الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٩٥] ﴿إنَّ اللَّهَ فالِقُ الحَبِّ والنَّوى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ومُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأنّى تُؤْفَكُونَ﴾
﴿إنَّ اللَّهَ فالِقُ الحَبِّ والنَّوى﴾ شُرُوعٌ في بَعْضِ مُبْدَعاتِهِ الدّالَّةِ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ، وعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ، إثْرَ تَقْرِيرِ شَأْنِ تَوْحِيدِهِ تَعالى، وذَلِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ المَقْصُودَ الأعْظَمَ هو مَعْرِفَتُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِجَمِيعِ صِفاتِهِ وأفْعالِهِ، وأنَّهُ مُبْدِعُ الأشْياءِ وخالِقُها. ومَن كانَ كَذَلِكَ كانَ هو المُسْتَحِقَّ لِلْعِبادَةِ، لا هَذِهِ الأصْنامُ الَّتِي كانُوا يَعْبُدُونَها، ولِتَعْرِيفِ خَطَئِهِمْ في الإشْراكِ الَّذِي كانُوا عَلَيْهِ. والمَعْنى: أنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ دُونَ غَيْرِهِ، هو اللَّهُ الَّذِي فَلَقَ الحَبَّ عَنِ النَّباتِ، والنَّواةَ عَنِ النَّخْلَةِ.
وفِي مَعْنى (فالِقُ) قَوْلانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ بِمَعْنى خالِقٍ. وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ في رِوايَةِ العَوْفِيِّ عَنْهُ. وبِهِ قالَ الضَّحّاكُ ومُقاتِلٌ. قالَ الواحِدِيُّ: ذَهَبُوا بِ (فالِقُ) مَذْهَبَ (فاطِرٍ). وأنْكَرَ الطَّبَرِيُّ هَذا، وقالَ: لا يُعْرَفُ في كَلامِ العَرَبِ (فَلَقَ اللَّهُ الشَّيْءَ)، بِمَعْنى خَلَقَ. ونَقَلَ الأزْهَرِيُّ عَنِ الزَّجّاجِ جَوازَهُ. وكَذا المَجْدُ في القامُوسِ.
قالَ الرّازِيُّ: (الفَطْرُ) هو الشَّقُّ، وكَذَلِكَ (الفَلَقُ). فالشَّيْءُ قَبْلَ أنْ دَخَلَ في الوُجُودِ كانَ مَعْدُومًا مَحْضًا، ونَفَيًا صِرْفًا. والعَقْلُ يَتَصَوَّرُ مِنَ العَدَمِ ظُلْمَةً مُتَّصِلَةً لا انْفِراجَ فِيها، (p-٢٤٢١)ولا انْفِلاقَ، ولا انْشِقاقَ. فَإذا أخْرَجَهُ المُبْدِعُ المَوْجُودُ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ، فَكَأنَّهُ بِحَسْبِ التَّخَيُّلِ والتَّوَهُّمِ شَقَّ ذَلِكَ العَدَمَ وفَلَقَهُ. وأخْرَجَ الحَدَثَ مِن ذَلِكَ الشِّقِّ. فَهَذا التَّأْوِيلُ لا يُبْعِدُ حَمْلَ الفالِقِ عَلى المُوجِدِ والمُبْدِعِ.
والقَوْلُ الثّانِي: وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ: أنَّ الفَلْقَ هو الشَّقُّ. وفي مَعْناهُ وجْهانِ:
أحَدُهُما: مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: فَلَقَ الحَبَّةَ عَنِ السُّنْبُلَةِ، والنَّواةَ عَنِ النَّخْلَةِ. وهو قَوْلُ الحَسَنِ والسُّدِّيِّ وابْنِ زَيْدٍ. قالَ الزَّجّاجُ: يَشُقُّ الحَبَّةَ اليابِسَةَ، والنَّواةَ عَنِ اليابِسَةِ، فَيُخْرِجُ مِنها ورَقًا أخْضَرَ.
الوَجْهُ الثّانِي: وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ: أنَّهُ الشِّقّانِ اللَّذانِ في الحَبِّ والنَّوى.
وضُعِّفَ بِأنَّهُ لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى كَمالِ القُدْرَةِ.
و(الحَبُّ): ما لَيْسَ لَهُ نَوًى، كالحِنْطَةِ والشَّعِيرِ والأُرْزِ.
و(النَّوى): جَمْعُ نَواةٍ، وهو المَوْجُودُ في داخِلِ الثَّمَرَةِ، مِثْلَ نَوى التَّمْرِ والخَوْخِ وغَيْرِهِما.
قالَ الإمامُ الرّازِيُّ: إذا عَرَفْتَ ذَلِكَ، فَنَقُولُ: إنَّهُ إذا وقَعَتِ الحَبَّةُ أوِ النَّواةُ في الأرْضِ الرَّطْبَةِ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ قَدْرٌ مِنَ المُدَّةِ، أظْهَرَ اللَّهُ تَعالى في تِلْكَ الحَبَّةِ والنَّواةِ مِن أعْلاها شَقًّا، ومِن أسْفَلِها شَقًّا آخَرَ، فالأوَّلُ يَخْرُجُ مِنهُ الشَّجَرَةُ الصّاعِدَةُ إلى الهَواءِ والثّانِي يَخْرُجُ مِنهُ الشَّجَرَةُ الهابِطَةُ في الأرْضِ، المُسَمّاةُ بِعُرُوقِ الشَّجَرَةِ. وتَصِيرُ تِلْكَ الحَبَّةُ والنَّواةُ سَبَبًا لِاتِّصالِ الشَّجَرَةِ الصّاعِدَةِ في الهَواءِ بِالشَّجَرَةِ الهابِطَةِ في الأرْضِ. ثُمَّ إنَّ هَهُنا.
عَجائِبَ:
فَإحْداها - أنَّ طَبِيعَةَ الشَّجَرَةِ، إنْ كانَتْ تَقْتَضِي الهَوِيَّ في عُمْقِ الأرْضِ، فَكَيْفَ تَوَلَّدَتْ مِنها الشَّجَرَةُ الصّاعِدَةُ في الهَواءِ؟ وإنْ كانَتْ تَقْتَضِي الصُّعُودَ في الهَواءِ، فَكَيْفَ تَوَلَّدَتْ مِنها الشَّجَرَةُ الهابِطَةُ في الأرْضِ؟ فَلَمّا تَوَلَّدَ مِنها الشَّجَرَتانِ، مَعَ أنَّ الحِسَّ والعَقْلَ (p-٢٤٢٢)يَشْهَدُ بِكَوْنِ طَبِيعَةِ إحْدى الشَّجَرَتَيْنِ مُضادَّةً لِطَبِيعَةِ الشَّجَرَةِ الأُخْرى - عَلِمْنا أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُقْتَضى الطَّبْعِ والخاصِّيَّةِ، بَلْ بِمُقْتَضى الإيجادِ والإبْداعِ والتَّكْوِينِ والِاخْتِراعِ.
وثانِيها: أنَّ باطِنَ الأرْضِ جِرْمٌ كَثِيفٌ صُلْبٌ، لا تَنْفُذُ المِسَلَّةُ القَوِيَّةُ فِيهِ، ولا يَغُوصُ السِّكِّينُ الحادُّ القَوِيُّ فِيهِ. ثُمَّ إنّا نُشاهِدُ أطْرافَ تِلْكَ العُرُوقِ في غايَةِ الدِّقَّةِ واللَّطافَةِ بِحَيْثُ لَوْ دَلَكَها الإنْسانُ بِإصْبَعِهِ بِأدْنى قُوَّةٍ، لَصارَتْ كالماءِ، ثُمَّ إنَّها مَعَ غايَةِ اللَّطافَةِ تَقْوى عَلى النُّفُوذِ في تِلْكَ الأرْضِ الصُّلْبَةِ، والغَوْصِ في بَواطِنِ تِلْكَ الأجْرامِ الكَثِيفَةِ. فَحُصُولُ هَذِهِ القُوى الشَّدِيدَةِ، لِهَذِهِ الأجْرامِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي هي في غايَةِ اللَّطافَةِ، لابُدَّ وأنْ يَكُونَ بِتَقْدِيرِ العَزِيزِ الحَكِيمِ.
وثالِثُها: أنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِن تِلْكَ النَّواةِ شَجَرَةٌ، ويَحْصُلُ في تِلْكَ الشَّجَرَةِ طَبائِعُ مُخْتَلِفَةٌ، فَإنَّ قِشْرَ الخَشَبَةِ لَهُ طَبِيعَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وفي داخِلِ ذَلِكَ القِشْرِ جِرْمُ الخَشَبَةِ، وفي تِلْكَ الخَشَبَةِ جِسْمٌ رَخْوٌ ضَعِيفٌ يُشْبِهُ العِهْنَ المَنفُوشَ. ثُمَّ إنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِن ساقِ الشَّجَرَةِ أغْصانُها، ويَتَوَلَّدُ عَلى الأغْصانِ الأوْراقُ أوَّلًا، ثُمَّ الأزْهارُ والأنْوارُ ثانِيًا، ثُمَّ الفاكِهَةُ ثالِثًا. ثُمَّ قَدْ يَحْصُلُ لِلْفاكِهَةِ أرْبَعَةُ أنْواعٍ مِنَ القِشْرِ: مِثْلَ الجَوْزِ، فَإنَّ قِشْرَهُ الأعْلى هو ذَلِكَ الأخْضَرُ، وتَحْتَهُ ذَلِكَ القِشْرُ الَّذِي يُشْبِهُ الخَشَبَ، وتَحْتَهُ ذَلِكَ القِشْرُ الَّذِي هو كالغِشاءِ الرَّقِيقِ المُحِيطِ بِاللُّبِّ، وتَحْتَهُ ذَلِكَ اللُّبُّ وذَلِكَ اللُّبُّ مُشْتَمِلٌ عَلى جِرْمٍ كَثِيفٍ، وهو أيْضًا كالقِشْرِ، وعَلى جِرْمٍ لَطِيفٍ، وهو الدُّهْنُ. وهو المَقْصُودُ الأصْلِيُّ. فَتُولَدُ هَذِهِ الأجْسامُ المُخْتَلِفَةُ في طَبائِعِها وصِفاتِها وألْوانِها وأشْكالِها وطَعُومِها، مَعَ تَساوِي تَأْثِيراتِ الطَّبائِعِ والنُّجُومِ والفُصُولِ الأرْبَعَةِ، والطَّبائِعُ الأرْبَعُ - يَدُلُّ عَلى أنَّها إنَّما حَدَثَتْ بِتَدْبِيرِ الحَكِيمِ الرَّحِيمِ المُخْتارِ القادِرِ، لا بِتَدْبِيرِ الطَّبائِعِ والعَناصِرِ.
ورابِعُها: أنَّكَ قَدْ تَجِدُ الطَّبائِعَ الأرْبَعَ حاصِلَةً في الفاكِهَةِ الواحِدَةِ، فالأُتْرُنْجُ: قِشْرُهُ حارٌّ يابِسٌ، ولَحْمُهُ بارِدٌ رَطْبٌ، وحُماضُهُ بارِدٌ يابِسٌ، وبِزْرُهُ حارٌّ يابِسٌ. وكَذَلِكَ العِنَبُ: قِشْرُهُ (p-٢٤٢٣)وعَجَمُهُ بارِدٌ يابِسٌ، وماؤُهُ ولَحْمُهُ حارٌّ رَطْبٌ. فَتَوَلُّدُ هَذِهِ الطَّبائِعِ المُتَضادَّةِ، والخَواصِّ المُتَنافِرَةِ عَنِ الحَبَّةِ الواحِدَةِ - لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ بِإيجادِ الفاعِلِ المُخْتارِ.
وخامِسُها: أنَّكَ تَجِدُ الفَواكِهَ مُخْتَلِفَةً، فَبَعْضُها يَكُونُ اللُّبُّ في الدّاخِلِ، والقِشْرَةُ في الخارِجِ، كَما في الجَوْزِ واللَّوْزِ. وبَعْضُها يَكُونُ الفاكِهَةُ المَطْلُوبَةُ في الخارِجِ، وتَكُونُ الخَشَبَةُ في الدّاخِلِ، كالخَوْخِ والمِشْمِشِ. وبَعْضُها يَكُونُ النَّواةُ لَها لُبٌّ، كَما في نَوى المِشْمِشِ والخَوْخِ. وبَعْضُها لا لُبَّ لَهُ، كَما في نَوى التَّمْرِ. وبَعْضُ الفَواكِهِ لا يَكُونُ لَهُ مِنَ الدّاخِلِ والخارِجِ قِشْرٌ، بَلْ يَكُونُ كُلُّهُ مَطْلُوبًا، كالتِّينِ. فَهَذِهِ أحْوالٌ مُخْتَلِفَةٌ في هَذِهِ الفَواكِهِ. وأيْضًا هَذِهِ الحُبُوبُ مُخْتَلِفَةٌ في الأشْكالِ والصُّوَرِ، فَشَكْلُ الحِنْطَةِ كَأنَّهُ نِصْفُ دائِرَةٍ، وشَكْلُ الشَّعِيرِ كَأنَّهُ مَخْرُوطانِ اتَّصَلا بِقاعِدَتِهِما، وشَكْلُ العَدَسِ كَأنَّهُ دائِرَةٌ، وشَكْلُ الحِمَّصِ عَلى وجْهٍ آخَرَ. فَهَذِهِ الأشْكالُ المُخْتَلِفَةُ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ لِأسْرارٍ وحِكَمٍ، عَلِمَ الخالِقُ أنَّ تَرْكِيبَها لا يَكْمُلُ إلّا عَلى ذَلِكَ الشَّكْلِ. وأيْضًا فَقَدْ أوْدَعَ الخالِقُ تَعالى في كُلِّ نَوْعٍ مِن أنْواعِ الحُبُوبِ خاصِّيَّةً أُخْرى. ومَنفَعَةً أُخْرى. وأيْضًا تَكُونُ الثَّمَرَةُ الواحِدَةُ غِذاءً لِحَيَوانٍ، وسُمًّا لِحَيَوانٍ آخَرَ، فاخْتِلافُ هَذِهِ الصِّفاتِ والأشْكالِ والأحْوالِ، مَعَ اتِّحادِ الطَّبائِعِ، وتَأْثِيراتِ الكَواكِبِ، يَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّها إنَّما حَصَلَتْ بِتَخْلِيقِ الفاعِلِ المُخْتارِ الحَكِيمِ.
وسادِسُها: أنَّكَ إذا أخَذْتَ ورَقَةً واحِدَةً مِن أوْراقِ الشَّجَرَةِ، وجَدْتَ خَطًّا واحِدًا مُسْتَقِيمًا في وسَطِها، كَأنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلى تِلْكَ الوَرَقَةِ كالنُّخاعِ بِالنِّسْبَةِ إلى بَدَنِ الإنْسانِ. وكَما أنَّهُ يَنْفَصِلُ مِنَ النُّخاعِ أعْصابٌ كَثِيرَةٌ، يُمْنَةً ويُسْرَةً، في بَدَنِ الإنْسانِ، ثُمَّ لا يَزالُ يَنْفَصِلُ عَنْ كُلِّ شُعْبَةٍ شُعَبٌ أُخَرُ ولا تَزالُ تَسْتَدِقُّ حَتّى تَخْرُجَ عَنِ الحِسِّ والأبْصارِ، بِسَبَبِ الصِّغَرِ - فَكَذَلِكَ في تِلْكَ الوَرَقَةِ قَدْ يَنْفَصِلُ عَنْ ذَلِكَ الخَطِّ الكَبِيرِ الوَسْطانِيِّ خُطُوطٌ مُنْفَصِلَةٌ، وعَنْ كُلِّ واحِدٍ مِنها خُطُوطٌ مُخْتَلِفَةٌ أُخْرى أدَقُّ مِنَ الأُولى، ولا يَزالُ يَبْقى عَلى هَذا المَنهَجِ، حَتّى تَخْرُجَ تِلْكَ الخُطُوطُ عَنِ الحِسِّ والبَصَرِ. الخالِقُ تَعالى إنَّما فَعَلَ ذَلِكَ، حَتّى أنَّ القُوى الجاذِبَةَ (p-٢٤٢٤)المَرْكُوزَةَ في جِرْمِ تِلْكَ الوَرَقَةِ، تَقْوى عَلى جَذْبِ الأجْزاءِ اللَّطِيفَةِ الأرْضِيَّةِ في تِلْكَ المَجارِي الضَّيِّقَةِ. فَلَمّا وقَفْتَ عَلى عِنايَةِ الخالِقِ في إيجادِ تِلْكَ الوَرَقَةِ الواحِدَةِ، عَمِلْتَ أنَّ عِنايَتَهُ في تَخْلِيقِ جُمْلَةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ أكْمَلُ، وعَرَفْتَ أنَّ عِنايَتَهُ في تَكْوِينِ جُمْلَةِ النَّباتِ أكْمَلُ، ثُمَّ إذا عَرَفْتَ أنَّهُ تَعالى إنَّما خَلَقَ جُمْلَةَ النَّباتِ لِمَصْلَحَةِ الحَيَوانِ، عَلِمْتَ أنَّ عِنايَتَهُ بِتَخْلِيقِ الحَيَوانِ أكْمَلُ. ولَمّا عَرَفْتَ أنَّ المَقْصُودَ مِن تَخْلِيقِ جُمْلَةِ الحَيَواناتِ هو الإنْسانُ، عَلِمْتَ أنَّ عِنايَتَهُ في تَخْلِيقِ الإنْسانِ أكْمَلُ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى خَلَقَ النَّباتَ والحَيَوانَ في هَذا العالَمِ لِيَكُونَ غَداءً ودَواءً لِلْإنْسانِ بِحَسْبِ جَسَدِهِ، والمَقْصُودُ مِن تَخْلِيقِ الإنْسانِ هو المَعْرِفَةُ والمَحَبَّةُ والخِدْمَةُ، كَما قالَ تَعالى: وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ. فانْظُرْ أيُّها المِسْكِينُ بِعَيْنِ رَأْسِكَ في تِلْكَ الوَرَقَةِ الواحِدَةِ مِن تِلْكَ الشَّجَرَةِ، واعْرِفْ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ العُرُوقِ والأوْتارِ فِيها، ثُمَّ انْتَقِلْ مِن مَرْتَبَةٍ إلى ما فَوْقَها، حَتّى تَعْرِفَ أنَّ المَقْصُودَ الأخِيرَ مِنها حُصُولُ المَعْرِفَةِ والمَحَبَّةِ في الأرْواحِ البَشَرِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَنْفَتِحُ لَكَ بابٌ مِنَ المُكاشَفاتِ لا آخَرَ لَهُ، ويَظْهَرُ لَكَ أنَّ أنْواعَ نِعَمِ اللَّهِ في حَقِّكَ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ، كَما قالَ: ﴿وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها﴾ [النحل: ١٨] وكُلُّ ذَلِكَ إنَّما ظَهَرَ مِن كَيْفِيَّةِ خِلْقَةِ تِلْكَ الوَرَقَةِ مِنَ الحَبَّةِ والنَّواةِ. فَهَذا كَلامٌ مُخْتَصَرٌ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ فالِقُ الحَبِّ والنَّوى﴾ ومَتى وقَفَ الإنْسانُ عَلَيْهِ أمْكَنَهُ تَفْرِيقُها وتَشْعِيبُها إلى ما لا آخِرَ لَهُ. ونَسْألُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ والهِدايَةَ. انْتَهى كَلامُ الرّازِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى.
﴿يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ﴾ كالحَيَوانِ مِنَ النُّطْفَةِ، والنَّباتِ الغَضِّ الطَّرِيِّ مِنَ الحَبِّ اليابِسِ ﴿ومُخْرِجُ المَيِّتِ﴾ كالنُّطْفَةِ والحَبِّ: مِنَ الحَيِّ كالحَيَوانِ والنَّباتِ.
(p-٢٤٢٥)﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ﴾ أيِ: الفالِقُ لِلْحَبِّ والنَّوى، والمُخْرِجُ الحَيِّ مِنَ المَيِّتِ وعَكْسُهُ، هو اللَّهُ، القادِرُ العَظِيمُ الشَّأْنِ، المُسْتَحِقُّ لِلْعِبادَةِ وحْدَهُ.
﴿فَأنّى تُؤْفَكُونَ﴾ أيْ: تُصْرَفُونَ عَنْهُ إلى غَيْرِهِ.
قالَ الرّازِيُّ: والمَقْصُودُ مِنهُ أنَّ الحَيَّ والمَيِّتَ مُتَضادّانِ مُتَنافِيانِ، فَحُصُولُ المَثَلِ عَنِ المَثَلِ، يُوهِمُ أنْ يَكُونَ بِسَبَبِ الطَّبِيعَةِ والخاصِّيَّةِ. أمّا حُصُولُ الضِّدِّ مِنَ الضِّدِّ فَيَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ بِسَبَبِ الطَّبِيعَةِ والخاصِّيَّةِ. بَلْ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ بِتَقْدِيرِ المُقَدِّرِ الحَكِيمِ، والمُدَبِّرِ العَلِيمِ.
تَنْبِيهٌ:
ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ ومَن تَبِعَهُ إلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ومُخْرِجُ المَيِّتِ﴾ عَطْفٌ عَلى: ﴿فالِقُ﴾ لا عَلى: ﴿يُخْرِجُ الحَيَّ﴾؛ لِأنَّهُ بَيانٌ لِفالِقِ الحَبِّ والنَّوى، وهَذا لا يَصْلُحُ لِلْبَيانِ وإنْ صَحَّ عَطْفُ الِاسْمِ المُشْتَقِّ عَلى الفِعْلِ وعَكْسُهُ، كَقَوْلِهِ: صافّاتٍ ويَقْبِضْنَ. والصَّحِيحُ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى: يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ واشْتِمالُهُ عَلى زِيادَةٍ فِيهِ، لا يَضُرُّ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ بَيانًا. كَما أنَّ: مُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ بَيانٌ مَعَ شُمُولِهِ لِلْحَيَوانِ والنَّباتِ. وفِيهِ مِنَ البَدِيعِ التَّبْدِيلُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ ويُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ﴾ [الحديد: ٦]
(p-٢٤٢٦)قالَ في "الِانْتِصافِ": وقَدْ ورَدا جَمِيعًا بِصِيغَةِ الفِعْلِ كَثِيرًا في قَوْلِهِ: ﴿يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ويُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ [الروم: ١٩] وقَوْلِهِ: ﴿أمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصارَ ومَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ﴾ [يونس: ٣١] فَعَطْفُ أحَدِ القِسْمَيْنِ عَلى الآخَرِ، كَثِيرًا دَلِيلٌ عَلى أنَّهُما تَوْأمانِ مُقْتَرِنانِ، وذَلِكَ يُبْعِدُ قَطْعَهُ عَنْهُ في آيَةِ الأنْعامِ هَذِهِ ورَّدَهُ إلى: ﴿فالِقُ الحَبِّ والنَّوى﴾ فالوَجْهُ - واللَّهُ أعْلَمُ - أنْ يُقالَ: كانَ الأصْلُ وُرُودَهُ بِصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ أُسْوَةَ أمْثالِهِ مِنَ الصِّفاتِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿فالِقُ الحَبِّ﴾ و: ﴿فالِقُ الإصْباحِ﴾ [الأنعام: ٩٦] و: ﴿وجَعَلَ اللَّيْلَ﴾ [الأنعام: ٩٦] و: ﴿ومُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ﴾ إلّا أنَّهُ عَدَلَ عَنِ اسْمِ الفاعِلِ إلى الفِعْلِ المُضارِعِ في هَذا الوَصْفِ وحْدَهُ، وهو قَوْلُهُ: ﴿يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ﴾ إرادَةً لِتَصْوِيرِ إخْراجِ الحَيِّ مِنَ المَيِّتِ، واسْتِحْضارِهِ في ذِهْنِ السّامِعِ. وهَذا التَّصْوِيرُ والِاسْتِحْضارُ إنَّما يَتَمَكَّنُ في أدائِها الفِعْلُ المُضارِعُ دُونَ اسْمِ الفاعِلِ (p-٢٤٢٧)والماضِي. وقَدْ مَضى تَمْثِيلُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أنْـزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ [الحج: ٦٣] فَعَدَلَ عَنِ الماضِي المُطابِقِ لِقَوْلِهِ: أنْزَلَ لِهَذا المَعْنى، ومِنهُ ما في قَوْلِهِ:
؎بِأنِّي قَدْ لَقِيتُ الغُولَ تَهْوِي بِسَهْبٍ كالصَّحِيفَةِ صَحْصَحانِ
؎فَأضْرِبُها بِلا دَهَشٍ ∗∗∗ فَخَرَّتْ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ ولِلْجِرانِ
(p-٢٤٢٨)فَعَدَلَ إلى المُضارِعِ إرادَةً لِتَصْوِيرِ شَجاعَتِهِ، واسْتِحْضارِها لِذِهْنِ السّامِعِ. ومِنهُ: ﴿إنّا سَخَّرْنا الجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ والإشْراقِ﴾ [ص: ١٨] ﴿والطَّيْرَ مَحْشُورَةً﴾ [ص: ١٩] فَعَدَلَ عَنْ (مُسَبِّحاتٍ) وإنْ كانَ مُطابِقًا لِ: مَحْشُورَةً لِهَذا السَّبَبِ - واللَّهُ أعْلَمُ -. ثُمَّ هَذا المَقْصِدُ إنَّما يَجِيءُ فِيما يَكُونُ العِنايَةُ بِهِ أقْوى. ولا شَكَّ أنَّ إخْراجَ الحَيِّ مِنَ المَيِّتِ أشْهَرُ في القُدْرَةِ مِن عَكْسِهِ. وهو أيْضًا أوَّلُ الحالَيْنِ، والنَّظَرُ أوَّلَ ما يَبْدَأُ فِيهِ. ثُمَّ القِسْمُ الآخَرُ وهو إخْراجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ بانَ عَنْهُ، فَكانَ الأوَّلُ جَدِيرًا بِالتَّصْدِيقِ والتَّأْكِيدِ في النَّفْسِ، ولِذَلِكَ هو مُقَدَّمٌ أبَدًا عَلى القِسْمِ الآخَرِ في الذِّكْرِ؛ حَسَبَ تَرْتِيبِهِما في الواقِعِ. وسَهَّلَ عَطْفَ الِاسْمِ عَلى الفِعْلِ وحَسَّنَهُ أنَّ اسْمَ الفاعِلِ في مَعْنى الفِعْلِ المُضارِعِ، فَكُلِّ واحِدٍ مِنهُما يُقَدَّرُ بِالآخَرِ، فَلا جُناحَ في عَطْفِهِ عَلَيْهِ - واللَّهُ أعْلَمُ - انْتَهى.
{"ayah":"۞ إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلۡحَبِّ وَٱلنَّوَىٰۖ یُخۡرِجُ ٱلۡحَیَّ مِنَ ٱلۡمَیِّتِ وَمُخۡرِجُ ٱلۡمَیِّتِ مِنَ ٱلۡحَیِّۚ ذَ ٰلِكُمُ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











