الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٢ - ٣] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٣] ﴿لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ قالَ القاشانِيُّ: مِن لَوازِمِ الإيمانِ الحَقِيقِيِّ الصِّدْقُ وثَباتُ العَزِيمَةِ؛ إذْ خُلُوصُ الفِطْرَةِ عَنْ شَوائِبِ النَّشْأةِ يَقْتَضِيهِما. وقَوْلُهُ: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٣] يَحْتَمِلُ الكَذِبَ، وخُلْفَ الوَعْدِ. فَمَنِ ادَّعى الإيمانَ وجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِنابُ عَنْهُما بِحُكْمِ الإيمانِ، وإلّا فَلا حَقِيقَةَ لِإيمانِهِ؛ ولِهَذا قالَ: " ما لا تَفْعَلُونَ " لِأنَّ الكَذِبَ يُنافِي المُرُوءَةَ الَّتِي هي مِن مَبادِئِ الإيمانِ، فَضْلًا عَنْ كَمالِهِ؛ إذِ الإيمانُ الأصْلِيُّ هو الرُّجُوعُ إلى الفِطْرَةِ الأُولى والدِّينِ القَيِّمِ. وهي تَسْتَلْزِمُ أجْناسَ الفَضائِلِ بِجَمِيعِ أنْواعِها، الَّتِي أقَلُّ دَرَجاتِها العِفَّةُ المُقْتَضِيَةُ لِلْمُرُوءَةِ، والكاذِبُ لا مُرُوءَةَ لَهُ، فَلا إيمانَ لَهُ حَقِيقَةً. وإنَّما قُلْنا: لا مُرُوءَةَ لَهُ؛ لِأنَّ النُّطْقَ هو الإخْبارُ المُفِيدُ لِلْغَيْرِ مَعْنًى، المَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ. والإنْسانُ خاصَّتُهُ الَّتِي تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ، هي النُّطْقُ، فَإذا لَمْ يُطابِقِ الإخْبارَ، لَمْ تَحْصُلْ فائِدَةُ النُّطْقِ، فَخَرَجَ صاحِبُهُ عَنِ الإنْسانِيَّةِ، وقَدْ أفادَ ما لَمْ يُطابِقْ مِنَ اعْتِقادِ وُقُوعِ غَيْرِ الواقِعِ، فَدَخَلَ في حَدِّ الشَّيْطَنَةِ، فاسْتَحَقَّ المَقْتَ الكَبِيرَ عِنْدَ اللَّهِ، (p-٥٧٨٢)بِإضاعَةِ اسْتِعْدادِهِ، واكْتِسابِ ما يُنافِيهِ مِن أضْدادِهِ. وكَذا الخُلْفُ؛ لِأنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الكَذِبِ، ولِأنَّ صِدْقَ العَزْمِ وثَباتَهُ مِن لَوازِمِ الشَّجاعَةِ الَّتِي هي إحْدى الفَضائِلِ اللّازِمَةِ لِسَلامَةِ الفِطْرَةِ، وأوَّلُ دَرَجاتِها، فَإذا انْتَفَتِ انْتَفى الإيمانُ الأصْلِيُّ بِانْتِفاءِ مَلْزُومِهِ، فَثَبَتَ المَقْتُ مِنَ اللَّهِ. انْتَهى. لَطِيفَةٌ: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذا مِن أفْصَحِ الكَلامِ وأبْلَغِهِ في مَعْناهُ، قَصَدَ في (كَبُرَ) التَّعَجُّبَ مِن غَيْرِ لَفْظِهِ. ومَعْنى التَّعَجُّبِ تَعْظِيمُ الأمْرِ في قُلُوبِ السّامِعِينَ. وأسْنَدَ إلى (أنْ تَقُولُوا)، ونَصَبَ (مَقْتًا) عَلى تَفْسِيرِهِ، دَلالَةً عَلى أنَّ قَوْلَهم ما لا يَفْعَلُونَ مَقْتٌ خالِصٌ، لا شَوْبَ فِيهِ، لِفَرْطِ تَمَكُّنِ المَقْتِ مِنهُ. واخْتِيرَ لَفْظُ (المَقْتِ)؛ لِأنَّهُ أشَدُّ البُغْضِ وأبْلَغُهُ، ولَمْ يَقْتَصِرْ عَلى أنْ جَعَلَ البُغْضَ كَبِيرًا، حَتّى جُعِلَ أشُدَّهُ وأفْحَشَهُ. و(عِنْدَ اللَّهِ) أبْلَغُ مِن ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ إذا ثَبَتَ كِبَرُ مَقْتِهِ عِنْدَ اللَّهِ، فَقَدْ تَمَّ كِبَرُهُ وشِدَّتُهُ. قالَ النّاصِرُ: وزائِدٌ عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ الأرْبَعَةِ وجْهٌ خامِسٌ، وهو تَكْرارٌ لِقَوْلِهِ: " ما لا تَفْعَلُونَ " وهو لَفْظٌ واحِدٌ، في كَلامٍ واحِدٍ. ومِن فَوائِدِ التَّكْرارِ التَّهْوِيلُ والإعْظامُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب