الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١٢] ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَـزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأنَّ اللَّهَ قَدْ أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ (p-٥٨٤٨)﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ أيِ: المَعْبُودُ المُسْتَحِقُّ لِلْعِبادَةِ، مَن هَذا خَلْقُهُ، لا ما يُشْرَكُ مَعَهُ. وهاهُنا لَطائِفُ: الأُولى: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قِيلَ ما في القُرْآنِ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أنَّ الأرْضِينَ سَبْعٌ إلّا هَذِهِ. انْتَهى. قالَ بَعْضُ عُلَماءِ الفَلَكِ: أمّا كَوْنُ الأرْضِينَ سَبْعًا كالسَّماواتِ، فَهو أمْرٌ نَجْهَلُهُ ولا نَفْهَمُهُ إلّا إذا أُرِيدَ بِهِ أنَّ لِلْأرْضِ سَبْعَ طَبَقاتٍ، قالَ: والحَقُّ يُقالُ أنَّ كَوْنَ الأرْضِينَ سَبْعًا، وهو كَما يَظْهَرُ لَنا وهْمٌ مِن أوْهامِ القُدَماءِ، ولِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ في القُرْآنِ الشَّرِيفِ لَفْظُ الأرْضِ مَجْمُوعًا -أيْ: أرْضِينَ- ولَمْ يَرِدْ فِيهِ مُطْلَقًا أنَّ الأرْضِينَ سَبْعٌ، مَعَ أنَّهُ ذَكَرَ أنَّ السَّماواتِ سَبْعٌ، مِرارًا عَدِيدَةً وفي كُلِّ مَرَّةٍ يَذْكُرُ مَعَها الأرْضَ بِالإفْرادِ. نَعَمْ! ورَدَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ وهي الآيَةُ الوَحِيدَةُ الَّتِي فَهِمُوا مِنها أنَّ الأرْضِينَ سَبْعٌ. وهي كَما لا يَخْفى لا تُفِيدُ ذَلِكَ مُطْلَقًا. قالَ: ولَنا في تَفْسِيرِها وجْهانِ: أما أنْ تَكُونَ " مِن " في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومِنَ الأرْضِ﴾ زائِدَةٌ، وإمّا أنْ تَكُونَ غَيْرَ زائِدَةٍ. أمّا عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ: فَتَقْدِيرُ الآيَةِ هَكَذا: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ والأرْضَ خَلَقَها مِثْلَهُنَّ. وعَلى تَفْسِيرِنا هَذا تَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ دالَّةً عَلى أنَّ الأرْضَ خُلِقَتْ كَباقِي الكَواكِبِ السَّيّارَةِ مِن كُلِّ وجْهٍ. أيْ: أنَّها إحْدى السَّيّاراتِ، وهو أمْرٌ ما كانَ مَعْرُوفًا في زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وما كانَ يَخْطُرُ بِبالِ أحَدٍ مِنَ العَرَبِ، وذَلِكَ مِن دَلائِلِ صِدْقِ القُرْآنِ. والأرْضُ مِثْلَ السَّيّاراتِ الأُخْرى في المادَّةِ، وكَيْفِيَّةِ خَلْقِها، وكَوْنِها تَسِيرُ حَوْلَ الشَّمْسِ، وتَسْتَمِدُّ النُّورَ والحَرارَةَ مِنها، وكَوْنِها مَسْكُونَةً بِحَيَواناتٍ كالكَواكِبِ الأُخْرى، وكَوْنِها كُرَوِيَّةَ الشَّكْلِ، فالسَّيّاراتُ أوِ السَّماواتُ هي مُتَماثِلَةٌ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ، وكُلُّها مَخْلُوقَةٌ مِن مادَّةٍ واحِدَةٍ، (p-٥٨٤٩)وهِيَ مادَّةُ الشَّمْسِ، وعَلى طَرِيقَةٍ واحِدَةٍ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّ السَّماواتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقًا﴾ [الأنبياء: ٣٠] أيْ: شَيْئًا واحِدًا ﴿فَفَتَقْناهُما﴾ [الأنبياء: ٣٠] أيْ: فَصَلْنا بَعْضَهُما عَنْ بَعْضٍ، فالأرْضُ خَلَقَها اللَّهُ تَعالى مِثْلَ السَّماواتِ تَمامًا. وأمّا عَلى الوَجْهِ الثّانِي: وهو أنَّ " مِن " غَيْرُ زائِدَةٍ، فَتَقْدِيرُ الآيَةِ هَكَذا: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وخَلَقَ مِنَ الأرْضِ أرْضًا مِثْلَهُنَّ، فالآيَةُ وارِدَةٌ عَلى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ، كَقَوْلِكَ: اتَّخَذْتُ لِي سَبْعَةَ أصْدِقاءَ، ولِي مِن فُلانٍ صَدِيقٌ مِثْلُهم. أيْ: مِثْلُهم في الصَّداقَةِ. أوِ التَّقْدِيرُ: وبَعْضُ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ في مادَّتِها وعَناصِرِها. وعَلَيْهِ: فَلَيْسَ في القُرْآنِ الشَّرِيفِ أدْنى دَلِيلٍ عَلى أنَّ الأرْضِينَ سَبْعٌ كَما يَزْعُمُونَ. انْتَهى. الثّانِيَةُ: ذَكَرَ ابْنُ الأثِيرِ في "المَثَلِ السّائِرِ" في النَّوْعِ السّادِسِ، في اخْتِلافِ صِيَغِ الألْفاظِ واتِّفاقِها وتَفاوُتِها في الحُسْنِ فِيهِ ما مِثالُهُ: وفِي صَدَدِ ذَلِكَ ما ورَدَ اسْتِعْمالُهُ مِنَ الألْفاظِ مُفْرَدًا، ولَمْ يَرِدْ مَجْمُوعًا، كَلَفْظَةِ الأرْضِ، فَإنَّها لَمْ تَرِدْ في القُرْآنِ إلّا مُفْرَدَةً. فَإذا ذُكِرَتِ السَّماءُ مَجْمُوعَةً جِيءَ بِها مُفْرَدَةً مَعَها في كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ القُرْآنِ. ولَمّا أُرِيدَ أنْ يُؤْتى بِها مَجْمُوعَةً قِيلَ: ﴿ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ انْتَهى. الثّالِثَةُ: قُرِئَ: " مِثْلَهُنَّ " بِالنَّصْبِ، عَطْفًا عَلى: " سَبْعَ " وبِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ: " مِنَ الأرْضِ " . ﴿يَتَنَـزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ أيْ: يَجْرِي أمْرُ اللَّهِ وحُكْمُهُ بَيْنَهُنَّ، ومُلْكُهُ يَنْفُذُ فِيهِنَّ. وقَوْلُهُ: ﴿لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأنَّ اللَّهَ قَدْ أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ عِلَّةٌ لِ: " خَلَقَ " ولِ: ﴿يَتَنَـزَّلُ﴾ أوْ لِمُضْمَرٍ يَعُمُّهُما، كَ: فَعَلَ ما فَعَلَ لِتَعْلَمُوا... إلَخْ. فَإنَّ كُلًّا مِنها يَدُلُّ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ وعِلْمِهِ. (p-٥٨٥٠)قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أيْ: فَخافُوا أيُّها النّاسُ المُخالِفُونَ أمْرَ رَبِّكُمْ، عُقُوبَتَهُ، فَإنَّهُ لا يَمْنَعُهُ مِن عُقُوبَتِكم مانِعٌ. وهو عَلى ذَلِكَ قادِرٌ ومُحِيطٌ أيْضًا بِأعْمالِكم فَلا يَخْفى عَلَيْهِ مِنها خافٍ. وهو مُحْصِيها عَلَيْكم لِيُجازِيَكم بِهِ، يَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب