الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١٩٠] ﴿فَلَمّا آتاهُما صالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالى اللَّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ " ﴿فَلَمّا آتاهُما صالِحًا﴾ أيْ كَما طَلَبا " ﴿جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما﴾ أيْ أخَلّا بِالشُّكْرِ في مُقابَلَةِ نِعْمَةِ الوَلَدِ الصّالِحِ أسْوَأ إخْلالٍ، إذا اسْتَبْدَلُوهُ بِالإشْراكِ. وقَوْلُهُ تَعالى: " ﴿فَتَعالى اللَّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ تَنْزِيهٌ فِيهِ مَعْنى التَّعَجُّبِ. تَنْبِيهٌ: هَذِهِ الآيَةُ سِيقَتْ تَوْبِيخًا لِلْمُشْرِكِينَ في جِنايَتِهِمْ بِالشِّرْكِ، ونَقْضِهِمْ مِيثاقِهِمْ، في جَرْيِهِمْ عَلى خِلافِ ما يُعاهِدُونَ اللَّهَ عَلَيْهِ، وذَلِكَ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ ما أنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الخَلْقِ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ، وجَعَلَ أزْواجَهم مِن أنْفُسِهِمْ لِيَأْنَسُوا بِهِنَّ، ثُمَّ إنْشائِهِ إيّاهم بَعْدَ الغَشَيانِ، مُتَدَرِّجِينَ في أطْوارِ الخَلْقِ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ، ومِنَ الضَّعْفِ إلى القُوَّةِ، ثُمَّ بَيَّنَ إعْطاءَهُمُ المَواثِيقَ إنْ آتاهم ما يَطْلُبُونَ ووَلَدَ لَهم ما يَشْتَهُونَ، لِيَكُونُنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ، ثُمَّ أخْبَرَ عَنْ غَدْرِهِمْ وكُفْرانِهِمْ هَذِهِ النِّعَمَ، الَّتِي امْتَنَّ سُبْحانَهُ بِها عَلَيْهِمْ، ونَقْضِهِمْ مِيثاقَهم في إفْرادِهِ بِالشُّكْرِ، (p-٢٩٢١)حَيْثُ أشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ في ذَلِكَ. ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ، في الإخْبارِ عَنْ تَبْدِيلِ المُشْرِكِينَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ يُونُسَ: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكم في البَرِّ والبَحْرِ حَتّى إذا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وجاءَهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ مَكانٍ وظَنُّوا أنَّهم أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أنْجَيْتَنا مِن هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ﴾ [يونس: ٢٢] ﴿فَلَمّا أنْجاهم إذا هم يَبْغُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ [يونس: ٢٣] وقَدْ ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ هَهُنا أحادِيثَ وآثارًا تُفْهِمُ أنَّ المُرادَ بِهَذا السِّياقِ آدَمُ وحَوّاءُ. ولا حاجَةَ بِنا إلى رِوايَتِها لِأنَّها واهِيَةُ الإسْنادِ مَعْلُولَةٌ، كَما بَيَّنَهُ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ في (تَفْسِيرِهِ). وتَقَبُّلُ ثُلَّةٍ مِنَ السَّلَفِ لَها وتَلَقِّيها، لا يُجْدِي في صِحَّتِها شَيْئًا، إذْ أصْلُها مَأْخُوذٌ مِن أقاصِيصِ مُسْلِمَةِ أهْلِ الكِتابِ، كَما بَرْهَنَ عَلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ. وتَهْوِيلُ بَعْضِهِمْ بِأنَّها مُقْتَبَسَةٌ مِن مِشْكاةِ النُّبُوَّةِ، إذْ أخْرَجَها فُلانٌ وفُلانٌ، مِن تَنْمِيقِ الألْفاظِ لِتَمْزِيقِ المَعانِي، فَإنَّ المِشْكاةَ النَّبَوِيَّةَ أجَلُّ مِن أنْ يُقْتَبَسَ مِنها إلّا كُلُّ ما عُرِفَتْ جَوْدَتُهُ. إذا عَلِمْتَ ذَلِكَ، تَبَيَّنَ لَكَ أنَّ مَنِ اسْتَنَدَ إلى تِلْكَ الأحادِيثِ والآثارِ، فَذَهَبَ إلى أنَّ المُرادَ بِالنَّفْسِ الواحِدَةِ وقَرِينَتِها، آدَمُ وحَوّاءُ، ثُمَّ أوْرَدَ عَلى نَفْسِهِ أنَّهُما بَرِيئانِ مِنَ الشِّرْكِ، وأنَّ ظاهِرَ النَّظْمِ يَقْتَضِيهِ، ثُمَّ أخَذَ يُؤَوِّلُهُ، إمّا بِتَقْدِيرِ مُضافٍ، أيْ جَعَلَ أوْلادَهُما لَهُ شُرَكاءَ، فِيما آتى أوْلادَهُما، وإمّا بِأنَّ المُرادَ جَعْلُ أحَدِهِما وهو (حَوّاءُ) مِن إطْلاقِ المُثَنّى وإرادَةِ المُفْرَدِ، وإمّا بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإنَّهُ ذَهَبَ في غَيْرِ مَذْهَبٍ. وقَدْ قَرَّرَ ما ارْتَضَيْناهُ في مَعْنى الآيَةِ غَيْرُ واحِدٍ. قالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ، فِيما رَوى عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ: إنَّ الآيَةَ عَنى بِها ذُرِّيَّةَ آدَمَ، ومَن أشْرَكَ مِنهم بَعْدَهُ. وفي رِوايَةٍ عَنْهُ: كانَ هَذا في بَعْضِ المِلَلِ، ولَمْ يَكُنْ بِآدَمَ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: والأسانِيدُ إلى الحَسَنِ، في تَفْسِيرِ هَذا صَحِيحَةٌ، وهو مِن أحْسَنِ التَّفاسِيرِ، وأوْلى ما حُمِلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ. (p-٢٩٢٢)قالَ: ولَوْ كانَ الحَدِيثُ المَرْفُوعُ، في أنَّها في آدَمَ وحَوّاءَ، مَحْفُوظًا عِنْدَهُ مِن رِوايَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لِما عَدَلَ عَنْهُ هو ولا غَيْرُهُ، لا سِيَّما مَعَ تَقْواهُ ووَرَعِهِ. فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ -إنْ صَحَّ- مَوْقُوفٌ عَلى الصَّحابِيِّ، لا مَرْفُوعٌ. انْتَهى. وقالَ القَفّالُ: إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ هَذِهِ القِصَّةَ عَلى تَمْثِيلِ ضَرْبِ المَثَلِ، وبَيانِ أنَّ هَذِهِ الحالَةِ صُورَةُ حالَةِ هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ في جَهْلِهِمْ، وقَوْلِهِمْ بِالشِّرْكِ. وتَقْرِيرُ هَذا الكَلامِ، كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: هو الَّذِي خَلَقَ كُلَّ واحِدٍ مِنكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ، وجَعَلَ مِن جِنْسِها زَوْجَها إنْسانًا يُساوِيهِ في الإنْسانِيَّةِ، فَلَمّا تَغَشّى الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ، وظَهَرَ الحَمْلُ، دَعا الزَّوْجُ والزَّوْجَةُ رَبَّهُما، لَئِنْ آتَيْتَنا ولَدًا صالِحًا سَوِيًّا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ لِآلائِكَ ونَعْمائِكَ، فَلَمّا آتاهُما اللَّهُ ولَدًا صالِحًا سَوِيًّا، جَعَلَ الزَّوْجُ والزَّوْجَةُ لِلَّهِ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما، لِأنَّهم تارَةً يَنْسُبُونَ ذَلِكَ الوَلَدَ إلى الطَّبائِعِ، كَما هو قَوْلُ الطَّبائِعِيِّينَ، وتارَةً إلى الكَواكِبِ، كَما هو قَوْلُ المُنَجِّمِينَ، وتارَةً إلى الأصْنامِ والأوْثانِ، كَما هو قَوْلُ عَبَدَةِ الأصْنامِ. وقالَ النّاصِرُ في (الِانْتِصافِ) -مُتَعَقِّبًا عَلى الزَّمَخْشَرِيِّ -: الأسْلَمُ والأقْرَبُ -واللَّهُ أعْلَمُ- أنْ يَكُونَ المُرادُ جِنْسَيِ الذَّكَرِ والأُنْثى، لا يُقْصَدُ فِيهِ إلى مُعَيَّنِ، وكَأنَّ المَعْنى -واللَّهُ أعْلَمُ- خَلَقَكم جِنْسًا واحِدًا، وجَعَلَ أزْواجَكم مِنكم أيْضًا، لِتَسْكُنُوا إلَيْهِنَّ، فَلَمّا تَغَشّى الجِنْسَ الَّذِي هو الذَّكَرُ، الجِنْسَ الآخَرَ، الَّذِي هو الأُنْثى، جَرى مِن هَذَيْنِ الجِنْسَيْنِ كَيْتَ وكَيْتَ، وإنَّما نَسَبَ هَذِهِ المَقالَةِ إلى الجِنْسِ، وإنْ كانَ فِيهِمُ المُوَحِّدُونَ، عَلى حَدِّ (بَنُو فُلانٍ قَتَلُوا قَتِيلًا)، يَعْنِي مِن نِسْبَةِ ما صَدَرَ مِنَ البَعْضِ إلى الكُلِّ. فائِدَةٌ: قالَ بَعْضُ مُفَسِّرِي الزَّيْدِيَّةِ: ثَمَرَةُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: " ﴿فَلَمّا أثْقَلَتْ﴾ [الأعراف: ١٨٩] جَعَلَ حالَ الإثْقالِ يُخالِفُ ما قَبْلَهُ، وأنَّهُ يَخْتَصُّ فِيهِ الدُّعاءُ لِأجْلِ أنَّهُ حالُ الخَوْفِ. وقَدْ ذَهَبَ الهادِي إلى أنَّ الحامِلَ إذا أتى عَلَيْها مِنَ الحَمْلِ سِتَّةُ أشْهُرٍ، كانَتْ تَصَرُّفاتُها كَتَصَرُّفاتِ المَرِيضِ، (p-٢٩٢٣)تَنْفُذُ مِنَ الثُّلُثِ. وهو قَوْلُ مالِكٍ واللَّيْثِ، واحْتَجّا بِالآيَةِ، لِأنَّهُ تَعالى فَرَّقَ بَيْنَ حالِ الخِفَّةِ والإثْقالِ. وقالَ غَيْرُهُما: تَصَرُّفُها مِنَ الجَمِيعِ، ما لَمْ يَأْخُذْها الطَّلْقُ. قُلْنا: إنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْها بَعْدَ السِّتَّةِ، وضْعُ الحَمْلِ في كُلِّ وقْتٍ. انْتَهى. ثُمَّ قالَ: ودَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّهُ يَجُوزُ الدُّعاءُ لِطَلَبِ أُمُورِ الدُّنْيا، وإنَّ حُصُولَ الوَلَدِ مِنَّةٌ يَجِبُ الشُّكْرُ عَلَيْها. انْتَهى. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ تَعالى تَوْبِيخَ المُشْرِكِينَ كافَّةً، واسْتِقْباحَ إشْراكِهِمْ، وإبْطالَهُ بِالكُلِّيَّةِ بِبَيانِ شَأْنِ ما أشْرَكُوا بِهِ سُبْحانَهُ وتَفْصِيلِ أحْوالِهِ القاضِيَةِ بِبُطْلانِ ما اعْتَقَدُوهُ في حَقِّهِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب