الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١٢] ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا جاءَكَ المُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنِينَ ولا يَقْتُلْنَ أوْلادَهُنَّ ولا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أيْدِيهِنَّ وأرْجُلِهِنَّ ولا يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ واسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا جاءَكَ المُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ولا يَسْرِقْنَ﴾ قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أيْ: أمْوالَ النّاسِ الأجانِبِ، فَأمّا إذا كانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا في نَفَقَتِها، فَلَها أنْ تَأْكُلَ مِن مالِهِ بِالمَعْرُوفِ، ما جَرَتْ بِهِ عادَةُ أمْثالِها، وإنْ كانَ مِن غَيْرِ عِلْمِهِ، عَمَلًا بِحَدِيثِ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ أنَّها قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ! إنَّ أبا سُفْيانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ ما يَكْفِينِي ويَكْفِي بُنَيَّ، فَهَلْ عَلَيَّ جَناحٌ إنْ أخَذْتُ مِن مالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ؟ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ: ««خُذِي مِن مالِهِ بِالمَعْرُوفِ ما يَكْفِيكِ ويَكْفِي بَنِيكِ»» أخْرَجاهُ في "الصَّحِيحَيْنِ" ﴿ولا يَزْنِينَ ولا يَقْتُلْنَ أوْلادَهُنَّ﴾ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُرِيدُ وأْدَ البَناتِ. وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذا يَشْمَلُ قَتْلَهُ بَعْدَ وُجُودِهِ، كَما كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَقْتُلُونَ أوْلادَهم خَشْيَةَ إمْلاقٍ، ويَعُمُّ قَتْلَهُ وهو جَنِينٌ، كَما قَدْ يَفْعَلُهُ بَعْضُ الجاهِلاتِ مِنَ النِّساءِ، تَطْرَحُ نَفْسَها؛ لِئَلّا تَحْبَلَ، إمّا لِغَرَضٍ فاسِدٍ أوْ ما أشْبَهَهُ. (p-٥٧٧٥)﴿ولا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أيْدِيهِنَّ وأرْجُلِهِنَّ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أيْ: لا يُلْحِقْنَ بِأزْواجِهِنَّ غَيْرَ أوْلادِهِمْ. وأوْضَحَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: كانَتِ المَرْأةُ تَلْتَقِطُ المَوْلُودَ فَتَقُولُ لِزَوْجِها: هو ولَدِي مِنكَ. كُنِّيَ بِالبُهْتانِ المُفْتَرى بَيْنَ يَدَيْها ورِجْلَيْها عَنِ الوَلَدِ الَّذِي تُلْصِقُهُ بِزَوْجِها كَذِبًا؛ لِأنَّ بَطْنَها الَّذِي تَحْمِلُهُ فِيهِ بَيْنَ اليَدَيْنِ وفَرْجِها الَّذِي تَلِدُهُ بِهِ بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ، فَهو غَيْرُ الزِّنا، فَلا تَكْرارَ فِيهِ. وقالَ الشِّهابُ: في "شَرْحِ البُخارِيِّ " لِلْكَرْمانِيِّ مَعْناهُ: لا تَأْتُوا بِبُهْتانٍ مِن قِبَلِ أنْفُسِكم. واليَدُ والرِّجْلُ كِنايَةٌ عَنِ الذّاتِ؛ لِأنَّ مُعْظَمَ الأفْعالِ بِهِما، ولِذا قِيلَ لِلْمُعاقَبِ بِجِنايَةٍ قَوْلِيَّةٍ: هَذا ما كَسَبَتْ يَداكَ. أوْ مَعْناهُ: لا تُنْشِئُوهُ مِن ضَمائِرِكم وقُلُوبِكُمْ؛ لِأنَّهُ مِنَ القَلْبِ الَّذِي مَقَرُّهُ بَيْنَ الأيْدِي والأرْجُلِ. والأوَّلُ كِنايَةٌ عَنْ إلْقاءِ البُهْتانِ مِن تِلْقاءِ أنْفُسِهِمْ، والثّانِي عَنْ كَوْنِهِ مِن دَخِيلَةِ قُلُوبِهِمُ المَبْنِيَّةِ عَنِ الخُبْثِ الباطِنِيِّ. وقالَ الخَطّابِيُّ: مَعْناهُ لا تَبْهَتُوا النّاسَ كِفاحًا ومُواجَهَةً، كَما يُقالُ لِلْآمِرِ بِحَضْرَتِكَ: إنَّهُ بَيْنَ يَدَيْكَ. ورُدَّ بِأنَّهُمْ، وإنْ كَنَّوْا عَنِ الحاضِرِ بِكَوْنِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يُقالُ: بَيْنَ أرْجُلِهِ وهو وارِدٌ لَوْ ذُكِرَتِ الأرْجُلُ وحْدَها، أمّا مَعَ الأيْدِي تَبَعًا فَلا. فالمُخْطِئُ مُخْطِئٌ وهو كِنايَةٌ عَنْ خَرْقِ جِلْبابِ الحَياءِ، والمُرادُ: النَّهْيُ عَنِ القَذْفِ، ويَدْخُلُ فِيهِ الكَذِبُ والغِيبَةُ. انْتَهى. ﴿ولا يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ﴾ أيْ: مِن أمْرِ اللَّهِ تَأْمُرُهُنَّ بِهِ. قالَ في "النِّهايَةِ": المَعْرُوفُ اسْمٌ جامِعٌ لِكُلِّ ما عُرِفَ مِن طاعَةِ اللَّهِ، والإحْسانِ إلى النّاسِ، وكُلُّ ما أمَرَ بِهِ الشَّرْعُ، ونَهى عَنْهُ. ﴿فَبايِعْهُنَّ واسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أيْ: فَبايِعْهُنَّ عَلى الوَفاءِ بِذَلِكَ، وسَلِ اللَّهَ لَهُنَّ مَغْفِرَةَ ذُنُوبِهِنَّ، والعَفْوَ عَنْها، فَإنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَن تابَ مِنها. (p-٥٧٧٦)تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ: رَوى البُخارِيُّ «عَنْ عائِشَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «كانَ يَمْتَحِنُ مَن هاجَرَ إلَيْهِ مِنَ المُؤْمِناتِ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَمَن أقَرَّ بِهَذا الشَّرْطِ مِنَ المُؤْمِناتِ، قالَ لَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قَدْ بايَعْتُكِ» كَلامًا، ولا واللَّهِ ما مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأةٍ قَطُّ في المُبايَعَةِ، ما يُبايِعُهُنَّ إلّا بِقَوْلِهِ: «قَدْ بايَعْتُكِ عَلى ذَلِكِ»» . قالَ ابْنُ حَجَرٍ: أيْ: لا مُصافَحَةَ بِاليَدِ، كَما جَرَتِ العادَةُ بِمُصافَحَةِ الرِّجالِ عِنْدَ المُبايَعَةِ. ثُمَّ قالَ: ورَوى النَّسائِيُّ والطَّبَرِيُّ «أنَّ أُمَيْمَةَ بِنْتَ رُقَيْقَةَ أخْبَرَتْهُ أنَّها دَخَلَتْ في نِسْوَةٍ تُبايِعُ. فَقُلْنَ: يا رَسُولَ اللَّهِ! ابْسُطْ يَدَكَ نُصافِحْكَ. فَقالَ: «إنِّي لا أُصافِحُ النِّساءَ، ولَكِنْ سَآخُذُ عَلَيْكُنَّ» فَأخَذَ عَلَيْنا حَتّى بَلَغَ: ﴿ولا يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ﴾ فَقالَ: «فِيما أطَقْتُنَّ واسْتَطَعْتُنَّ» فَقُلْنَ: اللَّهُ ورَسُولُهُ أرْحَمُ بِنا مِن أنْفُسِنا» -وفِي رِوايَةِ الطَّبَرِيِّ: «ما قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأةٍ إلّا كَقَوْلِي لِامْرَأةٍ واحِدَةٍ-» وقَدْ جاءَ في أخْبارٍ أُخْرى أنَّهُنَّ كُنْ يَأْخُذْنَ بِيَدِهِ عِنْدَ المُبايَعَةِ مِن فَوْقِ ثَوْبٍ -أخْرَجَهُ يَحْيى بْنُ سَلّامٍ في تَفْسِيرِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ. وفِي "المَغازِي" لِابْنِ إسْحاقَ عَنْ أبانَ بْنِ صالِحٍ أنَّهُ كانَ يَغْمِسُ يَدَهُ في إناءٍ، فَيَغْمِسْنَ أيْدِيَهُنَّ فِيهِ. انْتَهى. والمُعَوَّلُ عَلى رِوايَةِ البُخارِيِّ الأُولى لِصِحَّتِها، وضَعْفِ ما عَداها. الثّانِي: رَوى مُسْلِمٌ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قالَتْ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿ولا يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ﴾ كانَ مِنهُ النِّياحَةُ. (p-٥٧٧٧)ولَفْظُ البُخارِيِّ عَنْها قالَتْ: «بايَعْنا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «فَقَرَأ عَلَيْنا: ﴿أنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا﴾ ونَهانا عَنِ النِّياحَةِ»» . وأخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدِهِ إلى امْرَأةٍ مِنَ المُبايِعاتِ قالَتْ: ««كانَ فِيما أخَذَ عَلَيْنا أنْ لا نَعْصِيَهُ في شَيْءٍ مِنَ المَعْرُوفِ، ولا نَخْمِشَ وجْهًا، ولا نَنْشُرَ شَعْرًا، ولا نَشُقَّ جَيْبًا، ولا نَدْعُوَ ويْلًا»» . وعَنْ قَتادَةَ قالَ: ذُكِرَ لَنا «أنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ أخَذَ عَلَيْهِنَّ يَوْمَئِذَ أنْ لا يَنُحْنَ، ولا يُحَدِّثْنَ الرِّجالَ إلّا رَجُلًا مِنكُنَّ مُحَرَّمًا. فَقالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: يا نَبِيَّ اللَّهِ! إنَّ لَنا أضْيافًا وإنّا نَغِيبُ عَنْ نِسائِنا؟ فَقالَ: «لَيْسَ أُولَئِكَ عَنَيْتُ»» . الثّالِثُ: قالَ الكَيا الهَرّاسِيُّ: يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ﴾ أنَّهُ لا طاعَةَ لِأحَدٍ في غَيْرِ المَعْرُوفِ. قالَ: وأمْرُ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ يَكُنْ إلّا بِمَعْرُوفٍ، وإنَّما شَرْطُهُ في الطّاعَةِ؛ لِئَلّا يُرَخِّصَ أحَدٌ في طاعَةِ السَّلاطِينِ. وأصْلُهُ مِمّا أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ، قالَ في هَذِهِ الآيَةِ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَبِيَّهُ وخِيرَتَهُ مِن خَلْقِهِ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَحِلَّ لَهُ أمْرٌ إلّا بِشَرْطٍ، لَمْ يَقُلْ: ﴿ولا يَعْصِينَكَ﴾ ويَتْرُكُ حَتّى قالَ: ﴿فِي مَعْرُوفٍ﴾ فَكَيْفَ يَنْبَغِي لِأحَدِ أنَّ يُطاعَ في غَيْرِ مَعْرُوفٍ، وقَدِ اشْتَرَطَ اللَّهُ هَذا عَلى نَبِيِّهِ؟ ثُمَّ نَبَّهَ تَعالى في آخِرِ السُّورَةِ بِما نَبَّهَ بِهِ في فاتِحَتِها، مِنَ النَّهْيِ عَنْ مُوالاةِ مُحارِبِي الدِّينِ، تَحْذِيرًا مِنَ التَّهاوُنِ في ذَلِكَ، وزِيادَةَ اعْتِناءٍ بِهِ، فَقالَ سُبْحانَهُ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب