْنَ الكُرْسِيِّ إلى الماءِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، (p-٢٧٢٢)والعَرْشُ عَلى الماءِ، واللَّهُ عَلى العَرْشِ، ويَعْلَمُ أعْمالَكم وذَكَرَ هَذا الكَلامَ أوْ قَرِيبًا مِنهُ في كِتابِ (الِاسْتِذْكارِ).
وقالَ شَيْخُ الإسْلامِ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في (الرِّسالَةِ المَدَنِيَّةِ): إذا وصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ بِصِفَةٍ أوْ وصَفَهُ بِها رَسُولُهُ ﷺ، أوْ وصَفَهُ بِها المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلى هِدايَتِهِمْ ودِرايَتِهِمْ- فَصَرْفُها عَنْ ظاهِرِها اللّائِقِ بِجَلالِهِ سُبْحانَهُ، وحَقِيقَتِها المَفْهُومَةِ مِنها إلى باطِنٍ يُخالِفُ الظّاهِرَ، ومَجازٍ يُخالِفُ الحَقِيقَةَ، لا بُدَّ فِيهِ مِن أرْبَعَةِ أشْياءَ:
أحَدُها: أنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ بِالمَعْنى المَجازِيِّ، لِأنَّ الكِتابَ والسُّنَّةَ وكَلامَ السَّلَفِ جاءُوا بِاللِّسانِ العَرَبِيِّ، ولا يَجُوزُ أنْ يُرادَ مِنهُ خِلافُ لِسانِ العَرَبِ، أوْ خِلافُ الألْسِنَةِ كُلِّها، فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ المَعْنى المَجازِيُّ مِمّا يُرادُ بِهِ اللَّفْظُ، وإلّا فَيُمْكِنُ كُلُّ مُبْطِلٍ أنْ يُفَسِّرَ أيَّ لَفْظٍ بِأيِّ مَعْنى ناسِخٍ لَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أصْلٌ في اللُّغَةِ.
الثّانِي: أنْ يَكُونَ مَعَهُ دَلِيلٌ يُوجِبُ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلى مَجازِهِ، وإلّا فَإذا كانَ يُسْتَعْمَلُ في مَعْنًى بِطَرِيقِ الحَقِيقَةِ، وفي مَعْنًى بِطَرِيقِ المَجازِ، لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلى المَجازِيِّ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُ الصَّرْفَ بِإجْماعِ العُقَلاءِ، ثُمَّ ادَّعى وُجُوبَ صَرْفِهِ عَنِ الحَقِيقَةِ، فَلا بُدَّ مِن دَلِيلٍ قاطِعٍ عَقْلِيٍّ أوْ سَمْعِيٍّ يُوجِبُ الصَّرْفَ. وإنِ ادَّعى ظُهُورَ صَرْفِهِ عَنِ الحَقِيقَةِ فَلا بُدَّ مِن دَلِيلٍ مُرَجِّحٍ لِلْحَمْلِ عَلى المَجازِ.
الثّالِثُ: أنَّهُ لا بُدَّ مِن أنْ يَسْلَمَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ الصّارِفُ عَنْ مُعارِضٍ، وإلّا فَإذا قامَ دَلِيلٌ قُرْآنِيٌّ أوْ إيمانِيٌّ يُبَيِّنُ أنَّ الحَقِيقَةَ مُرادَةٌ، امْتَنَعَ تَرْكُها. ثُمَّ إنْ كانَ هَذا الدَّلِيلُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلى نَقِيضِهِ وإنْ كانَ ظاهِرًا فَلا بُدَّ مِنَ التَّرْجِيحِ.
الرّابِعُ: أنَّ الرَّسُولَ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ إذا تَكَلَّمَ بِكَلامٍ وأرادَ بِهِ خِلافَ ظاهِرِهِ، وضِدَّ حَقِيقَتِهِ فَلا بُدَّ أنْ يُبَيِّنَ لِلْأُمَّةِ أنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَتَهُ وإنَّما أرادَ مَجازَهُ، سَواءٌ عَيَّنَهُ أوْ لَمْ يُعَيِّنْهُ، لا سِيَّما في الخِطابِ العِلْمِيِّ الَّذِي أُرِيدَ مِنهم فِيهِ الِاعْتِقادُ والعِلْمُ، دُونَ عَمَلِ الجَوارِحِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ جَعَلَ القُرْآنَ نُورًا وهُدًى وبَيانًا لِلنّاسِ وشِفاءً لِما في الصُّدُورِ، وأرْسَلَ الرَّسُولَ (p-٢٧٢٣)لِيُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ، ولِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ، ولِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ. ثُمَّ هَذا الرَّسُولُ الأُمِّيُّ العَرَبِيُّ بُعِثَ بِأفْصَحِ اللُّغاتِ، وأبْيَنِ الألْسِنَةِ والعِباراتِ. ثُمَّ الأُمَّةُ الَّذِينَ أخَذُوا عَنْهُ كانُوا أعْمَقَ النّاسِ عِلْمًا، وأنْصَحَهم لِلْأُمَّةِ، وأبْيَنَهم لِلسُّنَّةِ، فَلا يَجُوزُ أنْ يَتَكَلَّمَ هو وهَؤُلاءِ بِكَلامٍ يُرِيدُونَ بِهِ خِلافَ ظاهِرِهِ، إلّا وقَدْ نَصَبَ دَلِيلًا يَمْنَعُ مِن حَمْلِهِ عَلى ظاهِرِهِ، إمّا بِأنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا ظاهِرًا مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٢٣] فَإنَّ كُلَّ أحَدٍ يَعْلَمُ بِعَقْلِهِ أنَّ المُرادَ (أُوتِيَتْ مِن جِنْسِ ما يُؤْتاهُ مِثْلُها). وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر: ٦٢] يَعْلَمُ المُسْتَمِعُ أنَّ المُرادَ أنَّ الخالِقَ لا يَدْخُلُ في هَذا العُمُومِ، أوْ سَمْعِيًّا ظاهِرًا مِثْلَ الدَّلالاتِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ الَّتِي تَصْرِفُ بَعْضُها الظَّواهِرَ.
(p-٢٧٢٤)ولا يَجُوزُ أنْ يُحِيلَهم عَلى دَلِيلٍ خَفِيٍّ لا يَسْتَنْبِطُهُ إلّا أفْرادُ النّاسِ، سَواءٌ كانَ سَمْعِيًّا أوْ عَقْلِيًّا، لِأنَّهُ إذا تَكَلَّمَ بِالكَلامِ الَّذِي يَفْهَمُ مِنهُ مَعْنًى، وأعادَهُ مَرّاتٍ كَثِيرَةً، وخاطَبَ بِهِ الخَلْقَ كُلَّهُمْ، وفِيهِمُ الذَّكِيُّ والبَلِيدُ، والفَقِيهُ وغَيْرُ الفَقِيهِ، وقَدْ أوْجَبَ عَلَيْهِمْ أنْ يَتَدَبَّرُوا ذَلِكَ الخِطابَ، ويَعْقِلُوهُ ويَتَفَكَّرُوا فِيهِ، ويَعْتَقِدُوا مُوجِبَهُ، ثُمَّ أوْجَبَ أنْ لا يَقْصِدُوا بِهَذا الخِطابِ شَيْئًا مِن ظاهِرِهِ، لِأنَّ هُناكَ دَلِيلًا خَفِيًّا يَسْتَنْبِطُهُ أفْرادُ النّاسِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمْ يُرِدْ ظاهِرَهُ -كانَ تَدْلِيسًا أوْ تَلْبِيسًا، وكانَ نَقِيضَ البَيانِ، وضِدَّ الهُدى. وهو بِالألْغازِ والأحاجِيِّ أشْبَهُ مِنهُ بِالهُدى والبَيانِ. فَكَيْفَ إذا كانَتْ دَلالَةُ ذَلِكَ الخِطابِ عَلى ظاهِرِهِ، أقْوى بِدَرَجاتٍ كَثِيرَةٍ مِن دَلالَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الخَفِيِّ عَلى أنَّ الظّاهِرَ غَيْرُ مُرادٍ، كَيْفَ إذا كانَ ذَلِكَ الخَفِيُّ شُبْهَةً لَيْسَ لَها حَقِيقَةٌ؟ انْتَهى.
الثّانِي: يَتَوَهَّمُ كَثِيرٌ أنَّ القَوْلَ بِالعُلُوِّ والِاسْتِواءِ يَلْزَمُ مِنهُما القَوْلُ بِالتَّجْسِيمِ، وقَدْ رُمِيَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ المُحَدِّثِينَ، ومِمَّنْ رَماهم بِذَلِكَ الجَلالُ الدَّوانِيُّ في شَرْحِ العَقائِدِ العَضُدِيَّةِ حَيْثُ قالَ -عَفا اللَّهُ عَنْهُ-: وأكْثَرُ المُجَسِّمَةِ هُمُ الظّاهِرِيُّونَ المُتَّبِعُونَ لِظاهِرِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وأكْثَرُهُمُ المُحَدِّثُونَ، ولِابْنِ تَيْمِيَةَ أبِي العَبّاسِ وأصْحابِهِ مَيْلٌ عَظِيمٌ إلى إثْباتِ الجِهَةِ، ومُبالَغَةٌ في القَدْحِ في نَفْيِها. ورَأيْتُ في بَعْضِ تَصانِيفِهِ أنَّهُ لا فَرْقَ عِنْدَ بَدِيهَةِ العَقْلِ بَيْنَ أنْ يُقالَ: هو مَعْدُومٌ، أوْ يُقالُ: طَلَبْتُهُ في جَمِيعِ الأمْكِنَةِ فَلَمْ أجِدْهُ، ونَسَبَ النّافِينَ إلى التَّعْطِيلِ. هَذا مَعَ عُلُوِّ كَعْبِهِ في العُلُومِ العَقْلِيَّةِ والنَّقْلِيَّةِ، كَما يَشْهَدُ بِهِ مَن تَتَبَّعَ تَصانِيفَهُ.
ومُحَصَّلُ كَلامِ بَعْضِهِمْ في بَعْضِ المَواضِعِ، أنَّ الشَّرْعَ ورَدَ بِتَخْصِيصِهِ تَعالى بِجِهَةِ (الفَوْقِ)، كَما خَصَّصَ الكَعْبَةَ بِكَوْنِها بَيْتَ اللَّهِ تَعالى، ولِذَلِكَ يَتَوَجَّهُ إلَيْها في الدُّعاءِ.
ولا يَخْفى أنَّهُ لَيْسَ في هَذا القَدْرِ غائِلَةٌ أصْلًا، لَكِنَّ بَعْضَ أصْحابِ الحَدِيثِ مِنَ المُتَأخِّرِينَ لَمْ يَرْضَ بِهَذا القَوْلِ، وأنْكَرَ كَوْنَ (الفَوْقِ) قِبْلَةَ الدُّعاءِ، بَلْ قالَ: قِبْلَةُ الدُّعاءِ هو نَفْسُهُ، كَما أنَّ نَفْسَ الكَعْبَةِ قِبْلَةُ الصَّلاةِ، وقَدْ صَرَّحَ بِكَوْنِهِ جِهَةَ اللَّهِ تَعالى حَقِيقَةً مِن غَيْرِ تَجَوُّزٍ. انْتَهى كَلامُ الدَّوانِيِّ.
(p-٢٧٢٥)وتَعَقَّبَهُ غَيْرُ واحِدٍ:
مِنهُمُ: الشَّيْخُ إبْراهِيمُ الكُورانِيُّ في حاشِيَتِهِ عَلَيْهِ المُسَمّاةِ (بِمَجْلى المَعانِي) قالَ: إنَّ ابْنَ تَيْمِيَةَ لَيْسَ قائِلًا بِالتَّجْسِيمِ، فَقَدْ صَرَّحَ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَيْسَ جِسْمًا، في رِسالَةٍ تَكَلَّمَ فِيها عَلى حَدِيثِ النُّزُولِ.
وقالَ في رِسالَةٍ أُخْرى: مَن قالَ إنَّ اللَّهَ تَعالى مِثْلُ بَدَنِ الإنْسانِ، أوْ إنَّ اللَّهَ تَعالى يُماثِلُ شَيْئًا مِنَ المَخْلُوقاتِ فَهو مُفْتَرٍ عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ. بَلْ هو عَلى مَذْهَبِ السَّلَفِ قائِلٌ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى فَوْقَ العَرْشِ حَقِيقَةً، مَعَ نَفْيِ اللَّوازِمِ، ونَقَلَ عَلَيْهِ إجْماعَ السَّلَفِ، صَرَّحَ بِهِ في الرِّسالَةِ القَدَرِيَّةِ. انْتَهى.
ومِنهُمْ: ولِيُّ اللَّهِ الدَّهْلَوِيُّ قُدِّسَ سِرُّهُ، قالَ في كِتابِهِ (حُجَّةُ اللَّهِ البالِغَةُ): واسْتَطالَ هَؤُلاءِ الخائِضُونَ عَلى مَعْشَرِ أهْلِ الحَدِيثِ، وسَمَّوْهم مُجَسِّمَةً ومُشَبِّهَةً، وقالُوا: هُمُ المُتَسَتِّرُونَ بِالبَلْكَفَةِ، وقَدْ وضَحَ عَلَيَّ وُضُوحًا بَيِّنًا أنَّ اسْتِطالَتَهم هَذِهِ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، وأنَّهم مُخْطِئُونَ في مَقالَتِهِمْ رِوايَةً ودِرايَةً، وخاطِئُونَ في طَعْنِهِمْ أئِمَّةَ الهُدى -انْتَهى.
ومِنهُمُ: الشِّهابُ الألُوسِيُّ المُفَسِّرُ، فَإنَّهُ كَتَبَ عَلى كَلامِ الدَّوانِيِّ ما نَصُّهُ: حاشا لِلَّهِ تَعالى أنْ يَكُونَ -يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَةَ - مِنَ المُجَسِّمَةِ، بَلْ هو أبْرَأُ النّاسِ مِنهم. نَعَمْ يَقُولُ بِالفَوْقِيَّةِ، وذَلِكَ مَذْهَبُ السَّلَفِ، وهو بِمَعْزِلٍ عَنِ التَّجْسِيمِ. وجَلالُ الدِّينِ وأضْرابُهُ أجْهَلُ النّاسِ بِالأحادِيثِ، وكَلامُ السَّلَفِ الصّالِحِ، كَما لا يَخْفى عَلى العارِفِ المُنْصِفِ. نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُهُ في (مُحاكَمَةِ الأحْمَدَيْنِ).
وأقُولُ. إنَّ كُلَّ مَن رَمى مِثْلَ هَذا الإمامِ بِالتَّجْسِيمِ فَقَدِ افْتَرى وما دَرى، إلّا أنَّ عُذْرَهُ أنَّهُ لَمْ يُنَقِّبْ عَنْ غُرَرِ كَلامِهِ في فَتاوِيهِ الَّتِي أوْضَحَ فِيها الحَقَّ، وأنارَ بِها مَذْهَبَ السَّلَفِ قاطِبَةً. وهاكَ شَذْرَةٌ مِن دُرَرِهِ. قالَ رَحِمَهُ اللَّهُ في بَعْضِ فَتاوِيهِ:
والأصْلُ في هَذا البابِ أنَّ كُلَّ ما ثَبَتَ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى أوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ وجَبَ التَّصْدِيقُ بِهِ، مِثْلَ عُلُوِّ الرَّبِّ، واسْتِوائِهِ عَلى عَرْشِهِ، ونَحْوَ ذَلِكَ، وأمّا الألْفاظُ المُبْتَدَعَةُ (p-٢٧٢٦)فِي النَّفْيِ والإثْباتِ، مِثْلَ قَوْلِ القائِلِ: هو في جِهَةٍ أوْ لَيْسَ في جِهَةٍ، وهو مُتَحَيِّزٌ أوْ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ، ونَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الألْفاظِ الَّتِي تَنازَعَ فِيها النّاسُ، ولَيْسَ مَعَ أحَدِهِمْ نَصٌّ، لا عَنِ الرَّسُولِ ﷺ، ولا عَنِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم والتّابِعِينَ لَهم بِإحْسانٍ، ولا أئِمَّةِ المُسْلِمِينَ -هَؤُلاءِ لَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِنهم إنَّ اللَّهَ تَعالى في جِهَةٍ، ولا قالَ لَيْسَ هو في جِهَةٍ، ولا قالَ هو مُتَحَيِّزٌ، ولا قالَ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ، بَلْ ولا قالَ هو جِسْمٌ أوْ جَوْهَرٌ، ولا قالَ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا بِجَوْهَرٍ. فَهَذِهِ الألْفاظُ لَيْسَتْ مَنصُوصَةً في الكِتابِ ولا السُّنَّةِ ولا الإجْماعِ، والنّاطِقُونَ بِها قَدْ يُرِيدُونَ مَعْنًى صَحِيحًا. فَإنْ يُرِيدُوا مَعْنًى صَحِيحًا يُوافِقُ الكِتابَ والسُّنَّةَ كانَ ذَلِكَ مَقْبُولًا مِنهُمْ، وإنْ أرادُوا مَعْنًى فاسِدًا يُخالِفُ الكِتابَ والسُّنَّةَ كانَ ذَلِكَ المَعْنى مَرْدُودًا عَلَيْهِمْ. فَإذا قالَ القائِلُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى في جِهَةٍ، قِيلَ: ما تُرِيدُ بِذَلِكَ؟ أتُرِيدُ بِذَلِكَ أنَّهُ سُبْحانَهُ في جِهَةٍ مَوْجُودَةٍ تَحْصُرُهُ وتُحِيطُ بِهِ، مِثْلَ أنْ يَكُونَ في جَوْفِ السَّماواتِ، أمْ تُرِيدُ بِالجِهَةِ أمْرًا عَدَمِيًّا، وهو ما فَوْقَ العالَمِ شَيْءٌ مِنَ المَخْلُوقاتِ.
فَإنْ أرَدْتَ الجِهَةَ الوُجُودِيَّةَ، وجَعَلْتَ اللَّهَ تَعالى مَحْصُورًا في المَخْلُوقاتِ، فَهَذا باطِلٌ، وإنْ أرَدْتَ بِالجِهَةِ العَدَمِيَّةِ وأرَدْتَ اللَّهَ تَعالى وحْدَهُ فَوْقَ المَخْلُوقاتِ، بائِنٌ عَنْها، فَهَذا حَقٌّ، ولَيْسَ في ذَلِكَ أنَّ شَيْئًا مِنَ المَخْلُوقاتِ حَصَرَهُ، ولا أحاطَ بِهِ، ولا عَلا عَلَيْهِ، بَلْ هو العالِي عَلَيْها، المُحِيطُ بِها، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ والسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: ٦٧] الآيَةَ -وقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ««أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَقْبِضُ الأرْضَ يَوْمَ القِيامَةِ، ويَطْوِي (p-٢٧٢٧)السَّماواتِ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أنا المَلِكُ، أيْنَ مُلُوكُ الأرْضِ»» ؟ وقَدْ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: ما السَّماواتُ السَّبْعُ، والأرْضُونَ السَّبْعُ، وما فِيهِنَّ، وما بَيْنَهُنَّ، في يَدِ الرَّحْمَنِ إلّا كَخَرْدَلَةٍ في يَدِ أحَدِكم.
وفِي حَدِيثٍ آخَرَ أنَّهُ يَرْمِيها كَما يَرْمِي الصِّبْيانُ الكُرَةَ. فَمَن يَكُونُ جَمِيعُ المَخْلُوقاتِ بِالنِّسْبَةِ إلى قَبْضَتِهِ تَعالى، وإلى هَذا الحَقْرِ والصِّغارِ، كَيْفَ تُحِيطُ بِهِ وتَحْصُرُهُ؟ ومَن قالَ إنَّ اللَّهَ تَعالى لَيْسَ في جِهَةٍ، قِيلَ لَهُ: ما تُرِيدُ بِذَلِكَ؟ فَإنْ أرادَ بِذَلِكَ أنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّماواتِ رَبٌّ يُعْبَدُ، ولا عَلى عَرْشٍ إلَهٌ، ونَبِيُّنا مُحَمَّدٌ ﷺ لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلى اللَّهِ تَعالى، والأيْدِي لا تُرْفَعُ إلى اللَّهِ تَعالى في الدُّعاءِ، ولا تَتَوَجَّهُ القُلُوبُ إلَيْهِ فَهَذا فِرْعَوْنِيٌّ مُعَطِّلٌ، جاحِدٌ لِرَبِّ العالَمِينَ. وإنْ كانَ يَعْتَقِدُ أنَّهُ مُقِرٌّ بِهِ فَهو جاهِلٌ مُتَناقِضٌ في كَلامِهِ. ومِن هُنا دَخَلَ أهْلُ الحُلُولِ والِاتِّحادِ وقالُوا: إنَّ اللَّهَ تَعالى بِذاتِهِ في كُلِّ مَكانٍ، وإنَّ وُجُودَ المَخْلُوقاتِ هو وُجُودُ الخالِقِ. وإنْ قالَ: مُرادِي بِقَوْلِي (لَيْسَ في جِهَةٍ)، أنَّهُ لا تُحِيطُ بِهِ المَخْلُوقاتُ فَقَدْ أصابَ في هَذا المَعْنى.
وكَذَلِكَ مَن قالَ إنَّ اللَّهَ تَعالى مُتَحَيِّزٌ أوْ قالَ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ: إنْ أرادَ بِقَوْلِهِ (مُتَحَيِّزٌ) أنَّ المَخْلُوقاتِ تَحُوزُهُ وتُحِيطُ بِهِ فَقَدْ أخْطَأ، وإنْ أرادَ بِهِ مُنْحازٌ عَنِ المَخْلُوقاتِ بائِنٌ عَنْها عالٍ عَلَيْها فَقَدْ أصابَ، ومَن قالَ: (لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ)، إنْ أرادَ المَخْلُوقاتُ لا تَحُوزُهُ فَقَدْ أصابَ، وإنْ أرادَ لَيْسَ بِبائِنٍ عَنْها، بَلْ هو لا داخِلَ فِيها، ولا خارِجَ عَنْها، فَقَدْ أخْطَأ. والنّاسُ في هَذا البابِ ثَلاثَةُ أصْنافٍ: أهْلُ الحُلُولِ والِاتِّحادِ، وأهْلُ النَّفْيِ والجُحُودِ، وأهْلُ الإيمانِ والتَّوْحِيدِ والسُّنَّةِ.
فَأهْلُ الحُلُولِ يَقُولُونَ: إنَّهُ بِذاتِهِ في كُلِّ مَكانٍ، وقَدْ يَقُولُونَ بِالِاتِّحادِ والوَحْدَةِ، فَيَقُولُونَ: وُجُودُ المَخْلُوقاتِ وُجُودُ الخالِقِ.
وأمّا أهْلُ النَّفْيِ والجُحُودِ فَيَقُولُونَ: لا هو داخِلُ العالَمِ، ولا خارِجٌ، ولا مُبايِنٌ لَهُ، (p-٢٧٢٨)وهَذا قَوْلُ مُتَكَلِّمَةِ الجَهْمِيَّةِ المُعَطِّلَةِ، كَما أنَّ الأوَّلَ قَوْلُ عُبّادِ الجَهْمِيَّةِ. فَمُتَكَلِّمَةُ الجَهْمِيَّةِ لا يَبْعُدُونَ شَيْئًا، ومُتَعَبِّدَةُ الجَهْمِيَّةِ يَعْبُدُونَ كُلَّ شَيْءٍ، وكَلامُهم يَرْجِعُ إلى التَّعْطِيلِ والجُحُودِ، الَّذِي هو قَوْلُ فِرْعَوْنَ.
وقَدْ عُلِمَ أنَّ اللَّهَ تَعالى كانَ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأرْضَ، ثُمَّ خَلَقَهُما، فَإمّا أنْ يَكُونَ دَخَلَ فِيهِما، وهَذا حُلُولٌ باطِلٌ، وإمّا أنْ يَكُونا دَخَلا فِيهِ، وهو أبْطَلُ وأبْطَلُ، وإمّا أنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحانَهُ بائِنًا عَنْهُما، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِما، ولَمْ يَدْخُلا فِيهِ، وهَذا قَوْلُ أهْلِ الحَقِّ والتَّوْحِيدِ والسُّنَّةِ.
ولِأهْلِ الجُحُودِ والتَّعْطِيلِ في هَذا البابِ شُبُهاتٌ يُعارِضُونَ بِها كِتابَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وسُنَّةَ رَسُولِهِ ﷺ، وما أجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ وأئِمَّتُها، وما فَطَرَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ عِبادَهُ، وما دَلَّتْ عَلَيْهِ الدَّلائِلُ العَقْلِيَّةُ الصَّحِيحَةُ، فَإنَّ هَذِهِ الأدِلَّةَ كُلَّها مُتَّفِقَةٌ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى فَوْقَ مَخْلُوقاتِهِ، عالٍ عَلَيْها، قَدْ فَطَرَ اللَّهُ تَعالى عَلى ذَلِكَ العَجائِزَ والأعْرابَ والصِّبْيانَ في الكِتابِ، كَما فَطَرَهم عَلى الإقْرارِ بِالخالِقِ تَعالى.
وقَدْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ««كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ، فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ أوْ يُنَصِّرانِهِ أوْ يُمَجِّسانِهِ، كَما تُنْتِجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيها مِن جَدْعاءَ؟» ثُمَّ قالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي (p-٢٧٢٩)فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠]» وهَذا مَعْنى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: عَلَيْكَ بِدِينِ الأعْرابِ والصِّبْيانِ في الكُتّابِ، عَلَيْكَ بِما فَطَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ فَطَرَ عِبادَهُ عَلى الحَقِّ، والرُّسُلُ بُعِثُوا بِتَكْمِيلِ الفِطْرَةِ وتَقْرِيرِها، لا بِتَحْوِيلِ الفِطْرَةِ وتَغْيِيرِها.
وأمّا أعْداءُ الرُّسُلِ كالجَهْمِيَّةِ الفِرْعَوْنِيَّةِ ونَحْوَهُمْ، فَيُرِيدُونَ أنْ يُغَيِّرُوا فِطْرَةَ اللَّهِ تَعالى، ودِينَهُ عَزَّ وجَلَّ، ويُورِدُونَ عَلى النّاسِ شُبُهاتٍ بِكَلِماتٍ مُشْتَبِهاتٍ، لا يَفْهَمُ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ مَقْصُودَهم بِها، ولا يَحْسُنُ أنْ يُجِيبَهم. وقَدْ بَسَطَ الكَلامَ عَلَيْهِمْ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، وأصْلُ ضَلالِهِمْ تَكَلُّمُهم بِكَلِماتٍ مُجْمَلَةٍ لا أصْلَ لَها في كِتابِ اللَّهِ تَعالى، ولا سُنَّةِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولا قالَها أحَدٌ مِن أئِمَّةِ المُسْلِمِينَ. كَلَفْظِ: المُتَحَيِّزِ والجِسْمِ والجِهَةِ ونَحْوِ ذَلِكَ، فَمَن كانَ عارِفًا بِحالِ شُبُهاتِهِمْ بَيَّنَها، ومَن لَمْ يَكُنْ عارِفًا بِذَلِكَ فَلْيُعْرِضْ عَنْ كَلامِهِمْ، ولا يَقْبَلْ إلّا ما جاءَ بِهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وإذا رَأيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آياتِنا فَأعْرِضْ عَنْهم حَتّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: ٦٨]
ومَن تَكَلَّمَ في اللَّهِ تَعالى وأسْمائِهِ وصِفاتِهِ بِما يُخالِفُ الكِتابَ والسُّنَّةَ، فَهو مِنَ الخائِضِينَ في آياتِ اللَّهِ تَعالى بِالباطِلِ، وكَثِيرٌ مِن هَؤُلاءِ يَنْسِبُ إلى أئِمَّةِ المُسْلِمِينَ ما لَمْ يَقُولُوهُ. وكَثِيرٌ مِنهم قَرَؤُوا كُتُبًا مِن كُتُبِ الكَلامِ، فِيها شُبُهاتٌ أضَلَّتْهُمْ، ولَمْ يَهْتَدُوا لِجَوابِهِمْ، فَإنَّهم يَجِدُونَ في تِلْكَ الكُتُبِ أنَّهُ لَوْ كانَ اللَّهُ تَعالى فَوْقَ الخَلْقِ لَلَزِمَ التَّجْسِيمُ والتَّحَيُّزُ والجِهَةُ، وهم لا يَعْرِفُونَ حَقائِقَ هَذِهِ الألْفاظِ، ولا ما أرادَ بِها (p-٢٧٣٠)أصْحابُها، فَإنَّ ذِكْرَ لَفْظِ (الجِسْمِ) في أسْماءِ اللَّهِ تَعالى وصِفاتِهِ، بِدْعَةٌ لَمْ يَنْطِقْ بِها كِتابٌ ولا سُنَّةٌ، ولا قالَها أحَدٌ مِن سَلَفِ الأُمَّةِ وأئِمَّتِها، ولَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِنهُمْ: إنَّ اللَّهَ تَعالى جِسْمٌ، ولا أنَّ اللَّهَ تَعالى لَيْسَ بِجِسْمٍ، ولا أنَّ اللَّهَ تَعالى جَوْهَرٌ، ولا أنَّ اللَّهَ تَعالى لَيْسَ بِجَوْهَرٍ.
ولَفْظُ الجِسْمِ لَفْظٌ مُجْمَلٌ، فَمَعْناهُ في اللُّغَةِ هو البَدَنُ. ومَن قالَ إنَّ اللَّهَ تَعالى مِثْلُ بَدَنِ الإنْسانِ فَهو مُفْتَرٍ عَلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، بَلْ مَن قالَ إنَّ اللَّهَ تَعالى يُماثِلُ شَيْئًا مِن مَخْلُوقاتِهِ فَهو مُفْتَرٍ عَلى اللَّهِ ضالٌّ، ومَن قالَ إنَّ اللَّهَ تَعالى لَيْسَ بِجِسْمٍ، وأرادَ بِذَلِكَ أنَّهُ لا يُماثِلُ شَيْئًا مِنَ المَخْلُوقاتِ، فالمَعْنى صَحِيحٌ، وإنْ كانَ اللَّفْظُ بِدْعَةً. وأمّا مَن قالَ إنَّ اللَّهَ تَعالى لَيْسَ بِجِسْمٍ، وأرادَ بِذَلِكَ أنَّهُ لا يُرى في الآخِرَةِ، وأنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالقُرْآنِ العَرَبِيِّ، بَلِ القُرْآنُ العَرَبِيُّ مَخْلُوقٌ أوْ هو تَصْنِيفُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، أوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَهو مُفْتَرٍ عَلى اللَّهِ تَعالى فِيما نَفاهُ عَنْهُ. وهَذا أصْلُ ضَلالِ الجَهْمِيَّةِ مِنَ المُعْتَزِلَةِ، ومَن وافَقَهم عَلى مَذْهَبِهِمْ، فَإنَّهم يُظْهِرُونَ لِلنّاسِ التَّنْزِيهَ، وحَقِيقَةُ كَلامِهِمُ التَّعْطِيلُ، فَيَقُولُونَ: نَحْنُ لا نُجَسِّمُ، بَلْ نَقُولُ: اللَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، ومُرادُهم بِذَلِكَ نَفْيُ حَقِيقَةِ أسْمائِهِ وصِفاتِهِ.
إلى أنْ قالَ: فَهو سُبْحانَهُ مَوْصُوفٌ بِصِفاتِ الكَمالِ، مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وعَيْبٍ، ولِهَذا كانَ مَذْهَبُ سَلَفِ الأُمَّةِ وأئِمَّتِها أنَّهم يَصِفُونَ اللَّهَ تَعالى بِما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وبِما وصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ مِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ ولا تَعْطِيلٍ، ومِن غَيْرِ تَكْيِيفٍ ولا تَمْثِيلٍ، فَيُثْبِتُونَ ما أثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الأسْماءِ والصِّفاتِ، ويُنَزِّهُونَهُ عَمّا نَزَّهَ عَنْهُ نَفْسَهُ مِن مُماثَلَةِ المَخْلُوقاتِ، إثْباتٌ بِلا تَمْثِيلٍ، وتَنْزِيهٌ بِلا تَعْطِيلٍ. قالَ عَزَّ شَأْنُهُ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١]
فَقَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] " رَدٌّ عَلى المُمَثِّلَةِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] " رَدٌّ عَلى المُعَطِّلَةِ -انْتَهى مُلَخَّصًا-.
وقالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (فِي جَوابٍ عَلى سُؤالٍ رُفِعَ إلَيْهِ نَصُّهُ: الِاسْتِواءُ هَلْ هو حَقِيقَةٌ أوْ مَجازٌ؟): ما نَصُّهُ مُلَخَّصًا:
(p-٢٧٣١)القَوْلُ في الِاسْتِواءِ والنُّزُولِ كالقَوْلِ في سائِرِ الصِّفاتِ الَّتِي وصَفَ بِها نَفْسَهُ في كِتابِهِ، وعَلى لِسانِ رَسُولِهِ ﷺ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى سَمّى نَفْسَهُ بِأسْماءٍ، ووَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفاتٍ، فالقَوْلُ في بَعْضِ هَذِهِ الصِّفاتِ، كالقَوْلِ في بَعْضٍ، ومَذْهَبُ سَلَفِ الأُمَّةِ وأئِمَّتِها أنْ نَصِفَ اللَّهَ تَعالى بِما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وبِما وصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ مِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ ولا تَعْطِيلٍ ولا تَكْيِيفٍ ولا تَمْثِيلٍ، فَلا يَجُوزُ نَفْيُ صِفاتِ اللَّهِ تَعالى الَّتِي وصَفَ بِها نَفْسَهُ، ولا يَجُوزُ تَمْثِيلُها بِصِفاتِ المَخْلُوقِينَ.
ومَعْلُومٌ بِالِاضْطِرارِ مِن دِينِ الإسْلامِ أنَّهُ لا يَجُوزُ إطْلاقُ النَّفْيِ عَلى ما أثْبَتَهُ اللَّهُ تَعالى لِنَفْسِهِ مِنَ الأسْماءِ الحُسْنى والصِّفاتِ، بَلْ هَذا جَحْدٌ لِلْخالِقِ، وتَمْثِيلٌ لَهُ بِالمَعْدُوماتِ. وقَدْ قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: أهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلى الإقْرارِ بِالصِّفاتِ الوارِدَةِ كُلِّها في القُرْآنِ والسُّنَّةِ والإيمانِ بِها، وحَمْلِها عَلى الحَقِيقَةِ لا عَلى المَجازِ، لِأنَّهم لا يَنْفُونَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، ولا يَجِدُونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً.
وأمّا أهْلُ البِدَعِ مَنَ الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ والخَوارِجِ، فَيُنْكِرُونَها ولا يَحْمِلُونَها عَلى الحَقِيقَةِ، ويَزْعُمُونَ أنَّ مَن أقَرَّ بِها مُشَبِّهٌ، وهم عِنْدَ مَن أقَرَّ بِها، نافُونَ لِلْمَعْبُودِ، لا مُثْبِتُونَ، والحَقُّ فِيما قالَهُ القائِلُونَ، مِمّا نَطَقَ بِهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ، وهم أئِمَّةُ الجَماعَةِ. هَذا الَّذِي حَكاهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ.
ومَن أنْكَرَ أنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِن هَذِهِ الأسْماءِ والصِّفاتِ حَقِيقَةً، فَإنَّما أنْكَرَ لِجَهْلِهِ لِمُسَمّى الحَقِيقَةِ، أوْ لِكُفْرِهِ وتَعْطِيلِهِ لِما يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ العالَمِينَ، وذَلِكَ أنَّهُ قَدْ يَظُنُّ أنَّ إطْلاقَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ المَخْلُوقُ مُماثِلًا لِلْخالِقِ، فَيُقالُ لَهُ: هَذا باطِلٌ، فَإنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً، والعَبْدُ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً، ولَهُ تَعالى ذاتٌ حَقِيقَةً، والعَبْدُ لَهُ ذاتٌ حَقِيقَةً، ولَيْسَ ذاتُهُ تَعالى كَذاتِ المَخْلُوقاتِ، وكَذَلِكَ لَهُ عِلْمٌ وسَمْعٌ وبَصَرٌ حَقِيقَةً، ولِلْعَبْدِ سَمْعٌ وبَصَرٌ، وعِلْمٌ حَقِيقَةً، ولَيْسَ عِلْمُهُ وسَمْعُهُ وبَصَرُهُ مِثْلَ عِلْمِ العَبْدِ وسَمْعِهِ وبَصَرِهِ. ولِلَّهِ كَلامٌ حَقِيقَةً، ولَيْسَ كَلامُ الخالِقِ مِثْلَ كَلامِ المَخْلُوقِينَ. واللَّهُ اسْتَوى عَلى عَرْشِهِ حَقِيقَةً، ولِلْعَبْدِ اسْتِواءٌ عَلى الفُلْكِ حَقِيقَةً، ولَيْسَ اسْتِواءُ الخالِقِ كاسْتِواءِ المَخْلُوقِ. فَإنَّ اللَّهَ لا يَفْتَقِرُ إلى شَيْءٍ، ولا يَحْتاجُ إلى شَيْءٍ، بَلْ هو (p-٢٧٣٢)الغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، واللَّهُ تَعالى يَحْمِلُ العَرْشَ وحَمَلَتُهُ، بِقُدْرَتِهِ و: ﴿يُمْسِكُ السَّماواتِ والأرْضَ أنْ تَزُولا﴾ [فاطر: ٤١] فَمَن ظَنَّ أنَّ مَعْنى قَوْلِ الأئِمَّةِ (اللَّهُ مُسْتَوٍ عَلى عَرْشِهِ حَقِيقَةً) يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ اسْتِواؤُهُ مِثْلَ اسْتِواءِ العَبْدِ عَلى الفُلْكِ والأنْعامِ، لَزِمَهُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ لَهُ عِلْمٌ حَقِيقَةً، وسَمْعٌ وبَصَرٌ حَقِيقَةً، وكَلامٌ حَقِيقَةً، يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ عِلْمُهُ وسَمْعُهُ وبَصَرُهُ وكَلامُهُ مِثْلَ عِلْمِ المَخْلُوقِينَ وسَمْعِهِمْ وبَصَرِهِمْ وكَلامِهِمْ، فَمَن ظَنَّ أنَّ الحَقِيقَةَ إنَّما تَتَناوَلُ صِفَةَ العَبْدِ المَخْلُوقَةَ دُونَ صِفَةِ الخالِقِ، كانَ في غايَةِ الجَهْلِ، فَإنَّ صِفَةَ اللَّهِ أكْمَلُ وأتَمُّ وأحَقُّ بِهَذِهِ الأسْماءِ الحُسْنى، فَلا نِسْبَةَ بَيْنَ صِفَةِ العَبْدِ وصِفَةِ الرَّبِّ، كَما لا نِسْبَةَ بَيْنَ ذاتِهِ وذاتِهِ.
فَكَيْفَ يَكُونُ العَبْدُ مُسْتَحِقًّا لِلْأسْماءِ الحُسْنى حَقِيقَةً، والرَّبُّ لا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ إلّا مَجازًا؟ ومَعْلُومٌ أنَّ كُلَّ كَمالٍ حَصَلَ لِلْمَخْلُوقِ فَهو مِنَ الخالِقِ سُبْحانَهُ وتَعالى، فَلَهُ المَثَلُ الأعْلى. فَكُلُّ كَمالٍ حَصَلَ لِلْمَخْلُوقِ، فالخالِقُ أحَقُّ بِهِ، وكُلُّ نَقْصٍ يُنَزَّهُ عَنْهُ مَخْلُوقٌ، فالحَقُّ أحَقُّ أنْ يُنَزَّهَ عَنْهُ، ولِهَذا كانَ لِلَّهِ المَثَلُ الأعْلى، فَإنَّهُ لا يُقاسِ بِخَلْقِهِ، ولا يُمَثَّلُ بِهِمْ، ولا تُضْرَبُ بِهِ الأمْثالُ، فَلا يَشْتَرِكُ هو والمَخْلُوقُ بِمَثَلٍ ولا في قِياسٍ. ومَذْهَبُ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ إثْباتُ الصِّفاتِ لِلَّهِ تَبارَكَ وتَعالى، بَلْ صِفاتُ الكَمالِ لازِمَةٌ لِذاتِهِ، يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ ذاتِهِ بِدُونِ صِفاتِ الكَمالِ اللّازِمَةِ لَهُ، بَلْ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ ذاتٍ مِنَ الذّاتِ عَرِيَّةً عَنْ جَمِيعِ الصِّفاتِ، وهَذا كُلُّهُ مَبْسُوطٌ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ. فَإذا قالَ: وُجُودُ اللَّهِ، وذاتُ اللَّهِ، وعِلْمُ اللَّهِ، وقُدْرَةُ اللَّهِ، وسَمْعُ اللَّهِ، وبَصَرُ اللَّهِ، وكَلامُ اللَّهِ، ورَحْمَةُ اللَّهِ، وغَضَبُ اللَّهِ، واسْتِواءُ اللَّهِ، ونُزُولُ اللَّهِ، ومَحَبَّةُ اللَّهِ، ونَحْوَ ذَلِكَ، كانَتْ هَذِهِ الأسْماءُ كُلُّها حَقِيقَةً لِلَّهِ تَعالى مِن غَيْرِ أنْ يَدْخُلَ فِيها شَيْءٌ مِنَ المَخْلُوقاتِ، ومِن غَيْرِ أنْ يُماثِلَهُ فِيها شَيْءٌ مِنَ المَخْلُوقاتِ.
وإذا قالَ: وُجُودُ العَبْدِ وذاتُهُ، وماهِيَّتُهُ وعِلْمُهُ، وقُدْرَتُهُ وسَمْعُهُ وبَصَرُهُ، وكَلامُهُ واسْتِواؤُهُ ونُزُولُهُ، كانَ هَذا حَقِيقَةً لِلْعَبْدِ مُخْتَصَّةً بِهِ، مِن غَيْرِ أنْ تُماثِلَ صِفاتُهُ صِفاتِ (p-٢٧٣٣)اللَّهِ تَعالى. بَلْ أبْلَغُ مِن ذَلِكَ، أنَّ اللَّهَ أخْبَرَ أنَّ في الجَنَّةِ مِنَ المَطاعِمِ والمَشارِبِ والمَلابِسِ والمَناكِحِ والمَساكِنِ ما ذَكَرَهُ في كِتابِهِ. كَما ذَكَرَ أنَّ فِيها لَبَنًا وعَسَلًا وخَمْرًا ولَحْمًا وحَرِيرًا وذَهَبًا وفِضَّةً وحُورًا وقُصُورًا وغَيْرُ ذَلِكَ.
وقَدْ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: لَيْسَ في الدُّنْيا مِمّا في الآخِرَةِ إلّا الأسْماءَ. فَتِلْكَ الحَقائِقُ الَّتِي في الجَنَّةِ لَيْسَتْ مُماثِلَةً لِهَذِهِ الحَقائِقِ الَّتِي في الدُّنْيا، وإنْ كانَتْ مُشابِهَةً لَها مِن بَعْضِ الوُجُوهِ، والِاسْمُ يَتَناوَلُهُما حَقِيقَةً، ومَعْلُومٌ أنَّ الخالِقَ أبْعَدُ عَنْ مُشابَهَةِ المَخْلُوقِ، والمَخْلُوقَ عَنْ مُشابَهَةِ الخالِقِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يُظَنَّ أنَّ فِيما أثْبَتَهُ اللَّهُ تَعالى مِن أسْمائِهِ وصِفاتِهِ مُماثِلًا لِمَخْلُوقاتِهِ، وأنْ يُقالَ لَيْسَ ذَلِكَ بِحَقِيقَةٍ ! وهَلْ يَكُونُ أحَقَّ بِهَذِهِ الأسْماءِ الحُسْنى والصِّفاتِ العُلْيا مِن رَبِّ السَّماواتِ والأرْضِ، مَعَ أنَّ مُبايَنَتَهُما لِلْمَخْلُوقاتِ أعْظَمُ مِن مُبايَنَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ؟ والجاهِلُ يَضِلُّ بِأنْ يَقُولَ: العَرَبُ إنَّما وضَعُوا لَفْظَ الِاسْتِواءِ لِاسْتِواءِ الإنْسانِ عَلى السَّرِيرِ أوِ الفُلْكِ، أوِ اسْتِواءِ السَّفِينَةِ عَلى الجُودِيِّ، ولِنَحْوِ ذَلِكَ مِنِ اسْتِواءِ بَعْضِ المَخْلُوقاتِ، فَهو كَما يَقُولُ القائِلُ: إنَّما وضَعُوا لَفْظَ السَّمْعِ والبَصَرِ والكَلامِ لِما يَكُونُ مَحَلُّهُ حَدَقَةً وأجْفانًا، وأصْمِخَةً وآذانًا، وشَفَتَيْنِ ولِسانًا، وإنَّما وضَعُوا لَفْظَ العِلْمِ والرَّحْمَةِ والإرادَةِ لِما يَكُونُ مَحَلُّهُ مُضْغَةَ لَحْمٍ وفُؤاءً، وهَذا كُلُّهُ جَهْلٌ مِنهُ. فَإنَّ العَرَبَ إنَّما وضَعَتْ لِلْإنْسانِ ما أضافَتْ إلَيْهِ، فَإذا قالَتْ سَمْعُ العَبْدِ وبَصَرُهُ وكَلامُهُ، وعِلْمُهُ وإرادَتُهُ ورَحْمَتُهُ مِمّا يَخْتَصُّ بِهِ، يَتَناوَلُ ذَلِكَ خَصائِصَ العَبْدِ.
وإذا قِيلَ سَمْعُ اللَّهِ وبَصَرُهُ وكَلامُهُ وعِلْمُهُ وإرادَتُهُ ورَحْمَتُهُ، كانَ هَذا مُتَناوِلًا لِما يَخْتَصُّ بِهِ الرَّبُّ، لا يَدْخُلُ في ذَلِكَ شَيْءٌ مِن خَصائِصِ المَخْلُوقِينَ. وكَذَلِكَ إذا قِيلَ اسْتِواءُ الرَّبِّ، فَهَذا الِاسْتِواءُ المُضافُ إلى اللَّهِ كالعِلْمِ والسَّمْعِ والبَصَرِ المُضافِ إلى اللَّهِ. لا يَجُوزُ أنْ يَتَناوَلَ ذَلِكَ شَيْئًا مِن خَصائِصِ المَخْلُوقِينَ.
وهَؤُلاءِ الجُهّالُ يُمَثِّلُونَ في ابْتِداءِ فَهْمِهِمْ صِفاتِ الخالِقِ بِصِفاتِ المَخْلُوقِ، ثُمَّ يَنْفُونَ ذَلِكَ ويُعَطِّلُونَهُ، فَلا يَفْهَمُونَ مِن ذَلِكَ إلّا ما يَخْتَصُّ بِالمَخْلُوقِ، ويَنْفُونَ مَضْمُونَ ذَلِكَ، فَيَكُونُونَ قَدْ جَحَدُوا ما يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ مِن خَصائِصِهِ وصِفاتِهِ، وألْحَدُوا في أسْماءِ اللَّهِ تَعالى وآياتِهِ، (p-٢٧٣٤)وخَرَجُوا عَنِ القِياسِ العَقْلِيِّ والنَّصِّ الشَّرْعِيِّ، فَلا يَبْقى بِأيْدِيهِمْ لا مَعْقُولَ صَرِيحٌ، ولا مَنقُولَ صَحِيحٌ.
ثُمَّ لا بُدَّ لَهم مِن إثْباتِ بَعْضِ ما يُثْبِتُهُ أهْلُ الإثْباتِ مِنَ الأسْماءِ والصِّفاتِ: فَإذا أثْبَتُوا البَعْضَ ونَفَوُا البَعْضَ، قِيلَ لَهُمْ: ما الفَرْقُ بَيْنَ ما أثْبَتُّمُوهُ وما نَفَيْتُمُوهُ؟ ولِمَ كانَ هَذا حَقِيقَةً، ولَمْ يَكُنْ هَذا حَقِيقَةً؟ لَمْ يَكُنْ لَهم جَوابٌ أصْلًا، وظَهَرَ بِذَلِكَ جَهْلُهم وضَلالُهم شَرْعًا وعَقْلًا.
ونَظائِرُ هَذا كَثِيرَةٌ، فَمَن ظَنَّ أنَّ أسْماءَ اللَّهِ تَعالى وأسْماءَ صِفاتِهِ، وإذا كانَتْ حَقِيقَةً لَزِمَ أنْ يَكُونَ مُماثِلًا لِلْمَخْلُوقِينَ، وأنْ تَكُونَ صِفاتُهُ مُماثِلَةً لِصِفاتِهِمْ، كانَ مِن أجْهَلِ النّاسِ، وكانَ أوَّلُ كَلامِهِ سَفْسَطَةً، وآخِرُهُ زَنْدَقَةً لِأنَّهُ يَقْتَضِي نَفْيَ جَمِيعِ أسْماءِ اللَّهِ وصِفاتِهِ وهَذا هو غايَةُ الزَّنْدَقَةِ والإلْحادِ.
وإنَّ فَرْقً بَيْنَ صِفَةٍ وصِفَةٍ، مَعَ تَساوِيهِما في أسْبابِ الحَقِيقَةِ والمَجازِ، كانَ مُتَناقِضًا في قَوْلِهِ، مُتَهافِتًا في مَذْهَبِهِ مُشابِهًا لِمَن آمَنَ بِبَعْضِ الكِتابِ، وكَفَرَ بِبَعْضٍ.
وإذا تَأمَّلَ اللَّبِيبُ الفاضِلُ هَذِهِ الأُمُورَ، تَبَيَّنَ لَهُ أنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ والأئِمَّةِ في غايَةِ الِاسْتِقامَةِ والسَّدادِ والصِّحَّةِ والِاطِّرادِ، وأنَّهُ مُقْتَضى المَعْقُولِ الصَّرِيحِ، والمَنقُولِ الصَّحِيحِ، وأنَّ مَن خالَفَهُ، كانَ مَعَ تَناقُضِ قَوْلِهِ المُخْتَلِفِ الَّذِي يُؤْفَكُ عَنْهُ مَن أُفِكَ خارِجًا عَنْ مُوجَبِ العَقْلِ والسَّمْعِ، مُخالِفًا لِلْفِطْرَةِ والشَّرْعِ، واللَّهُ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنا وعَلى سائِرِ إخْوانِنا المُسْلِمِينَ المُؤْمِنِينَ، ويَجْمَعُ لَنا ولَهم خَيْرَ الدُّنْيا والآخِرَةِ. انْتَهى.
فائِدَةٌ
فِي مَنشَأِ هَذا التَّعْطِيلِ
وبَيَّنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، في فَتْوى أُخْرى لَهُ في الصِّفاتِ، مَوْرِدَ هَذا التَّعْطِيلِ. حَيْثُ قالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
ثُمَّ أصْلُ هَذِهِ المَقالَةِ إنَّما هو مَأْخُوذٌ عَنْ تَلامِذَةِ اليَهُودِ والمُشْرِكِينَ، وضُلّالِ الصّابِئِينَ، فَإنَّ أوَّلَ مَن حَفِظَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ هَذِهِ المَقالَةَ - أعْنِي أنَّ اللَّهَ لَيْسَ عَلى العَرْشِ حَقِيقَةً وإنَّما (اسْتَوى) (p-٢٧٣٥)اسْتَوْلى ونَحْوَ ذَلِكَ -أوَّلَ ما ظَهَرَتْ هَذِهِ المَقالَةُ مِن جَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ وأخَذَها عَنْهُ الجَهْمُ بْنُ صَفْوانَ وأظْهَرَها، فَتُنْسَبُ مَقالَةُ الجَهْمِيَّةِ إلَيْهِ، والجَعْدُ أخَذَ مَقالَتَهُ عَنْ أبانَ بْنِ سَمْعانَ، وأخَذَها أبانُ مِن طالُوتَ ابْنِ أُخْتِ لَبِيدِ بْنِ أعْصَمَ، وأخْذها طالُوتُ مِن لَبِيدِ بْنِ أعْصَمَ اليَهُودِيِّ السّاحِرِ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ ﷺ.
وكانَ الجَعْدُ هَذا -فِيما قِيلَ- مِن أهْلِ حَرّانَ، وكانَ فِيهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصّابِئَةِ والفَلاسِفَةِ، بَقايا أهْلِ دِينِ النَّمْرُوذِ الكَنْعانِيِّينَ، الَّذِينَ صَنَّفَ بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ في سِحْرِهِمْ، وكانُوا يَعْبُدُونَ الكَواكِبَ، ويَبْنُونَ لَها الهَياكِلَ، ومَذْهَبُهم في الرَّبِّ أنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلّا صِفاتٌ سَلْبِيَّةٌ أوْ إضافِيَّةٌ، أوْ مُرَكَّبَةٌ مِنهُما، وهُمُ الَّذِينَ بُعِثَ إبْراهِيمُ الخَلِيلُ ﷺ إلَيْهِمْ، فَيَكُونُ الجَعْدُ قَدْ أخَذَها عَنِ الصّابِئَةِ الفَلاسِفَةِ، وأخَذَها الجَهْمُ أيْضًا -فِيما ذَكَرَهُ الإمامُ أحْمَدُ وغَيْرُهُ- مِنَ السَّمْنِيَّةِ بَعْضِ فَلاسِفَةِ الهِنْدِ، وهُمُ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ مِنَ العُلُومِ ما سِوى الحِسِّيّاتِ، فَهَذِهِ أسانِيدُ الجَهْمِ تَرْجِعُ إلى اليَهُودِ والصّابِئِينَ والمُشْرِكِينَ.
والفَلاسِفَةُ الضّالُّونَ هم إمّا مِنَ الصّابِئِينَ، وإمّا مِنَ المُشْرِكِينَ. ثُمَّ لَمّا عُرِّبَتِ الكُتُبُ الرُّومِيَّةُ في حُدُودِ المِئَةِ الثّانِيَةِ، زادَ البَلاءُ مَعَ ما ألْقى الشَّيْطانُ في قُلُوبِ الضُّلّالِ، ابْتِداءً مِن جِنْسِ ما ألْقاهُ في قُلُوبِ أشْباهِهِمْ.
ولَمّا كانَ في حُدُودِ المِئَةِ الثّانِيَةِ، انْتَشَرَتْ هَذِهِ المَقالَةُ الَّتِي كانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَها مَقالَةَ الجَهْمِيَّةِ، بِسَبَبِ بِشْرِ بْنِ غِياثٍ المَرِيسِيِّ وطَبَقَتِهِ، وكَلامُ الأئِمَّةِ - مِثْلَ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وسُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وأبِي يُوسُفَ والشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ وإسْحاقَ والفُضَيْلِ بْنِ عِياضٍ وبِشْرٍ الحافِيِّ وغَيْرِهِمْ - في بِشْرٍ المَرِيسِيِّ هَذا كَثِيرٌ في ذَمِّهِ وتَضْلِيلِهِ. وهَذِهِ التَّأْوِيلاتِ المَوْجُودَةِ اليَوْمَ بِأيْدِي النّاسِ، مِثْلُ أكْثَرِ التَّأْوِيلاتِ الَّتِي ذَكَرَها أبُو بَكْرِ بْنُ فَوْركٍ في كِتابِ (التَّأْوِيلاتِ) وذَكَرَها أبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرّازِيُّ في كِتابِهِ الَّذِي سَمّاهُ (تَأْسِيسُ التَّقْدِيسِ) ويُوجَدُ كَثِيرٌ مِنها في كَلامِ خَلْقٍ غَيْرِ هَؤُلاءِ، مِثْلَ أبِي عَلِيٍّ الجِبّائِيِّ وعَبْدِ الجَبّارِ بْنِ أحْمَدَ الهَمْدانِيِّ، وأبِي الحُسَيْنِ البَصْرِيِّ وابْنِ عَقِيلٍ وأبِي حامِدٍ الغَزالِيِّ وغَيْرِهِمْ، وهي بِعَيْنِها التَّأْوِيلاتُ الَّتِي ذَكَرَها بِشْرٌ المَرِيسِيُّ في كِتابِهِ. وإنْ كانَ قَدْ يُوجَدُ في كَلامِ بَعْضِ هَؤُلاءِ رَدُّ التَّأْوِيلِ وإبْطالُهُ أيْضًا، ولَهم كَلامٌ حَسَنٌ في أشْياءَ، فَإنَّما بَيَّنَتْ أنَّ عَيْنَ (p-٢٧٣٦)تَأْوِيلاتِهِمْ هي عَيْنُ تَأْوِيلاتِ المَرِيسِيِّ. وعَلِمْنا ذَلِكَ بِكِتابِ (الرَّدِّ) الَّذِي صَنَّفَهُ عُثْمانُ بْنُ سَعِيدٍ الدّارِمِيُّ أحَدُ الأئِمَّةِ المَشاهِيرِ في زَمَنِ البُخارِيِّ، صَنَّفَ كِتابًا سَمّاهُ (نَقْضُ عُثْمانَ بْنِ سَعِيدٍ، عَلى الكاذِبِ العَنِيدِ، فِيما افْتَرى عَلى اللَّهِ في التَّوْحِيدِ) حَكى فِيهِ هَذِهِ التَّأْوِيلاتِ بِأعْيانِها عَنْ بِشْرٍ المَرِيسِيِّ، بِكَلامٍ يَقْتَضِي أنَّ المَرِيسِيِّ أقْعَدُ بِها، وأعْلَمُ بِالمَعْقُولِ والمَنقُولِ مِن هَؤُلاءِ المُتَأخِّرِينَ الَّذِينَ اتَّصَلَتْ إلَيْهِمْ مِن جِهَتِهِ، ثُمَّ رَدَّها عُثْمانُ بْنُ سَعِيدٍ بِكَلامٍ، إذا طالَعَهُ العاقِلُ الذَّكِيُّ، عَلِمَ حَقِيقَةَ ما كانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ فَتَبَيَّنَ لَهُ ظُهُورُ الحُجَّةِ لِطَرِيقِهِمْ، وضَعْفُ حُجَّةِ مَن خالَفَهم.
ثُمَّ إذا رَأى الأئِمَّةَ - أئِمَّةَ الهُدى - قَدْ أجْمَعُوا عَلى ذَمِّ المَرِيسِيَّةِ، وأكْثَرُهم كَفَّرُوهُمْ، أوْ ضَلَّلُوهُمْ، وعَلِمَ أنَّ هَذا القَوْلَ السّارِيَ في هَؤُلاءِ المُتَأخِّرِينَ، هو مَذْهَبُ المَرِيسِيِّ تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى لِمَن يُرِيدُ اللَّهُ هِدايَتَهُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ.
ثُمَّ قالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
ومَذْهَبُ السَّلَفِ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وبَيْنَ التَّمْثِيلِ فَلا يُمَثِّلُونَ صِفاتِ اللَّهِ بِصِفاتِ خَلْقِهِ، كَما لا يُمَثِّلُونَ ذاتَهُ بِذاتِ خَلْقِهِ، ولا يَنْفُونَ عَنْهُ ما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أوْ وصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، فَيُعَطِّلُونَ أسْماءَهُ الحُسْنى، وصِفاتِهِ العُلْيا، ويُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، ويُلْحِدُونَ في أسْماءِ اللَّهِ وآياتِهِ.
وكُلُّ واحِدٍ مِن فَرِيقَيِ التَّعْطِيلِ والتَّمْثِيلِ، فَهو جامِعٌ بَيْنَ التَّعْطِيلِ والتَّمْثِيلِ. أمّا المُعَطِّلُونَ، فَإنَّهم لَمْ يَفْهَمُوا مِن أسْماءِ اللَّهِ وصِفاتِهِ إلّا ما هو اللّائِقُ بِالمَخْلُوقِ. ثُمَّ شَرَعُوا في نَفْيِ تِلْكَ المَفْهُوماتِ، فَقَدْ جَمَعُوا بَيْنَ التَّمْثِيلِ والتَّعْطِيلِ، مَثَّلُوا أوَّلًا، وعَطَّلُوا آخِرًا، وهَذا تَشْبِيهٌ وتَمْثِيلٌ مِنهم لِلْمَفْهُومِ مِن أسْمائِهِ وصِفاتِهِ، بِالمَفْهُومِ مِن أسْماءِ خَلْقِهِ وصِفاتِهِمْ، وتَعْطِيلٌ لِما يَسْتَحِقُّهُ هو سُبْحانَهُ مِنَ الأسْماءِ والصِّفاتِ اللّائِقَةِ بِاللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى.
فَإنَّهُ إذا قالَ القائِلُ: لَوْ كانَ اللَّهُ فَوْقَ العَرْشِ لَلَزِمَ إمّا أنْ يَكُونَ أكْبَرَ مِنَ العَرْشِ أوْ أصْغَرَ أوْ مُساوِيًا، وكُلُّ ذَلِكَ مُحالٌ، ونَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الكَلامِ، فَإنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مِن كَوْنِ اللَّهِ عَلى العَرْشِ إلّا ما يَثْبُتُ لِأيِّ جِسْمٍ كانَ، عَلى أيِّ جِسْمٍ كانَ، وهَذا اللّازِمُ تابِعٌ لِهَذا المَفْهُومِ، أمّا اسْتِواءٌ يَلِيقُ بِجَلالِ اللَّهِ، ويَخْتَصُّ بِهِ، فَلا يَلْزَمُهُ (p-٢٧٣٧)شَيْءٌ مِنَ اللَّوازِمِ الثَّلاثَةِ، كَما يَلْزَمُ سائِرَ الأجْسامِ. وصارَ هَذا مِثْلَ قَوْلِ المُمَثِّلِ: إذا كانَ لِلْعالَمِ صانِعٌ، فَإمّا أنْ يَكُونَ جَوْهَرًا أوْ عَرَضًا، إذْ لا يَعْقِلُ مَوْجُودٌ إلّا هَذانِ، أوْ قَوْلُهُ: إذا كانَ مُسْتَوِيًا عَلى العَرْشِ، فَهو مُماثِلٌ لِاسْتِواءِ الإنْسانِ عَلى السَّرِيرِ أوِ الفُلْكِ، إذْ لا يُعْلَمُ الِاسْتِواءُ إلّا هَكَذا، فَإنَّ كِلَيْهِما مَثَّلَ، وكِلاهُما عَطَّلَ حَقِيقَةَ ما وصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، وامْتازَ الأوَّلُ بِتَعْطِيلِ كُلِّ مُسَمًّى لِلِاسْتِواءِ الحَقِيقِيِّ، وامْتازَ الثّانِي بِإثْباتِ اسْتِواءٍ هو مِن خَصائِصِ المَخْلُوقِينَ، والقَوْلُ الفاصِلُ هو ما عَلَيْهِ الأُمَّةُ الوَسَطُ، مِن أنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلى عَرْشِهِ اسْتِواءً يَلِيقُ بِجَلالِهِ ويَخْتَصُّ بِهِ، فَكَما أنَّهُ مَوْصُوفٌ بِأنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وعَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، ونَحْوَ ذَلِكَ، ولا يَجُوزُ أنْ نُثْبِتَ لِلْعِلْمِ والقُدْرَةِ خَصائِصَ الأعْراضِ الَّتِي لِعِلْمِ المَخْلُوقِينَ وقُدَرِهِمْ، فَكَذَلِكَ هو سُبْحانَهُ فَوْقَ العَرْشِ، ولا نُثْبِتُ لِفَوْقِيَّتِهِ خَصائِصَ فَوْقِيَّةِ المَخْلُوقِ عَلى المَخْلُوقِ ولَوازِمِها.
واعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ في العَقْلِ الصَّحِيحِ، ولا في النَّقْلِ الصَّرِيحِ، ما يُوجِبُ مُخالَفَةَ الطَّرِيقَةِ السَّلَفِيَّةِ أصْلًا، لَكِنْ هَذا المَوْضِعُ لا يَتَّسِعُ لِلْجَوابِ عَنِ الشُّبُهاتِ الوارِدَةِ عَنِ الحَقِّ، فَمَن كانَ في قَلْبِهِ شُبْهَةٌ وأحَبَّ حَلَّها، فَذَلِكَ سَهْلٌ يَسِيرٌ -انْتَهى كَلامُهُ-.
ومَن أحاطَ عَقْلُهُ بِهَذِهِ الغُرَرِ، عَلِمَ بَراءَةَ ساحَةِ السَّلَفِ مِمّا رَمَوْا بِهِ مِنَ التَّجْسِيمِ. وفي هَذِهِ النَّفائِسِ مِنَ الفَوائِدِ ما يَشْفَعُ لَدى الواقِفِ بِطُولِهِ.
الثّالِثُ: يُطْلَقُ العَرْشُ عَلى مَعانٍ: السَّرِيرُ، ومِنهُ آيَةُ: ﴿ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ [النمل: ٢٣] والمُلْكُ، يُقالُ: ثَلَّ عَرْشُهم. وسَقْفُ البَيْتِ، ومِنهُ آيَةُ: ﴿وهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها﴾ [الكهف: ٤٢] (p-٢٧٣٨)وحَدِيثُ ««كالقِنْدِيلِ المُعَلَّقِ بِالعَرْشِ»» أوِ البِناءُ، ومِنهُ: ﴿وما كانُوا يَعْرِشُونَ﴾ [الأعراف: ١٣٧] أيْ: يَبْنُونَ ومِنهُ: العَرِيشُ، وهو ما يُسْتَظَلُّ بِهِ. والعَرْشُ المُضافُ إلى اللَّهِ تَعالى لا يَحُدُّ.
قالَ في القامُوسِ: العَرْشُ، عَرْشُ اللَّهِ تَعالى، ولا يُحَدُّ -انْتَهى.
وقالَ الرّاغِبُ: عَرْشُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ مِمّا لا يَعْلَمُهُ البَشَرُ إلّا بِالِاسْمِ عَلى الحَقِيقَةِ، ولِذا لَمْ يَصِحَّ في صِفَتِهِ حَدِيثٌ، وكُلُّ ما رُوِيَ في ذَلِكَ فَلَيْسَ مِن مَرْوِيّاتِ الصِّحاحِ.
قالَ البَيْهَقِيُّ في كِتابِ (الأسْماءُ والصِّفاتُ): وأقاوِيلُ أهْلِ التَّفْسِيرِ عَلى أنَّ العَرْشَ هو السَّرِيرُ، وأنَّهُ جِسْمٌ مُجَسَّمٌ، خَلَقَهُ اللَّهُ تَعالى، وأمَرَ مَلائِكَتَهُ بِحَمْلِهِ، وتَعَبَّدَهم بِتَعْظِيمِهِ والطَّوافِ بِهِ، كَما خَلَقَ في الأرْضِ بَيْتًا، وأمَرَ بَنِي آدَمَ بِالطَّوافِ بِهِ واسْتِقْبالِهِ في الصَّلاةِ، وفي أكْثَرِ الآياتِ دَلالَةٌ عَلى صِحَّةِ ما ذَهَبُوا إلَيْهِ، وفي الأخْبارِ والآثارِ الوارِدَةِ في مَعْناهُ دَلِيلٌ عَلى صِحَّةِ ذَلِكَ -انْتَهى.
وقالَ الحافِظُ الذَّهَبِيُّ في كِتابِ (العُلُوُّ): اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ، قَدْ أخْبَرَنا، وهو (p-٢٧٣٩)أصْدَقُ القائِلِينَ، بِأنَّ عَرْشَ بِلْقِيسَ عَرْشٌ عَظِيمٌ: ﴿ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ [النمل: ٢٣] ثُمَّ خَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلا هو رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾ [النمل: ٢٦] فَكانَ عَرْشُها عَظِيمًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْها، وما نُحِيطُ الآنَ عِلْمًا بِتَفاصِيلِ عَرْشِها ولا بِمِقْدارِهِ ولا بِماهِيَّتِهِ. ثُمَّ قالَ: فَما الظَّنُّ بِما أعَدَّ اللَّهُ تَعالى مِنَ السُّرُرِ والقُصُورِ في الجَنَّةِ لِعِبادِهِ، فَما الظَّنُّ بِالعَرْشِ العَظِيمِ الَّذِي اتَّخَذَهُ العَلِيُّ العَظِيمُ لِنَفْسِهِ في ارْتِفاعِهِ وسِعَتِهِ، وقَوائِمِهِ وماهِيَّتِهِ وحَمَلَتِهِ الحافِّينَ مِن حَوْلِهِ، وحُسْنِهِ ورَوْنَقِهِ وقِيمَتِهِ؟ اسْمَعْ وتَعَقَّلْ ما يُقالُ، والجَأْ إلى الإيمانِ بِالغَيْبِ، فَلَيْسَ الخَبَرُ كالمُعايَنَةِ، فالقُرْآنُ مَشْحُونٌ بِذِكْرِ العَرْشِ، وكَذَلِكَ الآثارُ، بِما يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ (المُلْكَ). فَدَعِ المُكابَرَةَ والمِراءَ، فَإنَّ المِراءَ في القُرْآنِ كُفْرٌ.
آمَنّا بِاللَّهِ وأشْهَدُ بِأنّا مُسْلِمُونَ، لا إلَهَ إلّا اللَّهُ الحَلِيمُ الكَرِيمُ، لا إلَهَ إلّا اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لا إلَهَ إلّا اللَّهُ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ ورَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ، الحَمْدُ لِلَّهِ رَبُّ العالَمِينَ. انْتَهى كَلامُ الذَّهَبِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى-.
الرّابِعُ: سُئِلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَةَ، عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ والرِّضْوانُ، عَنِ العَرْشِ: هَلْ هو كَرِيٌّ أمْ لا، فَإذا كانَ كَرِيًّا واللَّهُ مِن ورائِهِ مُحِيطٌ بِهِ بائِنٌ عَنْهُ، فَما فائِدَةُ تَوَجُّهِ العَبْدِ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ حِينَ الدُّعاءِ والعِبادَةِ، فَيَقْصِدُ العُلُوَّ دُونَ غَيْرِهِ، إذْ لا فَرْقَ حِينَئِذٍ بَيْنَ قَصْدِ جِهَةِ العُلُوِّ وغَيْرِها مِنَ الجِهاتِ الَّتِي تُحِيطُ بِالدّاعِي، ومَعَ هَذا نَجِدُ في قُلُوبِنا قَصْدًا يَطْلُبُ العُلُوَّ، لا يَلْتَفِتُ يُمْنَةً ولا يُسْرَةً. فَأخْبَرَنا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُها في قُلُوبِنا وقَدْ فُطِرْنا عَلَيْها.
فَأجابَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ:
إنَّ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أنَّ العَرْشَ فَلَكٌ مِنَ الأفْلاكِ المُسْتَدِيرَةِ الكُرِيَّةِ، وإنَّما ذَكَرَهُ طائِفَةٌ مِنَ المُتَأخِّرِينَ الَّذِينَ نَظَرُوا في عِلْمِ الهَيْئَةِ، فَرَأوْا أنَّ الأفْلاكَ تِسْعَةٌ، وأنَّ التّاسِعَ، وهو الأطْلَسُ، مُحِيطٌ بِها، وهو الَّذِي يُحَرِّكُها الحَرَكَةَ الشَّرْقِيَّةَ، وإنْ كانَ لِكُلِّ (p-٢٧٤٠)فَلَكٍ حَرَكَةٌ تَخُصُّهُ، ثُمَّ سَمِعُوا في أخْبارِ الأنْبِياءِ ذِكْرَ عَرْشِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وكُرْسِيِّهِ والسَّماواتِ السَّبْعِ، فَقالُوا (بِطَرِيقِ الظَّنِّ): إنَّ العَرْشَ هو الفَلَكُ التّاسِعُ، لِاعْتِقادِهِمْ أنَّهُ لَيْسَ وراءَ ذَلِكَ شَيْءٌ، إمّا مُطْلَقًا وإمّا أنَّهُ لَيْسَ وراءَهُ مَخْلُوقٌ. ثُمَّ إنَّ مِنهم مَن رَأى أنَّهُ هو الَّذِي يُحَرِّكُ الأفْلاكَ كُلَّها، فَجَعَلُوهُ مَبْدَأ الحَوادِثِ، ورُبَّما سَمّاهُ بَعْضُهُمُ الرُّوحَ أوِ النَّفْسَ. وجَعَلَهُ بَعْضُهم هو اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، وبَعْضُ النّاسِ ادَّعى أنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الكَشْفِ، وذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ أخَذَهُ مِن هَؤُلاءِ المُتَفَلْسِفَةِ، كَما فَعَلَ أصْحابُ (رَسائِلِ إخْوانِ الصَّفاءِ).
والأخْبارُ تَدُلُّ عَلى أنَّ العَرْشَ مُبايِنٌ لِغَيْرِهِ مِنَ المَخْلُوقاتِ، وأنَّهُ قَبْلَ السَّماواتِ والأرْضِ. فَقَدْ ثَبَتَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ أنَّهُ ﷺ قالَ: ««كانَ اللَّهُ ولَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ، وكَتَبَ في الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وخَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ، وأنَّ لَهُ قَوائِمَ»» كَما في حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ: ««فَإذا أنا بِمُوسى آخِذٌ بِقائِمَةٍ مِن قَوائِمِ العَرْشِ»» .
وقَدِ اسْتَدَلَّ مَن قالَ إنَّهُ مُقَبَّبٌ، بِما رَواهُ أبُو داوُدَ مِن قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ««وإنَّ اللَّهَ تَعالى عَلى عَرْشِهِ، وإنَّ عَرْشَهُ عَلى سَماواتِهِ، (p-٢٧٤١)وسَماواتِهِ فَوْقَ أرْضِهِ هَكَذا، وقالَ بِأصابِعِهِ مِثْلَ القُبَّةِ»» . وهَذا لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ فَلَكٌ مِنَ الأفْلاكِ، ولا مُسْتَدِيرٌ مِثْلَ ذَلِكَ، لَكِنْ لَفْظُ (القُبَّةِ) يَسْتَلْزِمُ اسْتِدارَةً مِنَ العُلُوِّ، لا مِن جَمِيعِ الجَوانِبِ، إلّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، ولَفْظُ (الفَلَكِ) يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلى الِاسْتِدارَةِ مُطْلَقًا، كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ فِي: ﴿كُلٌّ في فَلَكٍ﴾ [الأنبياء: ٣٣] في فَلَكَةٍ مِثْلَ فَلَكَةِ المِغْزَلِ، وأمّا لَفْظُ (القُبَّةِ) فَإنَّهُ لا يَتَعَرَّضُ لِهَذا المَعْنى، لا بِنَفْيٍ ولا إثْباتٍ، لَكِنْ يَدُلُّ عَلى الِاسْتِدارَةِ مِنَ العُلُوِّ.
واعْلَمْ أنَّ العَرْشَ، سَواءٌ كانَ هَذا الفَلَكَ التّاسِعَ، أوْ جِسْمًا مُحِيطًا بِهِ، أوْ كانَ فَوْقَهُ مِن جِهَةِ وجْهِ الأرْضِ، مُحِيطٌ بِهِ، أوْ قِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أنْ يَعْلَمَ أنَّ العالَمَ العُلْوِيَّ والسُّفْلِيَّ بِالنِّسْبَةِ إلى الخالِقِ تَعالى في غايَةِ الصِّغَرِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ والسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: ٦٧]
وفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ««يَقْبِضُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى الأرْضَ يَوْمَ القِيامَةِ (p-٢٧٤٢)ويَطْوِي السَّماءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أنا المَلِكُ. أيْنَ مُلُوكُ الأرْضِ؟»»، وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّهُ قالَ: ««يَطْوِي اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ السَّماواتِ يَوْمَ القِيامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اليُمْنى، ثُمَّ يَقُولُ: أنا المَلِكُ، أيْنَ الجَبّارُونَ، أيْنَ المُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الأرَضِينَ بِشَمالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أنا المَلِكُ، أيْنَ الجَبّارُونَ، أيْنَ المُتَكَبِّرُونَ؟»» . وفي لَفْظٍ: ««ويَتَمَيَّلُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى يَمِينِهِ وعَلى شَمالِهِ، حَتّى نَظَرْتُ إلى المِنبَرِ يَتَحَرَّكُ مِن أسْفَلِهِ شَيْءٌ»» .
وفِي رِوايَةٍ أُخْرى قالَ: «قَرَأ عَلى المِنبَرِ: ﴿والأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ﴾ [الزمر: ٦٧] الآيَة، قالَ: مَطْوِيَّةٌ في كَفِّهِ، يَرْمِي بِها كَما يَرْمِي الغُلام بِالكَرَّةِ»، فَفي هَذِهِ الأحادِيثِ وغَيْرِها، المُتَّفَقِ عَلى صِحَّتِها، ما يُبَيِّنُ أنَّ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما بِالنِّسْبَةِ إلى عَظَمَتِهِ عَزَّ وجَلَّ، أصْغَرُ مِن أنْ تَكُونَ مَعَ قَبْضِهِ لَها، إلّا كالشَّيْءِ الصَّغِيرِ في يَدِ أحَدِنا، حَتّى يَدْحُوَها كَما تُدْحى الكُرَةُ.
ثُمَّ قالَ في الجَوابِ: فَما وصَفَ اللَّهُ تَعالى مِن نَفْسِهِ وأسْمائِهِ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ ﷺ سَمَّيْناهُ كَما سَمّاهُ، ولَمْ نَتَكَلَّفْ عِلْمَ ما سِواهُ، فَلا نَجْحَدُ ما وصَفَ، ولا نَتَكَلَّفُ مَعْرِفَةَ ما لَمْ يَصِفْ، وإذْ كانَ كَذَلِكَ، فَهو قادِرٌ عَلى أنْ يَقْبِضَها ويَدْحُوَها كالكُرَةِ. وفي ذَلِكَ مِنَ الإحاطَةِ بِها ما لا يَخْفى، وإنْ شاءَ لَمْ يَفْعَلْ. وبِكُلِّ حالٍ فَهو مُبايِنٌ لَها، لَيْسَ بِمُجانِبٍ لَها، ومِنَ (p-٢٧٤٣)المَعْلُومِ أنَّ الواحِدَ مِنّا - ولِلَّهِ المَثَلُ الأعْلى - إذا كانَ عِنْدَهُ خَرْدَلَةٌ، إنْ شاءَ قَبَضَها، فَأحاطَتْ بِها قَبْضَتُهُ، وإنْ شاءَ لَمْ يَقْبِضْها، بَلْ جَعَلَها تَحْتَهُ، فَهو في الحالَيْنِ مُبايِنٌ لَها، وسَواءٌ قَدَّرَ أنَّ العَرْشَ هو مُحِيطٌ بِالمَخْلُوقاتِ، كَإحاطَةِ الكُرَةِ بِما فِيها، أمْ قِيلَ إنَّهُ فَوْقَها ولَيْسَ مُحِيطًا بِها كَوَجْهِ الأرْضِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْها بِالنِّسْبَةِ إلى جَوْفِها، وكالقُبَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلى ما تَحْتَها، أوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَعَلى التَّقْدِيرِ يَكُونُ العَرْشُ فَوْقَ المَخْلُوقاتِ، والخالِقُ سُبْحانَهُ فَوْقَهُ، والعَبْدُ في تَوَجُّهِهِ إلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ، يَقْصِدُ العُلُوَّ، دُونَ التَّحْتِ.
وتَمامُ هَذا البَحْثِ بِأنْ يُقالَ: لا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ العَرْشُ كُرِيًّا كالأفْلاكِ، ويَكُونُ مُحِيطًا بِها، وإمّا أنْ يَكُونَ فَوْقَها، ولَيْسَ بِكُرِيٍّ.
فَإنْ كانَ الأوَّلَ، فَمِنَ المَعْلُومِ -بِاتِّفاقِ مَن يَعْلَمُ هَذا - أنَّ الأفْلاكَ مُسْتَدِيرَةٌ كُرِيَّةٌ، وأنَّ الجِهَةَ العُلْيا هي جِهَةُ المُحِيطِ، وهو المَحْدُودُ، وأنَّ الجِهَةَ السُّفْلى هي المَرْكَزُ، ولَيْسَ لِلْأفْلاكِ إلّا جِهَتانِ: العُلُوُّ والسُّفْلُ فَقَطْ. وأمّا الجِهاتُ السِّتُّ فَهي لِلْحَيَوانِ، فَإنَّ لَهُ سِتَّ جَوانِبَ: يَؤُمُّ جِهَةً فَتَكُونُ أمامَهُ، ويَخْلُفُ أُخْرى فَتَكُونُ خَلْفَهُ، وجِهَةٌ تُحاذِي شَمالَهُ، وجِهَةٌ تُحاذِي يَمِينَهُ، وجِهَةٌ تُحاذِي رَأْسَهُ، وجِهَةٌ تُحاذِي رِجْلَيْهِ. ولَيْسَ لِهَذِهِ الجِهاتِ في نَفْسِها صِفَةٌ لازِمَةٌ، بَلْ هي بِحَسَبِ النِّسْبَةِ والإضافَةِ، فَيَكُونُ يَمِينُ هَذا ما يَكُونُ يَسارَ هَذا، ويَكُونُ فَوْقُ هَذا ما يَكُونُ تَحْتَ هَذا، لَكِنَّ جِهَةَ العُلُوِّ والسُّفْلِ لِلْأفْلاكِ لا تَتَغَيَّرُ، فالمُحِيطُ هو لِلْعُلُوِّ، والمَرْكَزُ هو السُّفْلُ، مَعَ أنَّ وجْهَ الأرْضِ الَّتِي وضَعَها اللَّهُ تَعالى لِلْأنامِ، وأرْساها بِالجِبالِ، هو الَّذِي عَلَيْهِ النّاسُ والبَهائِمُ وغَيْرُهُما.
فَأمّا النّاحِيَةُ الأُخْرى مِنها فالبَحْرُ مُحِيطٌ بِها، ولَيْسَ هُناكَ شَيْءٌ مِنَ الآدَمِيِّينَ وما يَتْبَعُهم. ولَوْ قُدِّرَ أنَّ هُناكَ أحَدًا، لَكانَ عَلى ظَهْرِ الأرْضِ، ولَمْ يَكُنْ مَن في هَذِهِ الجِهَةِ تَحْتَ مَن في هَذِهِ الجِهَةِ، ولا مَن في هَذِهِ تَحْتَ مَن في هَذِهِ. كَما أنَّ الأفْلاكَ مُحِيطَةٌ بِالمَرْكَزِ، ولَيْسَ أحَدُ جانِبَيِ الفَلَكِ تَحْتَ الآخَرِ، ولا القُطْبُ الشَّمالِيُّ تَحْتَ الجَنُوبِيِّ، ولا بِالعَكْسِ، وإنْ كانَ الشَّمالِيُّ هو الظّاهِرَ لَنا بِحَسَبِ بُعْدِ النّاسِ عَنْ خَطِّ الِاسْتِواءِ، فَما كانَ بُعْدُهُ عَنْ خَطِّ الِاسْتِواءِ ثَلاثِينَ دَرَجَةً مَثَلًا، كانَ ارْتِفاعُ القُطْبِ عِنْدَهُ (p-٢٧٤٤)ثَلاثِينَ دَرَجَةً، وهو الَّذِي يُسَمّى عَرْضَ البَلَدَ، فَكَما أنَّ جَوانِبَ الأرْضِ المُحِيطَةَ بِها، وجَوانِبَ الفَلَكِ المُسْتَدِيرِ لَيْسَ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ولا تَحْتَهُ، فَكَذَلِكَ مَن يَكُونُ عَلى الأرْضِ لا يُقالُ إنَّهُ تَحْتَ أُولَئِكَ، وإنَّما هَذا خَيالٌ يَتَخَيَّلُهُ الإنْسانُ، وهو (تَحْتٌ) إضافِيٌّ. كَما لَوْ كانَتْ نَمْلَةُ تَمْشِي تَحْتَ سَقْفٍ، فالسَّقْفُ فَوْقَها، وإنْ كانَتْ رِجْلاها تُحاذِيانِهِ، وكَذَلِكَ مَن عُلِّقَ مَنكُوسًا، فَإنَّهُ تَحْتَ السَّماءِ، وإنْ كانَتْ رِجْلاهُ تَلِي السَّماءَ، وكَذَلِكَ قَدْ يَتَوَهَّمُ الإنْسانُ إذا كانَ في أحَدِ جانِبَيِ الأرْضِ أوِ الفَلَكِ، أنَّ الجانِبَ الآخَرَ تَحْتَهُ. وهَذا أمْرٌ لا يَتَنازَعُ فِيهِ اثْنانِ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ الأفْلاكَ مُسْتَدِيرَةٌ، وهَذا كَما أنَّهُ قَوْلُ أهْلِ الهَيْئَةِ والحِسابِ، فَهو الَّذِي عَلَيْهِ عُلَماءُ المُسْلِمِينَ، كَما ذَكَرَهُ أبُو الحُسَيْنِ المِنّاوِيُّ وأبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ وأبُو الفَرَجِ بْنُ الجَوْزِيِّ وغَيْرُهم. وهو المَأْخُوذُ مِن قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ. ومَن ظَنَّ أنَّ مَن يَكُونُ في الفَلَكِ مِن ناحِيَةٍ يَكُونُ تَحْتَهُ مَن في الفَلَكِ مِنَ النّاحِيَةِ الأُخْرى في نَفْسِ الأمْرِ، فَهو مُتَوَهِّمٌ عِنْدَهم.
فَإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، فَإذا قُدِّرَ أنَّ العَرْشَ مُسْتَدِيرٌ مُحِيطٌ بِالمَخْلُوقاتِ كانَ هو أعْلاها وسَقْفَها وهو فَوْقُها مُطْلَقًا، فَلا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ وإلى ما فَوْقَهُ الإنْسانُ إلّا مِنَ العُلُوِّ.
ومَن تَوَجَّهَ إلى الفَلَكِ الثّامِنِ أوِ التّاسِعِ مَثَلًا مِن غَيْرِ جِهَةِ العُلُوِّ، كانَ جاهِلًا بِاتِّفاقِ العُقَلاءِ، فَكَيْفَ بِالتَّوَجُّهِ إلى العَرْشِ أوْ إلى ما فَوْقَهُ ! وغايَةُ ما يَقْدِرُ أنْ يَكُونَ كَرِيَّ الشَّكْلِ، واللَّهُ تَعالى مُحِيطٌ بِالمَخْلُوقاتِ كُلِّها إحاطَةً تَلِيقُ بِجَلالِهِ، فَإنَّ السَّماواتِ السَّبْعَ والأرْضَ في يَدِهِ أصْغَرُ مِنَ الحِمَّصَةِ في يَدِ أحَدِنا. وأمّا قَوْلُ القائِلِ: إذا كانَ كَرِيًّا، واللَّهُ مِن ورائِهِ مُحِيطٌ بائِنٌ عَنْهُ، فَما الفائِدَةُ في التَّوَجُّهِ إلى العُلُوِّ دُونَ التَّحْتِ، ومَعَ هَذا نَجِدُ في قُلُوبِنا قَصْدَ العُلُوِّ؟ فَيُقالُ: هَذا إنَّما ورَدَ لِتَوَهُّمِ أنَّ نِصْفَ الفَلَكِ يَكُونُ تَحْتَ الأرْضِ، وتَحْتَ ما عَلى وجْهِ الأرْضِ، مِنَ الآدَمِيِّينَ والبَهائِمِ، وهَذا غَلَطٌ. فَلَوْ كانَ الفَلَكُ تَحْتَ الأرْضِ مِن جِهَةٍ، لَكانَ تَحْتَها مِن كُلِّ جِهَةٍ، فَكانَ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ الفَلَكُ تَحْتَ الأرْضِ مُطْلَقًا، وهَذا قَلْبٌ لِلْحَقائِقِ إذِ الفَلَكُ هو فَوْقَ الأرْضِ مُطْلَقًا، وأهْلُ الهَيْئَةِ يَقُولُونَ: لَوْ أنَّ الأرْضَ مَخْرُوقَةٌ إلى ناحِيَةِ (p-٢٧٤٥)أرْجُلِنا، وأُلْقِيَ في الخَرْقِ شَيْءٌ ثَقِيلٌ كالحَجَرِ ونَحْوِهِ، لَكانَ يَنْتَهِي إلى المَرْكَزِ، حَتّى لَوْ أُلْقِيَ مِن تِلْكَ النّاحِيَةِ حَجَرٌ آخَرُ، لالتَقَيا جَمِيعًا في المَرْكَزِ، الَّذِي هو النُّقْطَةُ المُتَوَسِّطَةُ في كُرَةِ الأرْضِ، ولَوْ قُدِّرَ أنَّ إنْسانَيْنِ التَقَيا في المَرْكَزِ بَدَلَ الحَجَرِ، لالتَقَتْ رِجْلاهُما، ولَمْ يَكُنْ أحَدُهُما تَحْتَ الآخَرِ، بَلْ كِلاهُما فَوْقَ المَرْكَزِ، وكِلاهُما تَحْتَ الفَلَكِ.
وإذا كانَ مَطْلُوبُ أحَدٍ ما فَوْقَ الفَلَكِ لَمْ يَطْلُبْهُ إلّا مِنَ الجِهَةِ العُلْيا، لِأنَّ مَطْلُوبَهُ مِن تِلْكَ الجِهَةِ أقْرَبُ، لِأنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أنَّ رَجُلًا أوْ مَلَكًا يَصْعَدُ إلى السَّماءِ، كانَ صُعُودُهُ مِمّا يَلِي رَأْسَهُ، ولا يَقُولُ عاقِلٌ إنَّهُ يَخْرِقُ الأرْضَ ثُمَّ يَصْعَدُ مِن تِلْكَ النّاحِيَةِ، أوْ يَذْهَبُ يَمِينًا أوْ شِمالًا ثُمَّ يَصْعَدُ. ولَوْ أنَّ رَجُلًا أرادَ مُخاطَبَةَ القَمَرِ، فَإنَّهُ لا يُخاطِبُهُ إلّا مِنَ الجِهَةِ العُلْيا، مَعَ أنَّهُ قَدْ يُشْرِقُ ويَغْرُبُ، فَكَيْفَ بِما هو فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لا يَأْفُلُ ولا يَغِيبُ سُبْحانَهُ وتَعالى.
وكَما أنَّ حَرَكَةَ الحَجَرِ تَطْلُبُ مَرْكَزَها بِأقْصَرِ طَرِيقٍ، وهو الخَطُّ المُسْتَقِيمُ، فالطَّلَبُ الإرادِيُّ الَّذِي يَقُومُ بِقُلُوبِ العِبادِ، كَيْفَ يَعْدِلُ عَنِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ؟
مَطْلَبٌ في حَدِيثِ الإدْلاءِ
إلى أنْ قالَ:
وحَدِيثُ الإدْلاءِ، الَّذِي رَواهُ أبُو هُرَيْرَةَ وأبُو ذَرٍّ، قَدْ رَواهُ التِّرْمِذِيُّ وغَيْرُهُ مِن حَدِيثِ (p-٢٧٤٦)الحَسَنِ عَنْ أبِي هُرَيْرَة، وهو مُنْقَطِعٌ، فَإنَّ الحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِن أبِي هُرَيْرَةَ، ولَكِنْ يُقَوِّيهِ حَدِيثُ أبِي ذَرٍّ المَرْفُوعُ. فَإنْ كانَ ثابِتًا، فَمَعْناهُ مُوافِقٌ لِهَذا، فَإنَّ قَوْلَهُ ﷺ: ««لَوْ أدْلى أحَدُكم بِحَبْلٍ لَهَبَطَ عَلى اللَّهِ»»، إنَّما هو تَقْدِيرٌ مَفْرُوضٌ، أيْ: لَوْ وقَعَ الإدْلاء لَوَقَعَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لا يُمْكِنُ أنْ يُدْلِي أحَدٌ عَلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ شَيْئًا، لِأنَّهُ عالٍ بِالذّاتِ، وإذا أُهْبِطَ شَيْءٌ إلى جِهَةِ الأرْضِ وقَفَ في المَرْكَزِ، والمَقْصُودُ بَيانُ إحاطَةِ الخالِقِ سُبْحانَهُ، كَما بَيَّنَ أنَّهُ يَقْبِضُ السَّماواتِ، ويَطْوِي الأرْضَ، ونَحْوَ ذَلِكَ مِمّا فِيهِ بَيانُ إحاطَتِهِ تَعالى، ولِهَذا قَرَأ في تَمامِ الحَدِيثِ:
﴿هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظّاهِرُ والباطِنُ وهو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: ٣] وهَذا كُلُّهُ عَلى (p-٢٧٤٧)تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ، فَإنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمّا رَواهُ قالَ: وفَسَّرَهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ بِأنَّهُ هَبَطَ عَلى عِلْمِ اللَّهِ. وبَعْضُ الحُلُولِيَّةِ والِاتِّحادِيَّةِ يَظُنُّ أنَّ فِيهِ ما يَدُلُّ عَلى زَعْمِهِ الباطِلِ مِن أنَّهُ سُبْحانَهُ حالٌّ بِذاتِهِ في كُلِّ مَكانٍ، أوْ أنَّ وُجُودَهُ وُجُودُ الأمْكِنَةِ ونَحْوَ ذَلِكَ. وكَذَلِكَ تَأْوِيلُهُ بِالعِلْمِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، بَلْ عَلى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ، فالمُرادُ بِهِ الإحاطَةُ، ونَحْنُ لا نَتَكَلَّمُ إلّا بِما نَعْلَمُ، وما لَمْ نَعْلَمْهُ أمْسَكْنا عَنْهُ، وقَدْ فَطَرَ اللَّهُ تَعالى النّاسَ عَلى التَّوَجُّهِ في الدُّعاءِ إلى جِهَةِ العُلُوِّ، وقالَ تَعالى: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ [الروم: ٣٠] فَجاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِالعِبادَةِ والدُّعاءِ بِما يُوافِقُ الفِطْرَةَ.
وقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ أنَّهُ ﷺ قالَ: ««إذا قامَ أحَدُكم إلى الصَّلاةِ فَلا يَبْصُقْ قِبَلَ وجْهِهِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قِبَلَ وجْهِهِ، ولا عَنْ يَمِينِهِ فَإنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا، ولْيَبْصُقْ عَنْ يَسارِهِ أوْ تَحْتَ رِجْلِهِ» . وفي رِوايَةٍ: إنَّهُ أذِنَ أنْ يَبْصُقَ في ثَوْبِهِ»، وفي حَدِيثِ أبِي رَزِينٍ (p-٢٧٤٨)المَشْهُورِ: لِما «أخْبَرَ ﷺ أنَّهُ ما مِن أحَدٍ إلّا سَيَخْلُو بِهِ رَبُّهُ، فَقالَ لَهُ أبُو رَزِينٍ: كَيْفَ يَسَعُنا يا رَسُولَ اللَّهِ وهو واحِدٌ ونَحْنُ جَمْعٌ؟ فَقالَ: «سَأُنْبِئُكَ بِمِثْلِ ذَلِكَ في آلاءِ اللَّهِ تَعالى: هَذا القَمَرُ آيَةٌ مِن آياتِ اللَّهِ تَعالى، كُلُّكم يَراهُ مُخَلِّيًا بِهِ، فاللَّهُ أكْبَرُ»» .
وفِي الصَّحِيحَيْنِ: ««لَيَنْتَهِيَنَّ أقْوامٌ عَنْ رَفْعِ أبْصارِهِمْ في الصَّلاةِ، أوْ لا تَرْجِعُ إلَيْهِمْ أبْصارُهم»» .
واتَّفَقَ العُلَماءُ عَلى أنَّ رَفْعَ المُصَلِّي بَصَرَهُ إلى السَّماءِ مَنهِيٌّ عَنْهُ، ورَوى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ في الصَّلاةِ إلى السَّماءِ، حَتّى نَزَلَ: ﴿الَّذِينَ هم في صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٢] فَكانَ بَصَرُهُ لا يُجاوِزُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ» .
فَهَذا مِمّا جاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ تَكْمِيلًا لِلْفِطْرَةِ، لِأنَّ الدّاعِيَ المَأْمُورَ بِالذُّلِّ، لا يُناسِبُ حالَهُ أنْ يَنْظُرَ إلى ناحِيَةِ مَن يَدْعُوهُ، خِلافًا لِلْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ العَرْشِ وقَعْرِ البَحْرِ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ﴾ [البقرة: ١٤٤] الآيَةَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَأْوِيلَ: «(الحَجَرُ الأسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ في الأرْضِ فَمَن صافَحَهُ وقَبَّلَهُ فَكَأنَّما صافَحَ اللَّهَ تَعالى وقَبَّلَ يَمِينَهُ»، وقالَ: قَدْ ظَنُّوا أنَّ هَذا وأمْثالَهُ مُحْتاجٌ إلى التَّأْوِيلِ، وهَذا وهْمٌ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ هَذا اللَّفْظُ ثابِتًا عَنِ (p-٢٧٤٩)النَّبِيِّ ﷺ فَإنَّهُ صَرِيحٌ في أنَّ الحَجَرَ لَيْسَ هو مِن صِفاتِهِ تَعالى، وتَقْيِيدُهُ بِالأرْضِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ هو يَدَهُ عَلى الإطْلاقِ، فَلا تَكُونُ اليَدُ حَقِيقَةً. وقَوْلُهُ: (فَكَأنَّما صافَحَ اللَّهَ تَعالى)... إلَخْ، صَرِيحٌ في أنَّ المُصافِحَ لَيْسَ مُصافِحًا لَهُ تَعالى، لِأنَّ المُشَبَّهَ لَيْسَ هو المُشَبَّهَ بِهِ.
إلى أنْ قالَ: فَهَذا كُلُّهُ بِتَقْدِيرِ كُرِيَّةِ العَرْشِ، وأمّا إذا قُدِّرَ أنَّهُ لَيْسَ بِكُرِيِّ الشَّكْلِ، بَلْ هو فَوْقَ العالَمِ مِنَ الجِهَةِ الَّتِي هي وجْهُ الأرْضِ، وأنَّهُ فَوْقَ الأفْلاكِ الكُرِيَّةُ، كَما أنَّ وجْهَ الأرْضِ المَوْضُوعُ لِلْأنامِ، فَوْقَ نِصْفِ الأرْضِ الكُرِيِّ، أوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ المَقادِيرِ الَّتِي يُقَدَّرُ فِيها أنَّ العَرْشَ فَوْقَ ما سِواهُ، فَعَلى كُلِّ تَقْدِيرٍ لا يَتَوَجَّهُ إلى اللَّهِ تَعالى إلّا إلى العُلُوِّ، مَعَ كَوْنِهِ عَلى عَرْشِهِ مُبايِنًا لِخَلْقِهِ. وعَلى ما ذَكَرْناهُ لا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنَ المَحْذُورِ والتَّناقُضِ، وهَذا يُزِيلُ كُلَّ شُبْهَةٍ تَنْشَأُ مِنِ اعْتِقادٍ فاسِدٍ، وهو أنْ يَظُنَّ أنَّ العَرْشَ إذا كانَ كُرِيًّا، واللَّهُ تَعالى فَوْقَهُ كَما تَقْتَضِيهِ ذاتُهُ - سُبْحانَهُ عَنْ مُشابَهَةِ المَخْلُوقِينَ- وجَبَ (فِيما عِنْدَ الزّاعِمِ) أنْ يَكُونَ سُبْحانَهُ كَرِيًّا، ثُمَّ يَعْتَقِدُ أنَّهُ إذا كانَ كَرِيًّا فَيَصِحُّ التَّوَجُّهُ إلى ما هو كَرِيٌّ كالفَلَكِ التّاسِعِ مِن جَمِيعِ الجِهاتِ، وهَذا خَطَأٌ، فَإنَّ القَوْلَ بِأنَّ العَرْشَ كَرِيٌّ لا يَجُوزُ أنْ يَظُنَّ أنَّهُ مُشابِهٌ لِلْأفْلاكِ في أشْكالِها وأقْدارِها أوْ في صِفاتِها، بَلْ قَدْ تَبَيَّنَ أنَّهُ سُبْحانَهُ أعْظَمُ وأكْبَرُ مِن أنْ تَكُونَ المَخْلُوقاتُ عِنْدَهُ أصْغَرَ مِنَ الحِمَّصَةِ في يَدِ أحَدِنا، فَإذا كانَتِ الحِمَّصَةُ مَثَلًا في يَدِ الإنْسانِ أوْ تَحْتَهُ أوْ نَحْوَ ذَلِكَ، هَلْ يَتَصَوَّرُ عاقِلٌ، إذا اسْتَشْعَرَ عُلُوَّ الإنْسانِ عَلى ذَلِكَ وإحاطَتَهُ، بِأنْ يَكُونَ الإنْسانُ كالفَلَكِ؟ فاللَّهُ تَعالى -ولَهُ المَثَلُ الأعْلى- أعْظَمُ مِن أنْ يُظَنَّ بِهِ ذَلِكَ. وإنَّما يَظُنُّهُ الَّذِينَ لَمْ يُقَدِّرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ والسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ. وإذا لَمْ يَكُنْ كَرِيًّا، فالأمْرُ ظاهِرٌ مِمّا تَقَدَّمَ، وبِهَذا يَظْهَرُ الجَوابُ عَنِ السُّؤالِ مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
(p-٢٧٥٠)وإنَّما أشْبَعْنا الكَلامَ في هَذا المَقامِ، لِأنَّهُ مِن أُصُولِ العَقائِدِ الدِّينِيَّةِ، ومُهِمّاتِ المَسائِلِ التَّوْحِيدِيَّةِ، وقَدْ كَثُرَ فِيهِ تَعارُكُ الآراءِ، وتَصادُمُ الأهْواءِ، ولَمْ يَأْتِ جُمْهُورُ المُتَكَلِّمِينَ المُؤَوِّلِينَ بِشَيْءٍ يَعْلُقُ بِقَلْبِ الأذْكِياءِ، بَلِ اجْتَهَدُوا في إيرادِ التَّمَحُّلاتِ الَّتِي تَأْباها فِطْرَةُ اللَّهِ أشَدَّ الإباءِ، فَبَقِيَتْ نُفُوسُ أنْصارِ السُّنَّةِ المُحَقِّقِينَ، مائِلَةً إلى مَذْهَبِ السَّلَفِ الصّالِحِينَ، فَإنَّ الأئِمَّةَ مِنهُمْ، كانَ عَقْدُهم ما بَيَّنّاهُ فَلا تَكُنْ مِنَ المُمْتَرِينَ، والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ﴾ أيْ: يُغَطِّيهِ بِهِ، يَعْنِي أنَّهُ تَعالى يَأْتِي بِاللَّيْلِ عَلى النَّهارِ، فَيُغَطِّيهِ ويَلْبَسُهُ، حَتّى يَذْهَبَ بِنُورِهِ، ويَصِيرَ الجَوُّ مُظْلِمًا، بَعْدَ ما كانَ مُضِيئًا.
قالَ الشِّهابُ: وجَوَّزَ جَعْلَ اللَّيْلِ والنَّهارِ مُغَشًّى عَلى الِاسْتِعارَةِ، بِأنْ يَجْعَلَ غَشَيانَ مَكانِ النَّهارِ وإظْلامِهِ بِمَنزِلَةِ غَشَيانِهِ لِلنَّهارِ نَفْسِهِ، فَكَأنَّهُ لَفَّ عَلَيْهِ لَفَّ الغِشاءِ، أوْ شَبَّهَ تَغْيِيبَ كُلٍّ مِنهُما، بِطَرَيانِهِ عَلَيْهِ، بِسَتْرِ اللِّباسِ لِلابِسِهِ -انْتَهى.
ولَمْ يَذْكُرِ العَكْسَ لِلْعِلْمِ بِهِ، أوْ لِأنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُها، ولِذَلِكَ قُرِئَ: (يَغْشى اللَّيْلَ النَّهارُ) بِنَصْبِ اللَّيْلِ، ورَفْعِ النَّهارِ: ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ أيْ: يَعْقُبُهُ سَرِيعًا، كالطّالِبِ لَهُ، لا يَفْصِلُ بَيْنَهُما شَيْءٌ.
قالَ الرّازِيُّ: وإنَّما وصَفَ سُبْحانَهُ هَذِهِ الحَرَكَةَ بِالسُّرْعَةِ، لِأنَّ تَعاقُبَ اللَّيْلِ والنَّهارِ إنَّما يَحْصُلُ بِحَرَكَةِ الفَلَكِ الأعْظَمِ، وتِلْكَ الحَرَكَةُ أشَدُّ الحَرَكاتِ سُرْعَةً، وأكْمَلُها شِدَّةً، حَتّى إنَّ الباحِثِينَ عَنْ أحْوالِ المَوْجُوداتِ قالُوا: الإنْسانُ إذا كانَ في العَدْوِ الشَّدِيدِ الكامِلِ، فَإلى أنْ يَرْفَعَ رِجْلَهُ ويَضَعَها يَتَحَرَّكُ الفَلَكُ الأعْظَمُ ثَلاثَةَ آلافِ مِيلٍ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، كانَتْ تِلْكَ الحَرَكَةُ في غايَةِ الشِّدَّةِ والسُّرْعَةِ، فَلِهَذا السَّبَبِ قالَ تَعالى: ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ "؛ ﴿والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأمْرِهِ﴾ أيْ مُذَلَّلاتٍ لِما يُرادُ مِنها مِن طُلُوعٍ وغُرُوبٍ وسَيْرٍ ورُجُوعٍ بِقَضائِهِ وتَصْرِيفِهِ.
قالَ الشِّهابُ: وسَمّاهُ (أمْرًا) عَلى التَّشْبِيهِ، إذْ جَعَلَ هَذِهِ الأشْياءَ لِكَوْنِها تابِعَةً لِتَدْبِيرِهِ وتَصْرِيفِهِ كَما يَشاءُ كَأنَّهُنَّ مَأْمُوراتٍ مُنْقادَةً لِأمْرِهِ، ويَصِحُّ حَمْلُهُ عَلى ظاهِرِهِ. انْتَهى.
(p-٢٧٥١)أيْ وهو الكَلامُ، فَيَكُونُ تَعالى أمَرَ هَذِهِ الأجْرامَ بِالسَّيْرِ الدّائِمِ، والحَرَكَةِ المُسْتَمِرَّةِ إلى انْقِضاءِ الدُّنْيا، وخَرابِ هَذا العالَمِ. وقَدْ قُرِئَ ((والشَّمْسَ)) وما بَعْدَهُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى " السَّماواتِ " ونُصِبَ " مُسَخَّراتٍ " عَلى الحالِ. وقَرَأها ابْنُ عامِرٍ كُلُّها بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ: ﴿ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ﴾ أيْ هو الَّذِي خَلَقَ الأشْياءَ كُلَّها، وهو الَّذِي صَرَفَها عَلى حُسْنِ إرادَتِهِ، وفَسَّرَ الأمْرَ بِالقَضاءِ والحُكْمِ.
تَنْبِيهانِ:
الأوَّلُ: اسْتَخْرَجَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ مِن هَذا المَعْنى، أنَّ كَلامَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى فَرَّقَ بَيْنَ الخَلْقِ والأمْرِ، فَمَن جَمَعَ بَيْنَهُما فَقَدْ كَفَرَ. يَعْنِي أنَّ مَن جَعَلَ الأمْرَ الَّذِي هو كَلامُهُ تَعالى مِن جُمْلَةِ ما خَلَقَهُ فَقَدْ كَفَرَ، لِأنَّ المَخْلُوقَ لا يَقُومُ بِمَخْلُوقٍ مِثْلِهِ. كَذا في (اللُّبابِ). قالَ في (الإكْلِيلِ): اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَلى أنَّ القُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ. لِأنَّ (الأمْرَ) هو الكَلامُ، وقَدْ عَطَفَهُ عَلى (الخَلْقِ) فاقْتَضى أنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، لِأنَّ العَطْفَ يَقْتَضِي المُغايَرَةَ، وسَبَقَهُ إلى هَذا الِاسْتِنْباطِ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ.انْتَهى.
الثّانِي: قالَ في (اللُّبابِ): في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لا خالِقَ إلّا اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، أيْ لِلْحَصْرِ المُسْتَفادِ مِن تَقْدِيمِ الظَّرْفِ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلى مَن يَقُولُ إنَّ لِلشَّمْسِ والقَمَرِ والكَواكِبِ تَأْثِيراتٍ في هَذا العالَمِ.
﴿تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ أيْ تَقَدَّسَ وتَنَزَّهَ وتَعالى وتَعاظَمَ. قالَ في (التّاجِ): سُئِلَ أبُو العَبّاسِ عَنْ تَفْسِيرِ ﴿تَبارَكَ اللَّهُ﴾ " فَقالَ: ارْتَفَعَ. انْتَهى.
ولَمّا ذَكَرَ تَعالى الدَّلائِلَ الدّالَّةَ عَلى كَمالِ القُدْرَةِ والحِكْمَةِ، لِيُفْرِدُوهُ بِالأُلُوهِيَّةِ، أمَرَهم بِأنْ يَدْعُوهُ وحْدَهُ مُتَذَلِّلِينَ مُخْلِصِينَ، فَقالَ سُبْحانَهُ:
(p-٢٧٥٢)
{"ayah":"إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ یُغۡشِی ٱلَّیۡلَ ٱلنَّهَارَ یَطۡلُبُهُۥ حَثِیثࣰا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَ ٰتِۭ بِأَمۡرِهِۦۤۗ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق