الباحث القرآني

(p-٥٨٢٨)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الطَّلاقِ قالَ المَهايِمِيُّ: سُمِّيَتْ بِهِ لِبَيانِها كَيْفِيَّةَ الطَّلاقِ السُّنِّيِّ، وما يَتَرَتَّبُ عَلى الطَّلاقِ مِنَ العِدَّةِ والنَّفَقَةِ والسُّكْنى. وتُسَمّى سُورَةَ النِّساءِ القُصْرى. مَدَنِيَّةٌ. وآيُها اثْنَتا عَشْرَةَ: (p-٥٨٢٩)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١] ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأحْصُوا العِدَّةَ واتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكم لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلا أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا﴾ ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ أيْ: في وقْتِها، وهو الطُّهْرُ. فاللّامُ لِلتَّأْقِيتِ. قالَ النّاصِرُ: جُعِلَتِ العِدَّةُ، وإنْ كانَ في الأصْلِ مَصْدَرًا ظَرْفًا لِلطَّلاقِ المَأْمُورِ بِهِ. وكَثِيرًا ما تَسْتَعْمِلُ العَرَبُ المَصادِرَ ظَرْفًا مِثْلَ خُفُوقِ النَّجْمِ، ومَقْدِمِ الحاجِّ. وإذا كانَتِ العِدَّةُ ظَرْفًا لِلطَّلاقِ المَأْمُورِ بِهِ، وزَمانُهُ هو الطُّهْرُ، فَلِلطُّهْرِ عِدَّةٌ إذًا. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أيْ: إذا طَلَّقْتُمْ نِساءَكم فَطَلِّقُوهُنَّ لِطُهْرِهِنَّ الَّذِي يُحْصِينَهُ مِن عِدَّتِهِنَّ طاهِرًا مِن غَيْرِ جِماعٍ. ولا تُطَلِّقُوهُنَّ بِحَيْضِهِنَّ الَّذِي لا يَعْتَدْدَنَّ بِهِ مِن قُرْئِهِنَّ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ قالَ: العِدَّةُ أنْ يُطْلِقَها طاهِرًا مِن غَيْرِ جِماعٍ، تَطْلِيقَةً واحِدَةً. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ومِن هُنا أخَذَ الفُقَهاءُ أحْكامَ الطَّلاقِ وقَسَّمُوهُ إلى: طَلاقِ سُنَّةٍ، وطَلاقِ بِدْعَةٍ، فَطَلاقُ السُّنَّةِ أنْ يُطَلِّقَها طاهِرَةً مِن غَيْرِ جِماعٍ، أوْ حامِلًا قَدِ اسْتَبانَ حَمْلُها. والبِدْعِيُّ هو أنْ يُطَلِّقَها في حالِ الحَيْضِ، أوْ في طُهْرٍ قَدْ جامَعَها فِيهِ، ولا يَدْرِي أحَمَلَتْ أمْ لا. وطَلاقٌ ثالِثٌ لا سُنَّةٌ فِيهِ ولا بِدْعَةٌ، وهو طَلاقُ الصَّغِيرَةِ والآيِسَةِ، وغَيْرِ المَدْخُولِ بِها، وسَيَأْتِي في التَّنْبِيهاتِ زِيادَةٌ عَلى هَذا. (p-٥٨٣٠)﴿وأحْصُوا العِدَّةَ﴾ أيِ: اضْبُطُوها وأكْمِلُوها ثَلاثَةَ أقْراءٍ ﴿واتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكم لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ أيِ: اتَّقُوهُ في تَعَدِّي حُدُودِهِ في المُطَلَّقاتِ، فَلا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ الَّتِي كُنْتُمْ أسْكَنْتُمُوهُنَّ فِيها قَبْلَ الطَّلاقِ، غَضَبًا عَلَيْهِنَّ، وكَراهَةً لِمُساكَنَتِهِنَّ؛ لِأنَّ لَهُنَّ حَقَّ السُّكْنى، حَتّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهُنَّ. ﴿ولا يَخْرُجْنَ﴾ أيْ: بِاسْتِبْدادِهِنَّ مِن تِلْقاءِ أنْفُسِهِنَّ. قالَ النّاصِرُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾ تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: ﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ حَتّى كَأنَّهُ نُهِيَ عَنِ الإخْراجِ مَرَّتَيْنِ: مُنْدَرِجًا في العُمُومِ، ومُفْرَدًا بِالخُصُوصِ. وقَدْ تَقَدَّمَتْ أمْثالُهُ. ﴿إلا أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ أيْ: فَإنَّهُنَّ يَخْرُجْنَ. و(الفاحِشَةُ) الزِّنا، أوْ أنْ تَبْذُوَ المُطَلَّقَةُ عَلى أهْلِها، أوْ هي كُلُّ أمْرٍ قَبِيحٍ تُعُدِّيَ فِيهِ حَدُّهُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الزِّنا والسَّرِقَةُ والبِذاءُ عَلى الأحْماءِ ونَحْوِها، والأخِيرُ مُخْتارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وُقُوفًا مَعَ عُمُومِ اللَّفْظِ الكَرِيمِ. ﴿وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ أيْ: بِتَعْرِيضِها لِلْعِقابِ بِما أكْسَبَها مِنَ الوِزْرِ. أوْ أضَرَّ بِها بِما اكْتَسَبَتْ مِن قُوَّةِ النِّفارِ، وشِدَّةِ البُغْضَةِ الَّتِي قَدْ تَتَفاقَمُ فَتَعْسُرُ الرَّجْعَةُ، مَعَ أنَّ الأُولى تَخْفِيفُ الشَّنَآنِ، وتَلافِي الهِجْرانِ، وهو الأظْهَرُ؛ ولِذا قالَ سُبْحانَهُ: ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا﴾ فَإنَّهُ اسْتِئْنافٌ مَسُوقٌ لِتَعْلِيلِ مَضْمُونِ الشَّرْطِيَّةِ. قالَ أبُو السُّعُودِ: وقَدْ قالُوا: إنَّ الأمْرَ الَّذِي يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعالى، أنْ يَقْلِبَ قَلْبَهُ عَمّا فَعَلَهُ بِالتَّعَدِّي إلى خِلافِهِ، فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ الظُّلْمُ عِبارَةً عَنْ ضَرَرٍ دُنْيَوِيٍّ يَلْحَقُهُ بِسَبَبِ تَعَدِّيهِ، ولا يُمْكِنُ تَدارُكُهُ، أوْ عَنْ مُطْلَقِ الضَّرَرِ الشّامِلِ الدُّنْيَوِيِّ والأُخْرَوِيِّ. ويُخَصُّ التَّعْلِيلُ بِالدُّنْيَوِيِّ لِكَوْنِ احْتِرازِ النّاسِ مِنهُ أشَدَّ، واهْتِمامُهم بِدَفْعِهِ أقْوى. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَدْرِي﴾ خِطابٌ لِلْمُتَعَدِّي بِطَرِيقِ الِالتِفاتِ، لِمَزِيدِ الِاهْتِمامِ بِالزَّجْرِ عَنِ التَّعَدِّي، لا لِلنَّبِيِّ ﷺ، كَما تُوُهِّمَ؛ فالمَعْنى: ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ أضَرَّ بِنَفْسِهِ؛ فَإنَّكَ (p-٥٨٣١)لا تَدْرِي أيُّها المُتَعَدِّي عاقِبَةَ الأمْرِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ في قَلْبِكَ بَعْدَ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلْتَ مِنَ التَّعَدِّي، أمْرًا يَقْتَضِي خِلافَ ما فَعَلْتَهُ، فَيُبَدِّلَ بِبُغْضِها مَحَبَّةً، وبِالإعْراضِ عَنْها إقْبالًا إلَيْها، ويَتَسَنّى تَلافِيهِ رَجْعَةً، أوِ اسْتِئْنافَ نِكاحٍ. انْتَهى. تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ: قالَ في "الإكْلِيلِ": «فَسَّرَ النَّبِيُّ ﷺ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لِعِدَّتِهِنَّ﴾ «بِأنْ تُطَلَّقَ في طُهْرٍ لَمْ يُجامِعْ فِيهِ»» أخْرَجَهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ، وفي لَفْظِ مُسْلِمٍ أنَّهُ قَرَأ: ««فَطَلَّقُوهُنَّ في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ»» فاسْتَدَلَّ الفُقَهاءُ بِذَلِكَ عَلى أنَّ طَلاقَ السُّنَّةِ ما ذُكِرَ، وأنَّ الطَّلاقَ في الحَيْضِ أوْ طُهْرٍ جُومِعَتْ فِيهِ بِدْعِيٌّ حَرامٌ. واسْتَدَلَّ قَوْمٌ بِالآيَةِ عَلى عَدَمِ وُقُوعِهِ في الحَيْضِ. الثّانِي: في "الإكْلِيلِ": في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ وُجُوبُ السُّكْنى لَها ما دامَتْ في العِدَّةِ، وتَحْرِيمُ إخْراجِها أوْ خُرُوجِها ﴿إلا أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ كَسُوءِ الخُلُقِ، والبَذاءَةِ عَلى أحْمائِها. فَتَنْتَقِلُ. الثّالِثُ: في "الإكْلِيلِ": اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا﴾ مِن لَمْ يُوجِبِ السُّكْنى بِغَيْرِ الرَّجْعَةِ. أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ وعِكْرِمَةَ قالَ: المُطَلَّقَةُ ثَلاثًا، والمُتَوَفّى عَنْها لا سُكْنى لَها ولا نَفَقَةَ، لِقَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا﴾ فَما يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلاثِ. الرّابِعُ: كَما قالَ بَعْضُ الحُكَماءِ: إذا اسْتَحالَ الوِفاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، ولَمْ يَبْقَ في الإمْكانِ (p-٥٨٣٢)إصْلاحٌ، وصَمَمَ الزَّوْجُ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ وُجُودَ شَخْصَيْنِ مُتَنافِرَيِ الطِّباعِ مُتَباغِضَيْنِ، لا يَنْظُرُ أحَدُهُما إلى الآخَرِ إلّا ويُحِسُّ في نَفْسِهِ بِالنُّفُورِ، وفي قَلْبِهِ بِالعَداوَةِ، يَسْعى كُلٌّ مِنهُما في أذى صاحِبِهِ -شَرٌّ وفَسادٌ يَجِبُ مَحْوُهُ وقَطْعُهُ. انْتَهى. وقالَ ابْنُ القَيِّمِ في "إغاثَةِ اللَّهْفانِ": إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا كانَ يُبْغِضُ الطَّلاقَ، لِما فِيهِ مِن كَسْرِ الزَّوْجَةِ، ومُوافَقَةِ رِضا عَدُوِّهِ إبْلِيسَ، حَيْثُ يَفْرَحُ بِمُفارَقَةِ طاعَةِ اللَّهِ بِالنِّكاحِ الَّذِي هو واجِبٌ أوْ مُسْتَحَبٌّ، وتَعْرِيضُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْفُجُورِ والمَعْصِيَةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِن مَفاسِدِ الطَّلاقِ، وكانَ مَعَ ذَلِكَ يَحْتاجُ إلَيْهِ الزَّوْجُ أوِ الزَّوْجَةُ، وتَكُونُ المَصْلَحَةُ فِيهِ شَرْعُهُ عَلى وجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ المَصْلَحَةُ وتَنْدَفِعُ بِهِ المَفْسَدَةُ، وحَرَّمَهُ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ الوَجْهِ، فَشَرَعَهُ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ وأقْرَبِها لِمَصْلَحَةِ الزَّوْجِ والزَّوْجَةِ، فَشَرَعَ لَهُ أنْ يُطَلِّقَها طاهِرًا مِن غَيْرِ جِماعٍ طَلْقَةً واحِدَةً، ثُمَّ يَدَعَها حَتّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها، فَإنْ زالَ الشَّرُّ بَيْنَهُما، وحَصَلَتِ المُوافَقَةُ، كانَ لَهُ سَبِيلٌ إلى لَمِّ الشَّعَثِ، وإعادَةِ الفِراشِ كَما كانَ، وإلّا تَرَكَها حَتّى انْقَضَتْ عِدَّتُها، فَإنْ تَبِعَتْها نَفْسُهُ كانَ لَهُ سَبِيلٌ إلى خِطْبَتِها، وتَجْدِيدِ العَقْدِ عَلَيْها بِرِضاها، وإنْ لَمْ تَتْبَعْها نَفْسُهُ، تَرَكَها فَنَكَحَتْ مَن شاءَتْ. وجَعَلَ العِدَّةَ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ لِيَطُولَ زَمَنُ المُهْلَةِ والِاخْتِيارِ، فَهَذا هو الَّذِي شَرَعَهُ وأذِنَ فِيهِ، ولَمْ يَأْذَنْ في إبانَتِها بَعْدَ الدُّخُولِ إلّا بِالتَّراضِي بِالفَسْخِ والِافْتِداءِ، فَإذا طَلَّقَها مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بَقِيَ لَهُ طَلْقَةٌ واحِدَةٌ. فَإذا طَلَّقَها الثّالِثَةَ حَرَّمَها عَلَيْهِ، عُقُوبَةً لَهُ، ولَمْ يَحِلَّ لَهُ أنْ يَنْكِحَها حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، ويَدْخُلَ بِها ثُمَّ يُفارِقَها بِمَوْتٍ أوْ طَلاقٍ. فَإذا عَلِمَ أنَّ حَبِيبَهُ يَصِيرُ إلى غَيْرِهِ، فَيَحْظى بِهِ دُونَهُ، أمْسَكَ عَنِ الطَّلاقِ. انْتَهى. ومَباحِثُ الطَّلاقِ وفُرُوعُهُ تَجْدُرُ مُراجَعَتُها مِن "إغاثَةِ اللَّهْفانِ" و"زادِ المَعادِ" لِابْنِ القَيِّمِ، و"فَتاوِي ابْنِ تَيْمِيَةَ" شَيْخِهِ. ومَن لَمْ يَقِفْ عَلى ما حَرَّراهُ وجاهَدا في الصَّدْعِ بِهِ، فاتَهُ عِلْمٌ غَزِيرٌ، وفُرْقانٌ مُنِيرٌ. وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. (p-٥٨٣٣)الخامِسُ: اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الآياتِ مَن قالَ: إنَّ جَمْعَ الطَّلاقِ في دُفْعَةٍ واحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. قالَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ في "إغاثَةِ اللَّهْفانِ": ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِالآيَةِ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ تَعالى إنَّما شَرَعَ أنْ تُطَلَّقَ لِعِدَّتِها، أيْ: لِاسْتِقْبالِ عِدَّتِها، فَيُطَلِّقُ طَلاقًا يَتَعَقَّبُهُ شُرُوعُها في العِدَّةِ، ولِهَذا ««أمَرَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، لَمّا طَلَّقَ امْرَأتَهُ، أنَّ يُراجِعَها، وتَلا هَذِهِ الآيَةَ تَفْسِيرًا لِلْمُرادِ بِها»»، وأنَّ المُرادَ بِها الطَّلاقُ في قُبُلِ العِدَّةِ. وكَذَلِكَ كانَ يَقْرَؤُها عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، ولِهَذا قالَ كُلُّ مَن قالَ بِتَحْرِيمِ جَمْعِ الثَّلاثِ: إنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ أنْ يُرْدِفَ الطَّلْقَةَ بِأُخْرى في ذَلِكَ الطُّهْرِ لِأنَّهُ غَيْرُ مُطَلِّقٍ لِلْعِدَّةِ، فَإنَّ العِدَّةَ قَدِ اسْتُقْبِلَتْ مِن حِينِ الطَّلْقَةِ الأُولى، فَلا تَكُونُ الثّانِيَةُ لِلْعِدَّةِ، فَلا يَكُونُ مَأْذُونًا فِيها، فَإنَّ العِدَّةَ إنَّما تُحْسَبُ مِنَ الطَّلْقَةِ الأُولى؛ لِأنَّها طَلاقٌ لِلْعِدَّةِ بِخِلافِ الثّانِيَةِ والثّالِثَةِ. ومَن جَعَلَهُ مَشْرُوعًا قالَ: هو الطَّلاقُ لِتَمامِ العِدَّةِ، والطَّلاقُ لِتَمامِها كالطَّلاقِ لِاسْتِقْبالِها، وكِلاهُما طَلاقٌ لِلْعِدَّةِ. وأصْحابُ القَوْلِ الأوَّلِ يَقُولُونَ: المُرادُ بِالطَّلاقِ لِلْعِدَّةِ الطَّلاقُ لِاسْتِقْبالِها، كَما في القِراءَةِ الأُخْرى الَّتِي تُفَسِّرُ القِراءَةَ المَشْهُورَةَ: "فَطَلِّقُوهُنَّ في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ" قالُوا: فَإذا لَمْ يُشْرَعْ إرْدافُ الطَّلاقِ لِلطَّلاقِ، قَبْلَ الرَّجْعَةِ، أوِ العَقْدِ، فَأنْ لا يُشْرَعَ جَمْعُهُ مَعَهُ أوْلى وأحْرى. فَإرْدافُ الطَّلاقِ أسْهَلُ مِن جَمْعِهِ، ولِهَذا شَرَعَ الإرْدافَ في الأطْهارِ مَن لا يُجَوِّزُ الجَمْعَ في الطُّهْرِ الواحِدِ. وقَدِ احْتَجَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبّاسٍ عَلى تَحْرِيمِ جَمْعِ الثَّلاثِ بِهَذِهِ الآيَةِ. قالَ مُجاهِدٌ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ فَجاءَ رَجُلٌ فَقالَ: إنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا، فَسَكَتَ حَتّى ظَنَنْتُ أنَّهُ رادُّها. ثُمَّ قالَ: يَنْطَلِقُ أحَدُكم فَيَرْكَبُ الأُحْمُوقَةَ، ثُمَّ يَقُولُ: يا ابْنَ عَبّاسٍ ! وإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قالَ: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: ٢] فَما أجِدُ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ، وبانَتْ مِنكَ امْرَأتُكَ، وإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قالَ: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ﴾ في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ. وهَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ فَفَهِمَ ابْنُ عَبّاسٍ مِنَ الآيَةِ أنَّ جَمْعَ الثَّلاثِ مُحَرَّمٌ، وهَذا فَهْمُ مَن دَعا لَهُ (p-٥٨٣٤)النَّبِيُّ ﷺ أنْ يُفَقِّهَهُ في الدِّينِ، ويُعَلِّمَهُ التَّأْوِيلَ، وهو مِن أحْسَنِ الفُهُومِ كَما تَقَرَّرَ. الوَجْهُ الثّانِي: مِنَ الِاسْتِدْلالِ بِالآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ﴾ وهَذا هو إنَّما في الطَّلاقِ الرَّجْعِيِّ، فَأمّا البائِنُ فَلا سُكْنى لَها ولا نَفَقَةَ، لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لا يُطْعَنُ في صِحَّتِها، الصَّرِيحَةِ الَّتِي لا شُبْهَةَ في دَلالَتِها، فَدَلَّ عَلى أنَّ هَذا حُكْمُ كُلِّ طَلاقٍ شَرَعَهُ اللَّهُ تَعالى، ما لَمْ تَسْبِقْهُ طَلْقَتانِ قَبْلَهُ؛ ولِهَذا قالَ الجُمْهُورُ: إنَّهُ لا يُشْرَعُ لَهُ، ولا يَمْلِكُ إبانَتَها بِطَلْقَةٍ واحِدَةٍ بِدُونِ العِوَضِ. وأبُو حَنِيفَةَ قالَ: يَمْلِكُ ذَلِكَ؛ لِأنَّ الرَّجْعَةَ حَقُّهُ، وقَدْ أسْقَطَها. والجُمْهُورُ يَقُولُونَ: ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ، وإنْ كانَ حَقًّا لَهُ، فَلَها عَلَيْهِ حُقُوقُ الزَّوْجِيَّةِ فَلا يَمْلِكُ إسْقاطَها إلّا بِمُخالَعَةٍ، أوْ بِاسْتِيفاءِ العَدَدِ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ القُرْآنُ. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّهُ قالَ: ﴿وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ فَإذا طَلَّقَها ثَلاثًا جُمْلَةً واحِدَةً، فَقَدْ تَعَدّى حُدُودَ اللَّهِ فَيَكُونُ ظالِمًا. الوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا﴾ وقَدْ فَهِمَ أعْلَمُ الأُمَّةِ بِالقُرْآنِ، وهُمُ الصَّحابَةُ، أنَّ الأمْرَ هُنا هو الرَّجْعَةُ. قالُوا: وأيُّ أمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلاثِ؟ الوَجْهُ الخامِسُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: ٢] فَهَذا حُكْمُ كُلِّ طَلاقٍ شَرَعَهُ، إلّا أنْ يُسْبَقَ بِطَلْقَتَيْنِ قَبْلَهُ. وقَدِ احْتَجَّ ابْنُ عَبّاسٍ عَلى تَحْرِيمِ جَمْعِ الثَّلاثِ بِقَوْلِهِ تَعالى: "يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ ". كَما تَقَدَّمَ، وهَذا حَقٌّ؛ فَإنَّ الآيَةَ إذا دَلَّتْ عَلى مَنعِ إرْدافِ الطَّلاقِ في طُهْرٍ أوْ أطْهارٍ، قَبْلَ رَجْعَةٍ أوْ عَقْدٍ -كَما تَقَدَّمَ- لِأنَّهُ يَكُونُ مُطَلِّقًا في غَيْرِ قُبُلِ العِدَّةِ -فَلَأنْ تَدُلَّ عَلى تَحْرِيمِ الجَمْعِ، أوْلى وأحْرى. قالُوا: واللَّهُ سُبْحانَهُ شَرَعَ الطَّلاقَ عَلى أيْسَرِ الوُجُوهِ وأرْفَقِها بِالزَّوْجِ والزَّوْجَةِ؛ لِئَلّا يَتَسارَعُ العَبْدُ في وُقُوعِهِ ومُفارَقَةِ حَبِيبِهِ، وقَدْ وقَّتَ لِلْعِدَّةِ أجَلًا لِاسْتِدْراكِ ألْفاظِهِ بِالرَّجْعَةِ، (p-٥٨٣٥)فَلَمْ يُبِحْ لَهُ أنْ يُطَلِّقَ المَرْأةَ في حالِ حَيْضِها؛ لِأنَّهُ وقْتُ نُفْرَتِهِ عَنْها، وعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلى اسْتِمْتاعِهِ بِها، ولا عَقِيبَ جِماعِها؛ لِأنَّهُ قَدْ قَضى غَرَضَهُ مِنها، ورُبَّما فَتَرَتْ رَغْبَتُهُ فِيها، ويَزْهَدُ في إمْساكِها لِقَضاءِ وطَرِهِ، فَإذا طَلَّقَها في هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ رُبَّما يَنْدَمُ بَعْدَ هَذا، مَعَ ما في الطَّلاقِ مِن تَطْوِيلِ العِدَّةِ، وعَقِيبَ الجِماعِ مِن بَعْلِها؛ لِأنَّهُ رُبَّما قَدِ اشْتَمَلَ رَحِمُها عَلى ولَدٍ مِنهُ، فَلا يُرِيدُ فِراقَها. فَأمّا إذا حاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ، فَنَفْسُهُ تَتُوقُ إلَيْها، لِطُولِ عَهْدِهِ بِجِماعِهِ، فَلا يُقْدِمُ عَلى طَلاقِها في هَذِهِ الحالَةِ إلّا لِحاجَةٍ إلَيْهِ؛ فَلَمْ يُبِحْ لَهُ الشّارِعُ أنْ يُطَلِّقَها إلّا في هَذِهِ الحالِ، أوْ في حالِ اسْتِبانَةِ حَمْلِها؛ لِأنَّ إقْدامَهُ أيْضًا عَلى طَلاقِها في هَذِهِ الحالِ دَلِيلٌ عَلى حاجَتِهِ إلى الطَّلاقِ، وقَدْ أكَّدَ النَّبِيُّ ﷺ هَذا بِمَنعِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أنْ يُطَلِّقَ في الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الحَيْضَةَ الَّتِي طَلَّقَ فِيها، بَلْ أمَرَهُ أنْ يُراجِعَها حَتّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، إنْ بَدا لَهُ أنْ يُطَلِّقَها فَيُطَلِّقَها. وفي ذَلِكَ عِدَّةُ حِكَمٍ: مِنها: أنَّ الطُّهْرَ المُتَّصِلَ بِالحَيْضَةِ، هو وهي حُكْمُ القُرْءِ الواحِدِ، فَإذا طَلَّقَها في ذَلِكَ الطُّهْرِ، فَكَأنَّهُ طَلَّقَها في الحَيْضَةِ، لِاتِّصالِهِ بِها، وكَوْنِهِ مَعَها، كالشَّيْءِ الواحِدِ. الثّانِيَةُ: أنَّهُ لَوْ أذِنَ لَهُ في طَلاقِها في ذَلِكَ الطُّهْرِ، فَيَصِيرُ كَأنَّهُ راجِعٌ لِأجْلِ الطَّلاقِ، وهَذا ضِدُّ مَقْصُودِ الرَّجْعَةِ؛ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى إنَّما شَرَعَها لِلْإمْساكِ ولِمَنفَعَةِ النِّكاحِ، وعَوْدِ الفِراشِ، فَلا يَكُونُ لِأجْلِ الطَّلاقِ، فَيَكُونُ كَأنَّهُ راجَعَ لِيُطَلِّقَ. وإنَّما شُرِعَتِ الرَّجْعَةُ لِيُمْسِكَ. وبِهَذا بِعَيْنِهِ أبْطَلْنا نِكاحَ المُحَلِّلِ؛ فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى شَرَعَ النِّكاحَ لِلْإمْساكِ والمُعاشَرَةِ، والمُحَلِّلُ تَزَوَّجَ لِيُطَلِّقَ، فَهو مُضادٌّ لِلَّهِ تَعالى في شَرْعِهِ ودِينِهِ. الثّالِثَةُ: إنَّهُ إذا صَبَرَ عَلَيْها حَتّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، زالَ ما في نَفْسِهِ مِنَ الغَضَبِ الحامِلِ لَهُ عَلى الطَّلاقِ، ورُبَّما صَلَحَتِ الحالُ بَيْنَهُما، وأقْلَعَتْ عَمّا يَدْعُوهُ إلى الطَّلاقِ، فَيَكُونُ تَطْوِيلُ هَذِهِ المُدَّةِ رَحْمَةً بِهِ وبِها. وإذا كانَ الشّارِعُ مُلْتَفِتًا إلى مِثْلِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ والشَّفَقَةِ عَلى الزَّوْجِ، وشَرَعَ الطَّلاقَ عَلى هَذا الوَجْهِ الَّذِي هو أبْعَدُ شَيْءٍ عَنِ النَّدَمِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ (p-٥٨٣٦)بِشَرْعِهِ أنْ يَشْرَعَ إبانَتَها وتَحْرِيمَها عَلَيْهِ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ يَجْمَعُ فِيها ما شَرَعَهُ مُتَفَرِّقًا، بِحَيْثُ لا يَكُونُ لَهُ سَبِيلٌ إلَيْها. وكَيْفَ يَجْتَمِعُ في حِكْمَةِ الشّارِعِ، وحِكْمَةِ هَذا وهَذا؟ فَهَذِهِ الوُجُوهُ ونَحْوَها مِمّا بَيَّنَ بِها الجُمْهُورُ أنَّ جَمْعَ الثَّلاثِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، هي بِعَيْنِها تُعَيِّنُ عَدَمَ الوُقُوعِ، وأنَّهُ إنَّما يَقَعُ المَشْرُوعُ وحْدَهُ، وهي الواحِدَةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب