الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٤] ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأنَّهم بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ﴾ ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأنَّهم بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ﴾ قالَ القاشانِيُّ: لِأنَّ بَذْلَ النَّفْسِ في سَبِيلِ اللَّهِ لا يَكُونُ إلّا عِنْدَ خُلُوصِ النَّفْسِ في مَحَبَّةِ اللَّهِ؛ إذِ المَرْءُ إنَّما يُحِبُّ كُلَّ ما يُحِبُّ مِن دُونِ اللَّهِ لِنَفْسِهِ. فَأصْلُ الشِّرْكِ ومُحِبَّةِ الأنْدادِ، مَحَبَّةُ النَّفْسِ. فَإذا سَمَحَ بِالنَّفْسِ، كانَ غَيْرَ مُحِبٍّ لِنَفْسِهِ، وإذا لَمْ يُحِبَّ نَفْسَهُ فَبِالضَّرُورَةِ لَمْ يُحِبَّ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيا، وإذا كانَ بَذْلُهُ لِلنَّفْسِ في اللَّهْوِ وفي سَبِيلِهِ لا لِلنَّفْسِ، كَما قالَ -تَرَكَ الدُّنْيا لِلدُّنْيا- كانَتْ (p-٥٧٨٣)مَحَبَّةُ اللَّهِ في قَلْبِهِ راجِحَةً عَلى مَحَبَّةِ كُلِّ شَيْءٍ، فَكانَ مِنَ الَّذِينَ قالَ فِيهِمْ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٦٥] وإذا كانُوا كَذَلِكَ يَلْزَمُ مَحَبَّةُ اللَّهِ إيّاهُمْ، لِقَوْلِهِ: ﴿يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] انْتَهى. تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ: في ذِكْرِ هَذِهِ الآيَةِ عَقِيبَ مَقْتِ المُخَلَّفِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ المَقْتَ قَدْ تَعَلَّقَ بِقَوْلِ الَّذِينَ وُعِدُوا الثَّباتَ في قِتالِ الكُفّارِ، فَلَمْ يَفُوا. انْتَهى. وأيَّدَهُ النّاصِرُ مِنَ الوُجْهَةِ البَيانِيَّةِ بِأنَّ الأوَّلَ كالبَسْطَةِ العامَّةَ لِهَذِهِ القِصَّةِ الخاصَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات: ١] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكم فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ [الحجرات: ٢] فالنَّهْيُ العامُّ ورَدَ أوَّلًا، والمَقْصُودُ انْدِراجُ هَذا الخاصِّ فِيهِ، كَما تَقُولُ لِلْمُقْتَرِفِ جُرْمًا مُعَيَّنًا: لا تَفْعَلْ ما يُلْصِقُ العارَ بِكَ، ولا تُشاتِمُ زَيْدًا. وفائِدَةُ مِثْلِ هَذا النَّظْمِ النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ الواحِدِ مَرَّتَيْنِ، مُنْدَرِجًا في العُمُومِ، ومُفْرَدًا بِالخُصُوصِ. وهو أوْلى مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ عَلى الخُصُوصِ مَرَّتَيْنِ؛ فَإنَّ ذَلِكَ مَعْدُودٌ في حَيِّزِ التَّكْرارِ، وهَذا يَتَكَرَّرُ مَعَ ما في التَّعْمِيمِ مِنَ التَّعْظِيمِ والتَّهْوِيلِ. انْتَهى. الثّانِي: في "الإكْلِيلِ": قالَ الكَيا الهَرّاسِيُّ: يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢] ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٣] في وُجُوبِ الوَفاءِ بِالنَّذْرِ، ونَذْرِ اللَّجاجِ. قالَ غَيْرُهُ: والوُعُودِ. انْتَهى. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هو إنْكارٌ عَلى مَن يَعِدُ وعْدًا، أوْ يَقُولُ قَوْلًا، لا يَفِي بِهِ. ولِهَذا اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مَن ذَهَبَ مِن عُلَماءِ السَّلَفِ إلى أنَّهُ يَجِبُ الوَفاءُ بِالوَعْدِ مُطْلَقًا، سَواءٌ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ عَزْمُ المَوْعُودِ أمْ لا. واحْتَجُّوا أيْضًا مِنَ السُّنَّةِ بِما ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ (p-٥٧٨٤)أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ»» . ولِهَذا أكَّدَ اللَّهُ تَعالى هَذا الإنْكارَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٣] وقَدْ رَوى الإمامُ أحْمَدُ وأبُو داوُدَ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قالَ: أتانا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأنا صَبِيٌّ، فَذَهَبَتْ لِأخْرُجَ لِألْعَبَ، فَقالَتْ أُمِّي: يا عَبْدَ اللَّهِ ! تَعالَ أُعْطِكَ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «وما أرَدْتِ أنْ تُعْطِيَهُ» ؟ قالَتْ: تَمْرًا. فَقالَ: «أمّا إنَّكِ لَوْ لَمْ تَفْعَلِي، كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ»» . وذَهَبَ الإمامُ مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إلى أنَّهُ إذا تَعَلَّقَ بِالوَعْدِ عَزْمٌ عَلى المَوْعُودِ، وجَبَ الوَفاءُ بِهِ. كَما قالَ لِغَيْرِهِ: تَزَوَّجْ ولَكَ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ كَذا. فَتَزَوَّجَ. وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يُعْطِيَهُ ما دامَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ. وذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّهُ لا يَجِبُ مُطْلَقًا، وحَمَلُوا الآيَةَ عَلى أنَّها نَزَلَتْ حِينَ تَمَنَّوْا فَرِيضَةَ الجِهادِ عَلَيْهِمْ، فَلَمّا فُرِضَ، نَكَلَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ قِيلَ لَهم كُفُّوا أيْدِيَكم وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذا فَرِيقٌ مِنهم يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أوْ أشَدَّ خَشْيَةً وقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ لَوْلا أخَّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ والآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلا﴾ [النساء: ٧٧] وقالَ تَعالى: ﴿ويَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُـزِّلَتْ سُورَةٌ فَإذا أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيها القِتالُ رَأيْتَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ﴾ [محمد: ٢٠] الآيَةَ. وهَكَذا هَذِهِ الآيَةُ مَعْناها كَما «قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ ناسٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ، قَبْلَ أنْ يُفْرَضَ الجِهادُ، يَقُولُونَ: لَوَدِدْنا أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ (p-٥٧٨٥)دَلَّنا عَلى أحَبِّ الأعْمالِ إلَيْهِ فَنَعْمَلُ بِهِ فَأخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أنَّ أحَبَّ الأعْمالِ إيمانٌ بِهِ لا شَكَّ فِيهِ، وجِهادُ أهْلِ مَعْصِيَتِهِ الَّذِينَ خالَفُوا الإيمانَ، ولَمْ يُقِرُّوا بِهِ. فَلَمّا نَزَلَ الجِهادُ كَرِهَ ذَلِكَ ناسٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وشَقَّ عَلَيْهِمْ أمْرُهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢]» وقِيلَ: كانَ المُسْلِمُونَ يَقُولُونَ: لَوْ نَعْلَمُ أيَّ الأعْمالِ أحَبَّ إلى اللَّهِ لَأتَيْناهُ، ولَوْ ذَهَبَتْ فِيهِ أنْفُسُنا وأمْوالُنا، فَلَمّا كانَ يَوْمُ أُحُدٍ، تَوَلَّوْا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، حَتّى شُجَّ وكُسِرَتْ رَباعِيَّتُهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢] رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُقاتِلِ بْنِ حَيّانَ. وقِيلَ: نَزَلَ هَذا تَوْبِيخًا لِقَوْمٍ مِنَ المُنافِقِينَ كانُوا يَعِدُونَ المُؤْمِنِينَ النَّصْرَ وهم كاذِبُونَ. يَقُولُونَ: لَوْ خَرَجْتُمْ خَرَجْنا مَعَكُمْ، وكُنّا في نَصْرِكُمْ، وفي وفي...... رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ. وكُلُّ المَرْوِيِّ هُنا ما تَشْمَلُهُ الآيَةُ. وقَدْ رَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ قالَ: «تَذاكَرْنا أيُّكم يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَيَسْألُهُ: أيُّ الأعْمالِ أحَبُّ إلى اللَّهِ؟ فَلَمْ يَقُمْ مِنّا أحَدٌ، فَأرْسَلَ إلَيْنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَجُلًا فَجَمَعَنا فَقَرَأ عَلَيْنا هَذِهِ السُّورَةَ -يَعْنِي سُورَةَ الصَّفِّ- كُلَّها». ولَفْظُ ابْنِ أبِي حاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ «أنَّ ناسًا مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالُوا: لَوْ أرْسَلْنا إلى رَسُولِ اللَّهِ نَسْألُهُ عَنْ ذَلِكَ. قالَ: فَدَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أُولَئِكَ النَّفَرَ رَجُلًا رَجُلًا، حَتّى جَمَعَهُمْ، ونَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ السُّورَةُ -الصَّفُّ- قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: فَقَرَأها عَلَيْنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كُلَّها». وفِي رِوايَةِ ابْنِ أبِي حاتِمٍ هَذِهِ فائِدَةٌ جَلِيلَةٌ: وهي أنَّ قَوْلَ الصَّحابِيِّ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، بِمَعْنى قُرِئَتْ في الحادِثَةِ، كَما بَيَّنَتْهُ الرِّوايَةُ قَبْلَهُ. والرِّواياتُ يُفَسِّرُ بَعْضُها بَعْضًا. وقَدْ نَبَّهْنا عَلى ذَلِكَ مِرارًا. الثّالِثُ: في "الإكْلِيلِ" في قَوْلِهِ: ﴿كَأنَّهم بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ﴾ اسْتِحْبابُ قِيامِ المُجاهِدِينَ في القِتالِ صُفُوفًا كَصُفُوفِ الصَّلاةِ، وأنَّهُ يُسْتَحَبُّ سَدُّ الفُرَجِ والخَلَلِ في الصُّفُوفِ، (p-٥٧٨٦)وإتْمامُ صَفِّ الأوَّلِ فالأوَّلِ، وتَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ قَدَمًا بِقَدَمٍ، لا يَتَقَدَّمُ بَعْضٌ عَلى بَعْضٍ فِيها. قالَ ابْنُ أبِي الفَرَسِ: واسْتُدِلَّ بِها عَلى أنَّ قِتالَ الرَّجّالَةِ أفْضَلُ مِن قِتالِ الفُرْسانِ؛ لِأنَّ التَّراصَّ إنَّما يُمْكِنُ مِنهم. قالَ: وهو مَمْنُوعٌ. انْتَهى. وفِي التَّشْبِيهِ وجْهانِ آخَرانِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ المُرادُ الثَّباتَ ورُسُوخَ الأقْدامِ في المَوْقِفِ، تَنْبِيهًا عَلى أنَّ المُتَزَلْزِلَ القَدَمُ، والمُضْطَرِبَ في المَوْقِفِ: دَعْ مَن يَعْزِمُ عَلى الفِرارِ مِمَّنْ يَمْقُتُهُ اللَّهُ تَعالى، ولا تَنالُهُ مَحَبَّتُهُ. ثانِيهِما: أنْ يَكُونَ المَعْنِيُّ بِهِ اجْتِماعَ الكَلِمَةِ، والِاتِّفاقَ عَلى تَسْوِيَةِ الشَّأْنِ مَعَ العَدُوِّ، حَتّى يَكُونُوا في الِاتِّحادِ ومُوالاةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كالبُنْيانِ المَرْصُوصِ. وقَدْ أشارَ لِهَذَيْنَ الوَجْهَيْنِ الرّازَّيُّ. وهُما أقْرَبُ مِنَ الأوَّلِ، لِتَقْوِيَتِهِما لِمَعْنى طَلِيعَةِ السُّورَةِ، مِنَ الثَّباتِ عَلى الوَعْدِ والوَفاءِ بِهِ، والعَتَبِ عَلى مَن يُخْلِفُ فِيهِ، كَما تَقَدَّمَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب